الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
دليل من قال: لا بأس بالجلالة ركوبًا وحلبًا ولحمًا:
الدليل الأول:
إذا اعتبرنا أن الاستحالة مؤثرة في تحول العين النجسة إلى طاهر، كالخمرة تتحول إلى خل ونحوها، فكذلك هذه النجاسة التي أكلتها الدابة قد تحولت إلى عين طاهرة، فلا يبقى لها حكم، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن النجاسة في مقرها لا حكم لها، فهذا البول والغائط من الإنسان ما دام في جوفه لا يحكم لمن يحمله بالنجاسة، فكذلك النجاسة التي أكلتها هذه الدابة لا يحكم لها بالنجاسة ما دامت في معدنها، وبالتالي لا يمكن أن تتنجس الدابة الطاهرة بعذرة في جوفها.
الدليل الثالث:
تنجس الدابة لما تحمل في معدتها من نجاسة إنما هو تنجس بالمجاورة، والماء إذا تروح بريح نجسة حكمنا له بالطهارة كما حكي ذلك إجماعًا
(1)
، فكذلك تنجس الدابة إنما هو عن مجاورة النجاسة، فلا يحكم لها بالنجاسة.
الدليل الرابع:
قالوا: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجسًا؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الجلالة نجسة أن تكون نجسة قبل أكل النجاسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس.
الدليل الخامس:
استدل بعضهم بقوله تعالى: (قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
(1)
قدمت بحثًا في الماء المتغير بالمجاورة في كتاب المياه في مسألة مستقلة.
إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام: 145].
ولم تذكر الجلالة، وهذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه حكم ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الآية خرجت على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم، وقد حرم الله أيضًا المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وحرم الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو زيادة على قوله تعالى:(قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)[الأنعام: 145].
• الراجح من الخلاف:
بعض أدلة المالكية فيه قوة، ولكن لا مجال للنظر وفي المسألة أثر صحيح، خاصة حديث ابن عباس فإن رجاله رجال الصحيح، لكن يقال: قوة أدلة المالكية تجعل الباحث يحمل الأحاديث على الكراهة بدلا من حملها على التحريم، فنقول: يكره أكل لحوم الجلالة ما دامت النجاسة لها أثر في لحمها ونتنها؛ لأن النهي من الشارع مشترك بين التحريم والكراهة، والأصل فيه التحريم إلا لقرينة، ومن القرائن أن يكون النهي من أجل الآداب لا من أجل العبادة، والطعام له أثر على الإنسان والحيوان، فإن الإنسان إذا أكل بعض الأكل وجد ريحه في عرقه كالحلبة والثوم، فما بالك إذا أنتن من أكل النجاسة، وكذلك الدابة تأكل الطعام الطيب فيظهر في لبنها، ويخلط لها الأكل الرديء فيظهر أيضًا في جودة لبنها، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إن لبن الحيوان نجس إذا ظهر فيه ريح النجاسة، لكن الكراهة لها وجه قوي جدًّا.
[م-487] ومتى يحل أكل الجلالة؟
يحل أكلها إذا ذهب عنها ريح النجاسة، وبعضهم لم يقيده بمدة معينة، وإنما علقه على ذهاب النتن والقذر.
وبعضهم قدره بثلاثة أيام، وقد روي في ذلك أثر صحيح عن ابن عمر
رضي الله عنهما.
(1098 - 69) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن ميمون، عن نافع،
عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا
(1)
.
[صحيح]
(2)
.
(1)
المصنف (5/ 148) رقم 24608.
(2)
ورواه عبد الرزاق في المصنف (8717) عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة ثلاثًا إذا أراد أن يأكل بيضها.
وهذا إسناد صالح في المتابعات، وعبد الله العمري في حفظه شيء، لكنه قد توبع من عمرو بن ميمون.
