الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• كل ما لا يمكن التحرز عنه أو يشق فهو عفو.
• المشقة تجلب التيسير.
• المشقة والحرج إنما يعتبران في غير المنصوص عليه، وأما ما فيه نص فلا.
• يعفى عن النجاسة المخففة ما لا يعفى عن النجاسة المغلظة، ويعفى عن اليسير منها ما لا يعفى عن الكثير.
[م-544] في معرض ذكر النجاسة المعفو عنها في كل مذهب لا حاجة لنا في بيان أن بعض الأعيان المعتبرة في بعض المذهب نجسة، هي في راجح الأمر من الأعيان الطاهرة؛ أو العكس؛ لأنه يفترض أننا قد حرر فيما سبق الراجح في كل الأعيان المختلف في طهارتها، سواءً كان من إنسان أو حيوان أو جماد في الأبواب التي قبل هذا الفصل، وإنما أوردنا في هذا الفصل سرد النجاسات المعفو عنها في كل مذهب، فإن أردت أن تعرف هل النجاسة المذكورة في هذا المذهب هي حقًّا من
الأعيان النجسة أو الطاهرة فارجع إلى باب ذكر الأعيان النجسة، وراجع خلاف العلماء ومعرفة الراجح.
القول الأول: مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى العفو عن قليل النجاسة مطلقًا في حق المصلي في بدنه وثوبه وبقعته، إلا أن تقديرهم للقليل يختلف من نجاسة إلى أخرى،
فتقدير القليل في النجاسة المخففة: هو ما لم يفحش.
وتقدير القليل في النجاسة المغلظة: هو قدر الدرهم
(1)
.
• ويستدلون بأدلة منها:
أولًا: أن الاستنجاء والاستجمار ليس بواجب عندهم، ومعنى هذا أنه يعفى عن غسل النجاسة من بول أو غائط في مكانه المعتاد.
وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل في كتاب أحكام الطهارة «آداب الخلاء» وترجح أن الاستنجاء أو الاستجمار واجب.
ويستدلون أيضًا بالعفو عن الأثر المتبقي بعد الاستجمار، وهو أثر لا يزيله إلا الماء، ومع ذلك عفي عنه، وهو دليل على العفو عن قليل النجاسة.
(1)
جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 318) والبحر الرائق (1/ 240) أن المغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخفف.
مثاله: دم الحيض نجس مغلظ؛ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر.
بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث استنزهوا من البول يدل على نجاسته، وحديث العرنيين يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة.
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة: ما أجمع على نجاسته. والمخفف: ما اختلف الأئمة في نجاسته. فروث ما يؤكل لحمه مغلظ عند أبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنها ركس» ، ولم يعارض بنص آخر.
والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته.
ويعفى عن النجاسة الكثيرة إن كانت في بقعة المصلي في موضع اليدين والركبتين؛ لأن وضعهما في حال السجود ليس بركن، ولا يعفى عن كثير النجاسة في موضع قدم المصلي؛ لأن القيام ركن.
وأما في موضع السجود فاختلف في العفو عن النجاسة الكثيرة على قولين.
فقيل: لا يعفى؛ لأن الجبهة أكبر من الدرهم.
وقيل: يعفى؛ لأن فرض السجود يؤدى بقدر أرنبة الأنف، وهي أقل من الدرهم.
والتفريق بين الركن والواجب تفريق بلا دليل.
كما يعفى عن النجاسة المنتضحة كرؤوس الإبر، وإن كثرت بشرط ألا ترى، فإن رؤيت وكان بحال لو جمعت بلغت أكثر من الدرهم وجبت إزالتها.
وكالبول المنتضح والدم على ثوب القصاب
كما يعفى عن النجاسة الكثيرة إذا كانت مختلطة في طين الشوارع وكانت طرق المصلي لا تنفك عنها النجاسات غالبًا لكن ما لم ير عين النجاسة فإن رأى عين النجاسة فلا يعفى إلا عن قليلها كما سبق.
كما يعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت فيتلون به الماء.
كما يعفى عن ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كالبازي والصقر وإن كثر؛ لأنها تذرق في الهواء، فيصعب الاحتراز منها
(1)
.
القول الثاني: مذهب المالكية:
يعفى في مذهب المالكية عما يعسر الاحتراز عنه من النجاسات كحدث
(1)
حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 104، 105)، حاشية ابن عابدين (1/ 322)، شرح فتح القدير (1/ 202 - 205)
مستنكح (أي ملازم كثيرًا) وكبلل باسور، وكثوب مرضعة أو جسدها إذا اجتهدت في درء البول أو الغائط بأن تنحيه عنها حال البول فإذا أصابها شيء بعد التحفظ عفي عنه، ومثل المرضع: الكناف، أي الذي ينزح الكنف، والجزار، فيعفى عما أصابهما بعد التحفظ، فإن لم يتحفظا فلا عفو.
