الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع في دم الحيوان الذي لا نفس له سائلة
[م-508] تكلمت في مسألة سابقة عن طهارة الحيوان الذي لا دم له يجري، كالبق والبعوض والخنفس ونحوها، وهذا فيما يتعلق بحكم عينه، وأما حكم دمه، فقد اختلف العلماء فيه طهارة الدم إذا كان من حيوان لا نفس له سائلة، على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن دمه طاهر تبعًا لذاته، وهو المعتمد في مذهب الحنفية، واختاره بعض المالكية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
(1)
.
وقد ذكرت الأدلة على طهارة عينه في مسألة مستقلة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا، وأقوى دليل في الباب: ما رواه البخاري، من طريق عتبة بن مسلم مولى بني تيم، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق،
(1)
حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 154)، المبسوط (2/ 86، 87)، فتح القدير (1/ 208)، مواهب الجليل (1/ 98)، الإنصاف (1/ 327)، المحرر (1/ 6)، الكافي (1/ 88)، المغني (1/ 41)، شرح منتهى الإرادات (1/ 107).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء
(1)
.
وجه الاستدلال:
قال ابن القيم: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقله: وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حارًّا، فلو كان ينجسه لكان أمرًا بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنملة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودًا في ما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجس لانتفاء علته
(2)
.
القول الثاني:
أن ذاته طاهرة، ودمه نجس؛ لأن الدم الذي فيه ليس دمه وإنما هو منقول من غيره، كالقمل والبعوض ونحوهما، ويعفى عن قليله، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة، واختاره أبو يوسف من الحنفية، ورجحه ابن حزم
(3)
.
قال الصاوي في الشرح الصغير: «قوله: (ما لا دم له) هو معنى قول غيره: (لا نفس له سائلة): أي لا دم ذاتي له، بل إن وجد فيه دم يكون منقولًا، ويحكم بنجاسة
(1)
صحيح البخاري (5782).
(2)
زاد المعاد (3/ 210).
(3)
مواهب الجليل (1/ 98)، منح الجليل (1/ 70)، التاج والإكليل (1/ 139)، حاشية العدوي على شرح الخرشي (1/ 82)، التوضيح لخليل (1/ 24)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 41)، الذخيرة للقرافي (1/ 180)، المهذب (1/ 60)، مغني المحتاج (1/ 193)، المجموع (3/ 140)، أسنى المطالب (1/ 175)، الحاوي الكبير (2/ 242)، الكافي لابن قدامة (1/ 88)، المحلى (1/ 152) وما بعدها.
الدم فقط، فلذلك قال:(لا دم له) ولم يقل: (لا دم فيه)»
(1)
.
فقوله: (إن وجد فيه دم يكون منقولًا) يقصد أن دم البعوض والقمل منقول من الإنسان، وليس دمًا ذاتيًا للحشرة، فينجس الدم دون الحيوان، والله أعلم.
وجه هذا القول:
أما طهارة ذاته؛ فلأن ذاته لا دم لها، فكل ما كان لا دم له فإن ميتته طاهرة، والدم الذي فيه ليس دمًا ذاتيًا.
وأما نجاسة الدم الذي فيه؛ فلأنه دم منقول من حيوان دمه نجس، فصار الدم نجسًا.
القول الثالث:
أن ذاته نجسة، ودمه نجس، ويعفى عنه في الثياب والبدن، ولو كان كثيرًا ما لم يكن بفعله، وهو الأصح في مذهب الشافعية
(2)
.
(3)
.
(4)
.
(1)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 44).
(2)
المهذب (1/ 60)، مغني المحتاج (1/ 193)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 78)، إعانة الطالبين (1/ 101).
(3)
المجموع (2/ 514).
(4)
المجموع (3/ 140).
وجه القول بالعفو:
أما كون ذاته نجسة؛ فلأنه داخل في عموم الميتة.
وأما وجه العفو عن دمه، فلأن ذلك مما تعم به البلوى، ويشق الاحتراز منه، ولهذا فرقنا بين ما كان من فعله، فلا يعفى عن كثيره، وما كان من غير فعله فيعفى عنه مطلقًا.
ونوقش:
بأن تحريم الميتة كان من أسبابها انحباس الدم فيها،
ولذلك روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة،
عن جده أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس الظفر والسن أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم.
فقوله: (ما أنهر الدم)، دليل على أن انحباس الدم وعدم إنهاره مؤثر في حل الذبيحة.
وجاء في حديث ابن عباس في مسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر
(1)
.
فالإهاب حين كان متصلًا برطوبة النجاسة ودمها كان نجسًا، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهرًا، فما بالك بالحيوان الذي ليس فيه دم أصلًا.
وقد ذكر ابن تيمية أن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى:(قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)[الأنعام: 145].
(1)
مسلم (366).
وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، ثم قال: ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك
(1)
.
واعترض على هذا:
بأن الأنعام إذا قطعت من أوساطها وخرجت دماؤها أنها نجست بالموت مع انتفاء الدم.
ورد هذا الاعتراض:
بأن الشرع لم يسلطنا على الحيوان إلا بشرط انتفاعنا به وأن نسلك أقرب الطرق في ذلك وأقرب الطرق هو الذكاة في الموضع المخصوص فمن عدل عنه لم يرتب الشرع على فعله أثرا فسوى بين هذه الصورة وبين التي احتقنت فيها الفضلات زجرًا له
(2)
.
* * *
(1)
انظر مجموع الفتاوى (21/ 99، 100) بتصرف يسير.
(2)
انظر الفروق للقرافي (1/ 180).