الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس في لبن الحيوان غير المأكول حيًّا وميتًا
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• لبن الحيوان تبع لذاته طهارة ونجاسة.
وقيل:
• لبن الحيوان تبع للحمه إلا الآدمي فإنه طاهر، ولحمه حرام؛ لأن تحريمه لحرمته لا لنجاسته.
[م-520] اختلف العلماء في لبن الحيوان غير المأكول، سواءً كان في حياته، أو بعد موته على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أنه طاهر مطلقًا حيًا وميتًا، وإن حرم شربه، وهو قول في مذهب الحنفية، اختاره محمد بن الحسن
(1)
.
جاء في فتح القدير: «وفي المحيط: ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية. وعن محمد
(1)
فتح القدير (1/ 114)، وانظر المحيط البرهاني (1/ 131)، المبسوط (5/ 139).
أنه طاهر، ولا يؤكل
…
وفي فتاوى قاضي خان: وفي طهارة لبن الأتان روايتان»
(1)
.
• وجه القول بالطهارة:
أما طهارة اللبن من الحيوان الحي غير المأكول، فلأن الحيوان طاهر، فاللبن المنفصل من الحيوان طاهر أيضًا.
ولأن اللبن ليس جزءًا من الحيوان، ولو كان جزءًا من الحيوان لكان اللبن المنفصل من الحيوان المأكول له حكم ميتته؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته.
وأما طهارة اللبن من الحيوان غير المأكول، وهو ميت، فلأن اللبن لا تحله الحياة، فلا ينجس بالموت، فإذا كان اللبن قبل الموت طاهرًا كان بعد الموت كذلك، وتحريم تناوله لا يعني نجاسته.
القول الثاني:
أنه نجس مطلقًا، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية، ومذهب المالكية، والأصح في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم
(2)
.
قال في المحيط البرهاني: «ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية»
(3)
.
قال الخرشي: «لبن غير الآدمي تابع للحمه، فإن كان الحيوان مباح الأكل فلبنه طاهر .... وإن كان محرم الأكل فلبنه نجس»
(4)
.
(1)
فتح القدير (1/ 114).
(2)
المحيط البرهاني (1/ 131)، فتح القدير لابن الهمام (1/ 114)، حاشية ابن عابدين (6/ 340)، الشرح الكبير للدردير (1/ 50، 51)، القوانين الفقهية (ص: 27)، البيان والتحصيل (3/ 293)، البيان للعمراني (5/ 407)، المجموع (2/ 525)، المهذب (1/ 47)، مغني المحتاج (1/ 80)، إعانة الطالبين (1/ 85)، كشاف القناع (1/ 195)، المغني (9/ 325)، مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (8/ 3978).
(3)
المحيط البرهاني (1/ 131).
(4)
شرح مختصر خليل للخرشي (1/ 85).
وإذا كان نجسًا من الحيوان الحي، كان نجسًا من الحيوان الميت.
وقال ابن قدامة: «حكم الألبان حكم اللحمان»
(1)
.
وقال ابن حزم: «وكل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه، ومنسوب إليه، وبالله تعالى التوفيق، إلا ألبان النساء فهي حلال»
(2)
.
واستدل أصحاب هذا القول:
بأن اللبن تبع للحم، وليس تبعًا لذات الحيوان، فإذا كان لحمه نجسًا كان لبنه نجسًا.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:
أن هناك فرقًا بين اللحم وبين اللبن، فاللحم إذا انفصل من الحيوان كان له حكم ميتته، فلو قطعت ألية الحيوان المأكول، وهو حي كانت الألية لها حكم الميتة في الطهارة والنجاسة، وفي حل الأكل، بخلاف اللبن فإنه ينفصل من الحيوان المأكول، ولا يعطى حكم ميتته، بل يكون حلالًا، فدل على أن الشريعة فرقت بين حكم اللبن وحكم اللحم.
الوجه الثاني:
أن لحم الميتة نجس بالإجماع، ولو كان من حيوان مأكول، وأما لبن الميتة إذا كان من حيوان مأكول فالصحيح طهارته قياسًا على أنفحتها، ففارق اللبن اللحم.
قال ابن تيمية: «الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهرًا شائعًا بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر؛ فإنه من نقل بعض الحجازيين، وفيه نظر، وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإن المجوس كانوا ببلادهم،
(1)
المغني (9/ 325).
(2)
المحلى، مسألة (997).
ولم يكونوا بأرض الحجاز»
(1)
.
فإذا لم يعط حكم لبن الميتة حكم لحمها في الحيوان المأكول، لم يعط حكم اللبن حكم اللحم في الحيوان غير المأكول.
القول الثالث:
أن اللبن تبع لذات الحيوان، وليس تبعًا للحمه، فما كان من حيوان طاهر في الحياة والممات كالآدمي، كان طاهرًا فيهما، وما كان من حيوان نجس في الحياة والممات كالكلب والخنزير كان نجسًا فيهما، وإن كان من حيوان طاهر في الحياة فقط، كان اللبن طاهرًا من الحي، نجسًا من الميت. وهذا وجه في مذهب الشافعية
(2)
.
واستدل أصحاب هذا القول:
قياس اللبن على سؤر الحيوان، فالحيوان الطاهر سؤره طاهر، فكذا لبنه وعرقه، وأما الحيوان النجس فإن سؤره نجس فكذا لبنه.
فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من السباع، والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث
(3)
.
[صحيح إن شاء الله، وسبق تخريجه]
(4)
.
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بهذا الحديث الصحيح أن الماء الكثير لا يتأثر بسؤر السباع
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 103).
(2)
المجموع (2/ 525).
(3)
المصنف (1/ 133) رقم 1526.
(4)
انظر تخريجه في المجلد الأول، ح (88).
والدواب، ومفهومه أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر السباع والدواب، وإذا كان هذا في سؤرها: أي بقية شرابها، فاللبن مقيس عليه.
وقد روى مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها:
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات
(1)
.
[صحيح]
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم علل طهارة الهرة بأنها من الطوافين علينا، فعلم أن المقتضي لنجاستها قائم، لكن عارضه مشقة التحرز منها، فطهرت لذلك دفعًا للحرج، ومعنى ذلك أن الهرة لو لم تكن طوافة علينا لكان سؤرها نجسًا، وإذا كان هذا في سؤرها فاللبن مقيس عليه.
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال، فاللبن تبع للذات، وليس تبعًا للحم.
* * *
(1)
الموطأ (1/ 44).
(2)
سبق تخريجه، انظر ح (1060) من هذا الكتاب.