- ويعفى عما دون قدر الدرهم البغلي عن عين أو أثر من دم مطلقًا منه ومن غيره ولو دم حيض أو خنزير في ثوب أو بدن أو مكان.
- ويعفى عن يسير الدم والقيح والصديد، فمثله مثل الدم من كل وجه.
- ويعفى عن أثر موضع الحجامة إذا كان يتضرر بالغسل فلا يجب غسله، ولكن إن كان زائدًا عن قدر الدرهم مسح حتى يبرأ، وإن كان أقل من الدرهم البغلي عفي عنه بلا مسح، ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع.
- ويعفى عما أصاب النعل والخفاف من أرواث الدواب وأبوالها، بموضع يطرقه الدواب كثيرًا، فإن أصابت الثياب فلا عفو، وإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها فلا عفو أيضًا، ولا بد من غسله
(1)
.
(1)
قال في مواهب الجليل (1/ 152): إذا كانت النجاسة يابسة فمعفو عن الذيل الواصل إليها، وفي الرطبة قولان: المشهور لا يعفى، والثاني أنه يعفى.
وقال أيضًا في المرجع المذكور (1/ 153): ويعفى عن أثر ما يصيب الخف، وعما يصيب النعل من أرواث الدواب وأبوالها، ولو كانت رطبة، كما قاله في المدونة، بشرط أن يدلك ذلك، فإذا دلكه جاز له أن يصلي بذلك الخف والنعل، والعلة في ذلك المشقة، وهو الذي ارتضاه ابن الحاجب.
وبعضهم ساوى بين الذيل والخف، فقال يعفى عنهما ولو كانت النجاسة رطبة، وخرج حكم ذيل المرأة على كلام مالك في الخف.
قال في مواهب الجليل (1/ 152): الأشبه أن ذلك فيما لا تنفك منه الطرقات من أرواث الدواب وأبوالها، وإن كانت رطبة، فإن ذلك لا ينجس ذيلها للضرورة، كما قال مالك في الخف. قال سند: ولعمري أن تخريج ذلك على الخف حسن؛ لأن غسل الثوب كل وقت فيه حرج
…
ومشقة، ربما كانت فوق مشقة غسل الخف، فإن الخف يغسله وينزعه وينشف، والثوب إن تركه عليه مبلولًا فمشقة إلى مشقة، وإن نزعه فليس كل أحد يجد ثوبًا آخر يلبسه. قال الحطاب تعليقًا: وما قالاه ظاهر، لكنه خلاف مذهب المدونة.
وقال في حاشية الدسوقي (1/ 75): وحاصله أن الخف إذا أصابه شيء من النجاسات غير أرواث الدواب وأبوالها كخرء الكلاب أو فضلة الآدمي أو أصابه دم فإنه لا يعفى عنه كما مر، ولا بد من غسله. اهـ
- كما يعفى عن الدم المباح في الصقيل كالسيف والسكين والمرآة وإن لم يمسحه لئلا يفسد.
- ويعفى عن أثر الدمل الواحد، ومثله الجرح الواحد ما لم ينك: أي يعصر أو يقشر بلا حاجة، فإن عصره أو قشره بلا حاجة لم يعف عما زاد عن الدرهم، وإن عصره أو قشره لحاجة عفي عنه ولو كثر.
وإن كثرت الدمامل فيعفى عنها مطلقًا، ولو عصرها أو قشرها لاضطراره لذلك كالحكة والجرب.
- كما يعفى عن أثر ذباب وناموس يحملها على أعضائه، ثم يحطها على الثوب أو البدن.
- يعفى عن طين الشوارع المتنجس، سواءً كان الطين لسبب المطر أو الرش أو نحوهما، بشرط أن يكون الطين طريًا يخشى منه الإصابة، وأن لا تغلب النجاسة على الطين يقينًا أو ظنًا، وأن لا يصيب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة.
- ويعفى عما يعلق من غبار النجس بذيل المرأة إذا أطالته للستر وليس للخيلاء، وكذا ما يعلق برجل مبلولة من نجاسة يابسة إذا مر عليها، وليس العفو عنهما مترتبًا بمرورهما على ما يطهرهما
(1)
.
هذا جل ما يعفى عنه من النجاسات في مذهب المالكية، وهو كما سبق يرجع
(1)
انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 71 - 78)،
إلى الضوابط التي ذكرت سابقًا من مشقة التحرز وعموم البلوى والاضطرار ويسير النجاسة.
القول الثالث: مذهب الشافعية:
- يعفى عن أثر استجمار بمحله، وفي الأصح أنه يعفى عنه ولو عرق محل الأثر وانتشر؛ لعسر الاحتراز منه
(1)
.
