الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في سؤر سباع البهائم والطير
مدخل في ذكر الضابط الفقهي:
• الخلاف في طهارة سباع البهائم والطير يرجع إلى الخلاف في علة الطهارة والنجاسة في الحيوان:
هل علة الطهارة فيه هي الحياة، فلا نجاسة في حيوان حي حتى الكلب والخنزير، أو أن علة الطهارة هي إباحة الأكل، فكل حيوان محرم الأكل فهو نجس إلا ما شق التحرز منه كالهر.
[م-532] اختلف العلماء في سؤر سباع البهائم والطير،
فقيل: سؤر سباع الطير طاهر، وسؤر سباع البهائم نجس، وهو مذهب الحنفية
(1)
.
وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
.
(1)
المبسوط (1/ 51، 52)، بدائع الصنائع (1/ 64، 65)، تبيين الحقائق (1/ 33).
(2)
المنتقى للباجي (1/ 62)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 443)، حاشية الدسوقي (1/ 44) وعبر بعضهم بكراهة سؤر ما لا يتوقى النجاسة منها إلا أن يشق الاحتراز منه فلا كراهة.
(3)
المجموع (1/ 223).
وقيل: سؤرهما نجس، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في أعيانها هل هي طاهرة أم نجسة، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن هنا كلامًا يزاد على ما ذكر، وهو وجه التفريق عند الحنفية بين سباع الطير، وبين سباع البهائم، مع أن ذواتها نجسة عندهم، قالوا في وجه التفريق:
إن القياس نجاسة سؤرها على نجاسة لحمها، ولكن ترك هذا القياس للاستحسان، وذلك أن سباع الطير تشرب بمنقارها، وهو عظم جاف، بخلاف سباع البهائم التي تشرب بلسانها، والذي يكون فيه رطوبة من لعابها، وهو نجس، وسباع الطير تنقض من علو لتشرب من الأواني، وفي الحكم بتنجيس آسارها حرج شديد، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، والله أعلم.
• الراجح:
قد سبق فيما مضى ترجيح أن أعيان السباع نجسة، ولكن هذا لا يكفي للحكم بنجاسة سؤرها؛ لأن نجاسة سؤرها مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟
فالعلماء متفقون على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه طهور،
وقد نقل الإجماع على ذلك ابن الهمام من الحنفية
(2)
، وابن رشد، من المالكية
(3)
،
(1)
كشاف القناع (1/ 192)، الإنصاف (1/ 329).
(2)
شرح فتح القدير (1/ 77، 78)، وانظر البناية (1/ 319)، البحر الرائق (1/ 94).
(3)
مواهب الجليل (1/ 53)، ونقل الإجماع كذلك ابن عبد البر كما في التمهيد (9/ 108)، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/ 245):«واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر» .
وقال الحطاب في مواهب الجليل (1/ 53): الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره، فإنه باق على طهوريته. اهـ وانظر الخرشي (1/ 77).
وابن المنذر من الشافعية
(1)
، وعبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة
(2)
.
وطوائف من العلماء، منهم: الطبري
(3)
، وابن حزم
(4)
، وابن تيمية
(5)
، وابن قدامة
(6)
، وابن دقيق العيد
(7)
، والزركشي
(8)
، وابن رجب
(9)
، والعراقي في طرح التثريب
(10)
، وابن عبد الهادي
(11)
، والشوكاني
(12)
، وغيرهم.
واتفقوا كذلك على أن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه ينجس مطلقًا كثيرًا كان أو قليلًا.
وممن نقل الإجماع على ذلك الطحاوي
(13)
، وابن نجيم
(14)
من الحنفية.
وأبو الوليد ابن رشد من المالكية
(15)
.
(1)
الإجماع (ص: 33)، وانظر الأوسط (1/ 261).
(2)
الشرح الكبير (1/ 13).
(3)
تهذيب الآثار (2/ 219، 233).
(4)
مراتب الإجماع (ص: 17).
(5)
نقد مراتب الإجماع (ص: 17).
(6)
المغني (1/ 39).
