الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشوكاني
(1)
.
فبهذه الأقوال يتبين لنا أن الأقوال كالتالي.
الأول: أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة على اختلاف بينهم، هل تسقط مع الجهل والنسيان أو لا؟
الثاني: أنها سنة، ويستحب له أن يعيد الصلاة ما دام في الوقت.
الثالث: أن الطهارة واجبة للصلاة، وتصح الصلاة بدونها مع الإثم.
•
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة:
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر: 4].
أمر الله سبحانه وتعالى بطهارة الثياب، والمقصود فيه في الصلاة؛ لأن طهارتها خارج الصلاة ليست واجبة إجماعًا.
• وأجيب بجوابين:
الجواب الأول:
أن المراد بالثياب غير اللباس، وإنما المقصود بالثياب القلب، وتطهيره من
(1)
السيل الجرار (1/ 158).
الشرك، خاصة أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، فهي قد نزلت قبل الأمر بالصلاة والوضوء.
ولو حملنا الآية على طهارة الثياب الظاهرة، فإن الآية فيها الأمر بتطهير الثياب، وهو مطلق، ليس فيه أن ذلك خاص بالصلاة، فهل تقولون بوجوب طهارة الثياب من النجاسة مطلقًا، ولو خارج الصلاة؟ فإن قلتم ذلك، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجب على الإنسان الطهارة من الخبث إلا حال الصلاة
(1)
، وإن قلتم إن الآية مقيدة بالصلاة فقط، قلنا: لكم، إن الصلاة وقت نزول الآية لم تكن معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما علمه جبريل كيفية الصلاة بعد أن فرضها الله عليه ليلة الإسراء.
وقد جاء في اللغة ما يدل على إطلاق الثياب على غير اللباس:
يقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق
قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية.
وقوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر: 4]، معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
…
ليس الكريم على القنا بمحرم
أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك.
وقيل: معناه لا تكن غادرًا، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب.
وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة.
وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح.
وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل:(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر: 4]،
(1)
نقل الإجماع ابن حزم في المحلى (3/ 203) مسألة: 343.
يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان:
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا
(1)
.
واللفظ إذا منع مانع من حمله على ظاهره، وكان للتأويل وجه في اللغة العربية لم يمنع من حمله عليه، فالأصل في لفظ (الثياب) هو إطلاقها على اللباس الظاهر، لكن منع من ذلك ما سبق أن ذكرناه من كون الآية نزلت قبل فرض الصلاة والوضوء.
الجواب الثاني:
سلمنا أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي، وهو اللباس الظاهر، فإن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية؛ لأن كون الشيء شرطًا: حكمٌ شرعيٌ وضعيٌ، لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أو بنفي الفعل بدونه نفيًا متوجهًا إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به.
فلم يأت من الشارع قوله: لا صلاة إلا بالطهارة من الخبث، أو من لم يتطهر من الخبث فلا صلاة له. أو لا يقبل الله صلاة أحدكم إلا بالتطهر من الخبث، كما قال في الطهارة من الحدث: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ
(2)
.
وما دام أنه لم يأت ما يفيد الشرطية فلا يصح القول بالشرطية.
• ورد هذا الجواب:
بأن قولكم: إن الآية نزلت قبل الأمر بالصلاة، وفي هذا دليل على أن المراد القلب، فغير صحيح، لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خص بذلك في أول الإسلام، وفرض عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته.
(1)
لسان العرب (4/ 504، 505)، القاموس المحيط (ص: 554) العين (4/ 18، 19)، مختار الصحاح (2/ 379)، وانظر أنيس الفقهاء (ص: 46).
(2)
البخاري (135)، ومسلم (225).
وجواب ثان: وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فأوجب ذلك اتباعهم، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت.
والذي يرجح أن المراد بالثياب اللباس الظاهر أننا لو حملنا الثياب على ترك المعاصي لكان في سياق الآيات تكرار، فإن قوله: وثيابك فطهر والرجز فاهجر؛ فإن هجر الرجز من معانيه هجر المعاصي، فتكون هذه قرينة على أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي المتبادر إلى الذهن، وهو طهارة اللباس الظاهر.
وهذا الكلام جيد، إلا أن التعميم بعد التخصيص، والتخصيص بعد التعميم كلاهما وارد في كتاب الله.
فمن الأول قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)[التحريم: 4].
فإن جبريل من الملائكة، فذكر الله سبحانه وتعالى عموم الملائكة بعد تخصيص جبريل بالذكر، وهذا منه.
ومثال التخصيص بعد التعميم، قوله تعالى:(مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)[البقرة: 98].
فهنا ذكر الملائكة على سبيل العموم ثم خص بالذكر جبريل وميكال،
ومثله قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الْوُسْطَى)[البقرة: 238]، وليس هذا على وجه التكرار، بل لمزيد عناية واهتمام.
والقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فنكون مخاطبين بطهارة الثياب من النجاسة، هذا القول بعيد عن الصواب، فإن الصحابة لم ينقل عنهم أنهم كانوا يصلون على طريقة أهل الكتاب، ولم يكلفوا بالصلاة إلا بعد الإسراء، وهل يقول أحد: بأن أول الإسلام كان المسلمون مخاطبين في تعلم ديانة أهل الكتاب أو غيرها من الديانات؛