كما روى ابن أبي شيبة أيضًا (5/ 148) من طريق ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان عنده إبل جلالة، فأصدرها إلى الحمى، ثم ردها، فحمل عليها الرواحل إلى مكة.
وهو في مصنف عبد الرزاق (8710).
وفي إسناده عبد العزيز بن أبي رواد، جاء في ترجمته:
قال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل (5/ 290).
وقال النسائي: لا بأس به. تهذيب الكمال (18/ 136).
وقال أحمد بن حنبل: رجل صالح الحديث، وكان مرجئا وليس هو في التثبت مثل غيره. المرجع السابق.
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. المرجع السابق.
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (2/ 96).
وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهمًا لا تعمدًا، ومن حدث على الحسبان وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه سقط الاحتجاج به وإن كان فاضلا في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن، ثم قال ابن حبان: روى عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها إلا على سبيل الاعتبار منها. المجروحين (2/ 136).
…
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/ 6).
وقال الحافظ في التقريب: صدوق عابد ربما وهم، ورمي بالإرجاء.
ومع متابعة عمرو بن ميمون عن نافع في حبس الجلالة يتقوى ما روى عبد العزيز بن أبي رواد، والله أعلم.
وروى عبد الرزاق أيضًا (8711) عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كره أن تركب الجلالة، أو أن يحج عليها.
ولا شك أن الانتفاع بالركوب أخف من الأكل، والحيوان النجس يجوز الانتفاع به في غير الأكل، فما بالك بالحيوان الطاهر إذا أكل نجاسة، وما يرشح من عرق فله حكم عرق الحيوان الطاهر، وليس له حكم النجاسة، والله أعلم.
وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة.
وقال في بدائع الصنائع: «والأفضل أن تحبس الدجاج حتى يذهب ما في بطنها من النجاسة (لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يأكله) وذلك على طريق التنزه وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عليهما الرحمة أنها تحبس ثلاثة أيام كأنه ذهب إلى ذلك للخبر ولما ذكرنا أن ما في جوفها من النجاسة يزول في هذه المدة ظاهرًا أوغالبًا
(1)
.
وقال الحافظ: وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يومًا.
وبعضهم حرمها مطلقًا إذا تغذت على النجاسة، ولو علفت بعد ذلك بالحلال، كابن حزم رحمه الله، قال: ولا يحل أكل لحوم الجلالة، ولا شرب ألبانها، ولا ما تصرف منها؛ لأنه منها وبعضها، ولا يحل ركوبها
(2)
.
ثم قال: روينا عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثًا حتى يطيب بطنها. قال أبو محمد: هذا لا يلزم لأنه إن كان حبسها من أجل ما في قانصتها مما أكلت فالذي
(1)
بدائع الصنائع (5/ 40).
(2)
المحلى (6/ 85).
في القانصة لا يحل أكله جملة؛ لأنه رجيع، وإن كان من أجل استحالة المحرمات التي أكلت فلا يستحيل لحمها في ثلاثة أيام، ولا في ثلاثة أشهر بل قد صار ما تغذت به من ذلك لحما من لحمها، ولو حرم من ذلك لحرم من الثمار والزرع ما ينبت على الزبل - وهذا خطأ. وقد قدمنا أن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الاسم وبالله تعالى التوفيق
(1)
.
فكأن ابن حزم لا يرى علة في تحريم الجلالة إلا الاتباع فقط، وهو لا يرى الاستدلال بقول الصحابي رضي الله عنه، وهي مسألة خلافية، والجمهور على الاستدلال به، وأقل أحواله أن يكون من المرجحات إذا لم يخالف ولم يعارض نصًّا.
فعلى هذا يكون القول الراجح أن الجلالة يكره أكل لحمها ما دام النتن قد ظهر في لحمها، فإذا ذهب النتن جاز أكلها، والثلاثة أيام غالبًا ما يكون كافيًا في إزالة النتن منها إذا حبست وعلفت طعامًا طيبًا، والله أعلم.
* * *
(1)
المحلى (6/ 110).