الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
فيما يعفى عنه من النجاسات
[م-542] يتفق الفقهاء على القول بالعفو في بعض أحكام النجاسة، ويختلفون في سبب هذا العفو، فبعضهم يرى أن قليل النجاسة معفو عنها بخلاف كثير النجاسة، ويستدلون على ذلك بالعفو عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد، وبعضهم يقسم النجاسة إلى مغلظة ومخففة، والمغلظة يعفى فيها عن قدر الدرهم والمخففة يعفى عنها بمقدار ربع الثوب، وهكذا، وحتى يمكن وضع ضابط تقريبي للعفو عن النجاسة يمكن لنا أن نرجع سبب العفو من حيث الجملة إلى أمور منها:
الأول: الاضطرار، وتعريف الاضطرار:«هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعًا»
(1)
، كالاضطرار إلى أكل النجاسة (الميتة)، أو الاضطرار إلى لبس الثوب النجس في الصلاة لستر العورة المغلظة، ونحو ذلك.
الثاني: مشقة الاحتراز من النجاسة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الهر إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات. فلعلة التطواف نفى عنها النجاسة.
(1)
درر الحكام شرح مجلة الحكام (1/ 34).
ويقاس على الهرة البغل والحمار والفأرة؛ لمشقة الاحتراز منها، فيعفى عن سؤرها وعرقها.
ومما يصعب الاحتراز منه العفو عما يصيب القدم من النجاسة والاكتفاء بدلكها بالتراب، حيث يتكرر مرور الناس في الطرقات، وهي لا تخلو من النجاسات التي تعلق بأقدامهم، وقد تكون هذه الطرقات موحلة.
وقد يتنجس ذيل المرأة ويتأثر بهذه النجاسات فكان يكفي في ذلك مروره على تراب طاهر بعده.
الثالث: عموم البلوى، ولذلك عفي عن أثر الاستجمار وذلك أن الاستنجاء مما تعم به البلوى، ويضطر كل أحد إليه في كل وقت وكل مكان، ولا يمكن تأخيره فلو كلف إزالته بالماء شق وتعذر ذلك في كثير من الأوقات ووقع الحرج، والاكتفاء بالاستجمار يبقى معه أثر لا يزال إلا بالماء، فعفي عنه.
الرابع: عسر الإزالة، فلا يكلف الإنسان إزالة لون النجاسة وريحها إذا عسر عليه ذلك، ويكفي إزالة عينها.
الخامس: كون الشيء يسيرًا، فالشريعة تعفو عن الشيء الحقير غالبًا في جوانب كثيرة من الشريعة، وليس فقط في باب النجاسة، كالعفو عن دم البراغيث، والبول الذي ترشش على الثوب بقدر رؤوس الإبر، وظهور شيء يسير من العورة أثناء الصلاة، والعمل الأجنبي القليل في الصلاة لا يبطلها، والغرر اليسير في البيوع.
فإذا عرفنا الضوابط التقريبية للعفو عن النجاسة بقي الأمر معلقًا على تحقيق المناط، هل هذه النجاسة داخلة في عفو الشارع عنها لكثرة وقوعها وتكرره ولوجود المشقة في الاحتراز منها أو للاضطرار إلى فعلها، أو ليست كذلك فلا يعفى عنها؟ وكما قسنا الفأرة والحمار على الهرة لعلة التطواف، نقيس غيرها عليها، فما ظهر فيه مشقة من التحرز منه خففنا طهارته، وكما قسنا من به سلس بول على المستحاضة
في الصلاة في كونه لا عبرة بحدثه ويصلي ولو كان البول نازلًا، وكونه يؤذن له في الجمع بين الصلوات، وهكذا إذا ظهر لنا في نجاسة ما مشقة أو تكرار أو عموم بلوى أو اضطرار أو كونها نجاسة يسيرة عفونا عن ذلك قياسًا لما ليس فيه نص على ما فيه نص، والله أعلم.
* * *
مبحث
طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية
مدخل في ذكر الضابط الفقهي:
• هل إطلاق النجس على المعفو عنه مجاز شرعي تغليبًا لحكم جنسه عليه؟ أو أن إطلاق النجس على المعفو عنه حقيقة؛ لأنه يمنع لولا العذر، نظير الرخصة
(1)
.
[م-543] اختلف العلماء في المعفو عنه، هل يصبح طاهر العين بعد العفو عنه، أو أن حكم النجاسة سقط مع قيامها، ويتبين أثر الخلاف بين القولين إذا قلنا: أكل المضطر للميتة، هل هو من باب الإباحة، أو من باب المعفو عنه، ولعل فائدة ذلك أنها على الثاني باقية على النجاسة، وإنما عفي عنها للأكل فيغسل فمه ويده للصلاة، وعلى الأول: لا يغسل
(2)
.
ومثله: الهر قد حكمت السنة بطهارته لعلة التطواف ومشقة الاحتراز، فإذا ذهبت علة التطواف، وكان الهر متوحشًا وليس طوافًا فهل يرجع إلى أصله من
(1)
انظر حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير (1/ 33).
(2)
انظر منح الجليل (2/ 456).