- ويعفى عن شعر الحيوان المركوب النجس، ولو كان كثيرًا؛ لمشقة الاحتراز عنه
(2)
.
-ويعفى عن قليل بول الخفاش، وونيم الذباب، وبول وروث الزنابير والبعوض، وروث السمك في الماء ونحوها؛ لمشقة الاحتراز
(3)
.
- أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فقد اتفق أصحاب الشافعية على أنه يعفى عن قليله، وفي كثيره وجهان مشهوران أصحهما العفو عنه. قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا.
وأما دم الشخص نفسه، فضربان:
الضرب الأول: ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد، فله حكم دم البراغيث بالاتفاق، يعفى عن قليله قطعًا، وفي كثيره الوجهان: أصحهما العفو.
الضرب الثاني: ما يخرج منه لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها. وفيه طريقان:
الطريقة الأولي: أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله، وفي كثيره الوجهان قال الرافعي: هذا مقتضى كلام الأكثرين.
(1)
نهاية المحتاج (1/ 25).
(2)
مغني المحتاج (1/ 81).
(3)
مغني المحتاج (1/ 81) أسنى المطالب (1/ 175) منظومة ابن العماد (ص: 18، 19).
الطريقة الثانية: وهو الأصح اختاره إمام الحرمين وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي. أي فلا يعفى عنه.
وإذا عصر هو البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث عفي عن قليله فقط دون كثيره
(1)
.
- وإذا تيقن نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين.
أما إذا غلب على الظن نجاسة طين الشوارع، فهناك قولان، الأول: يحكم بنجاسته، والثاني: بطهارته، بناء على تعارض الأصل والظاهر
(2)
.
- كما يعفى عن ميتة ما لا نفس له سائلة إذا وقع في الماء شرط أن يكون الواقع قليلًا، وألا يغير الماء، وهذا مبني على مذهب الشافعية القائل بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة
(3)
.
- يعفى عن القليل من دخان وغبار النجاسة، وقليل دخان السرجين
(4)
.
- يعفى عن النجاسة التي لا يدركها البصر المعتدل، كنقطة خمر لا تبصر لقلتها، أما من كان بصره حادًا فأبصر تلك النجاسة فلا عبرة برؤيته
(5)
.
وقد قسم السيوطي النجاسات المعفو عنها في مذهب الشافعية أقسامًا تارة باعتبار مقدارها، وتارة باعتبار محلها، وننقله بحروفه؛ نظرًا لأن التقسيم يعين الطالب على الحفظ:
قال السيوطي: «النجاسات أقسام:
(1)
المجموع (3/ 143).
(2)
المجموع (1/ 261، 262)، نهاية المحتاج (1/ 27، 28).
(3)
حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 323)، شرح منظومة ابن العماد (ص: 55).
(4)
مغني المحتاج (1/ 81).
(5)
انظر حاشية البجيرمي (1/ 88)، شرح منظومة ابن العماد (ص: 48، 49).
أحدها: ما يعفى عن قليله وكثيره في الثوب والبدن.
وهو: دم البراغيث والقمل والبعوض والبثرات والصديد والدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة، ولذلك شرطان:
الشرط الأول: أن لا يكون بفعله، فلو قتل برغوثًا، فتلوث به وكثر، لم يعف عنه.
الشرط الثاني: أن لا يتفاحش بالإهمال؛ فإن للناس عادة في غسل الثياب، فلو تركه سنة مثلًا، وهو متراكم لم يعف عنه.
الثاني: ما يعفى عن قليله دون كثيره.
وهو دم الأجنبي، وطين الشارع المتيقن نجاسته.
الثالث: ما يعفى عن أثره دون عينه.
وهو أثر الاستنجاء، وبقاء ريح أو لون، عسر زواله.
الرابع: ما لا يعفى عن عينه ولا أثره، وهو ما عدا ذلك.
تقسيم ثان لما يعفى عنه من النجاسة.
أحدها: ما يعفى عنه في الماء والثوب، وهو ما لا يدركه الطرف، وغبار النجس الجاف، وقليل الدخان والشعر، وفم الهرة والصبيان. ومثل الماء: المائع، ومثل الثوب: البدن.
الثاني: ما يعفى عنه في الماء والمائع دون الثوب والبدن، وهو الميتة التي لا دم لها سائل ومنفذ الطير وروث السمك في الحب والدود الناشئ في المائع.
الثالث: عكسه، وهو: الدم اليسير وطين الشارع ودود القز إذا مات فيه لا يجب غسله، صرح به الحموي، وصرح القاضي حسين بخلافه.
الرابع: ما يعفى عنه في المكان فقط، وهو ذرق الطيور في المساجد والمطاف، كما أوضحته في البيوع، ويلحق به ما في جوف السمك الصغار على القول بالعفو عنه؛
لعسر تتبعها وهو الراجح.