(7)
إحكام الأحكام (1/ 22، 23).
(8)
شرح الزركشي (1/ 134).
(9)
القواعد (29).
(10)
طرح التثريب (1/ 36).
(11)
مغني ذوي الأفهام (ص: 42).
(12)
. نيل الأوطار (1/ 45).
(13)
شرح معاني الآثار (1/ 12)، ونقل الإجماع العيني كما في البناية (1/ 130)، وابن الهمام كما في شرح فتح القدير (1/ 77)، وغيرهما.
(14)
البحر الرائق (1/ 74).
(15)
مواهب الجليل (1/ 53، 60)، وانظر مقدمات ابن رشد (1/ 57)، والمنتقى للباجي (1/ 56، 59)، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/ 223): فإن تغير الماء لم يطهر إجماعًا. وانظر البيان والتحصيل (1/ 42، 60، 134)، القوانين الفقهية (32).
وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجسًا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا
(1)
، ونقله النووي أيضًا
(2)
.
وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقًا
(3)
.
وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم:
ابن عبد البر
(4)
، وأبو العباس بن سريج
(5)
، وابن جرير الطبري
(6)
، وابن المنذر
(7)
، وابن حبان
(8)
، والقاضي عياض
(9)
، وابن القطان الفاسي
(10)
، وابن دقيق العيد
(11)
،
(1)
الأم (1/ 13).
(2)
المجموع (1/ 131)، وقد نقل الإجماع مجموعة من الشافعية، منهم الماوردي في الحاوي (1/ 325)، والعراقي في طرح التثريب (2/ 32، 33، 35)، شرح المنهج (1/ 41)، الغرر البهية (1/ 34).
(3)
مختصر الفتاوى المصرية (ص: 18).
(4)
التميهد (18/ 235، 236)، (19/ 16)، والاستذكار (1/ 211).
(5)
الودائع لنصوص الشرائع (1/ 93).
(6)
تهذيب الآثار (2/ 213، 216).
(7)
الأوسط (1/ 260)، والإجماع (ص: 33).
(8)
قال ابن حبان في صحيحه (4/ 59): قوله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء، لفظة أطلقت على العموم، تستعمل في بعض الأحوال، وهو المياه الكثيرة التي لا تحتمل النجاسة فتظهر فيها، وتخص هذه اللفظة التي أطلقت على العموم ورود سنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ويخص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلًا كان أو كثيرًا فغير طعمه أو لونه أو ريحه نجاسة وقعت فيها أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع الذي يخص عموم تلك اللفظة المطلقة التي ذكرناها. اهـ
(9)
مواهب الجليل (1/ 60).
(10)
حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (1/ 49).
(11)
إحكام الأحكام (1/ 22، 23).
وابن الفاكهاني
(1)
، وابن الملقن
(2)
، وابن مفلح
(3)
، وغيرهم
(4)
.
ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.
واختلفوا في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره:
فالجمهور على أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فإن الماء ينجس مطلقًا، تغير الماء أو لم يتغير، على خلاف بينهم في حد الماء الكثير والقليل.
وذهب مالك في رواية المدنيين عنه
(5)
، وراية عن أحمد
(6)
إلى أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، وهو الراجح، وقد ذكرت أدلة المسألة ومناقشتها في في المجلد الأول، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، ولله الحمد.
فالراجح أن الماء القليل إذا شربت منه السباع، ولم يتغير بهذا اللعاب، ولم يظهر للعاب أثر بالماء فإنه طهور.
* * *
(1)
مواهب الجليل (1/ 85).
(2)
نيل الأوطار (1/ 40).
(3)
المبدع (1/ 52).
(4)
انظر إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/ 124).
(5)
المدونة (1/ 132)، ورجحه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 327)، والاستذكار (2/ 103)، الخرشي (1/ 76، 81)، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 249):«ويتحصل عن مالك في الماء اليسير تقع فيه النجاسة ثلاثة أقوال، قول: إن النجاسة تفسده، وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول: إنه مكروه» .
(6)
المغني (1/ 31)، المحرر (1/ 2).