ثم أتبع ذلك السيوطي بوضع عنوان آخر، فقال:
الصور التي استثني فيها الكلب والخنزير من العفو:
الصورة الأولى: الدم اليسير من كل حيوان يعفى عنه إلا منهما، ذكره في البيان قال في شرح المهذب: ولم أر لغيره تصريحا بموافقته ولا مخالفته، قال الإسنوي: وقد وافقه الشيخ نصر المقدسي في المقصود.
الصورة الثانية: يعفى عن الشعر اليسير إلا منهما، ذكره في الاستقصاء.
الصورة الثالثة: يعفى عن النجاسة التي يدركها الطرف إلا منهما، ذكره في الخادم بحثًا.
الصورة الرابعة: الدباغ يطهر كل جلد إلا جلدهما بلا خلاف عندنا.
الصورة الخامسة: يعفى عن لون النجاسة أو ريحها إذا عسر زواله إلا منهما، ذكره في الخادم بحثًا.
الصورة السادسة: قال في الخادم: ينبغي استثناء نجاسة دخان نجاسة الكلب والخنزير؛ لغلظهما، فلا يعفى عن قليلها
(1)
. اهـ
القول الرابع: مذهب الحنابلة:
لا تختلف الرواية في مذهب أحمد أنه يعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد.
كما يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد في غير مائع ومطعوم من حيوان طاهر في الحياة، سواءً كان من مأكول اللحم أو من غيره كالهر، بشرط أن يكون من غير السبيلين، فإن وقع في مائع أو مطعوم أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير أو خرج من أحد السبيلين فلا يعفى عن شيء من ذلك.
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 432).
وأما القيء فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وفيه قول ثان بأنه يعفى عن يسيره.
كما أن ريق الحمار والبغل وعرقهما على القول بنجاستهما لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وفيه رواية ثانية أنه يعفى عن يسيره.
كما أن ريق سباع البهائم -غير الكلب والخنزير- والطير وعرقها على القول بنجاسته لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وقيل: يعفى عن يسيره.
كما أن بول الخفاش وكذا الخشاف وكذا الخطاف نجس، فلا يعفى عنه على الصحيح من المذهب.
وعنه يعفى عن يسيره.
ولا يعفى عن يسير بول كل بهيم نجس أو طاهر لا يؤكل، وينجس بموته على الصحيح من المذهب.
وأما النبيذ النجس، فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب.
وعنه يعفى عن يسيره.
ويعفى عن دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها على القول بنجاستها، وقد تقدم أن الراجح فيها الطهارة.
ومنها يسير النجاسة إذا كانت على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك يعفى عنها على القول بنجاسته، وقطع به الأصحاب.
ومنها يسير سلس البول مع كمال التحفظ يعفى عنه، قال الناظم: وظاهر كلام الأكثر عدم العفو، وعلى قياسه يسير دم الاستحاضة.
ومنها يسير دخان النجاسة وغبارها وبخارها يعفى عنه ما لم تظهر له صفة على الصحيح من المذهب.
قال جماعة: يعفى عنه ما لم يتكاثف، وقيل: ما لم يجتمع منه شيء ويظهر له صفة، وقيل: أو تعذر أو تعسر الاحتراز منه.
وقيل: لا يعفى عن يسير ذلك.
ومنها يسير نجاسة الجلالة قبل حبسها لا يعفى عنه على الصحيح من المذهب، وقيل: يعفى عنه
(1)
.
هذا جل ما يعفى عنه وما لا يعفى في مذهب الحنابلة، وكما قلنا: إن الشأن في هذا الفصل هو تحرير المذاهب دون تعرض لمناقشتها؛ وذلك لأنه سبق أن تحرير الأعيان النجسة والطاهرة، والراجح فيها في أبواب وفصول ومباحث متقدمة، وأما الراجح في العفو فكما سبق محاولة ضبط ذلك من خلال ضوابط جامعة،
فكل نجس يسير عرفًا فهو معفو عنه على الصحيح، دون تفريق بين البول وبين الدم النجس، وسواءً كان من الإنسان أو من الحيوان، وسواءً تعلقت النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان.
ويقاس ما لم يرد فيه نص بالعفو على ما ورد فيه النص، إذا اتحدا في العلة.
كما أن كل ما يشق التحرز منه فهو عفو من غير فرق، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، وقال:(يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ)[النساء: 28]، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
كما أن الضرورة تبيح تعاطي النجاسات، سواءً في ستر العورة أو في أكل الميتة أو في غيرها.
(1)
الإنصاف (1/ 331، 334)، المستوعب (1/ 340)، المبدع (1/ 249، 250)، مطالب أولي النهى (1/ 235).
كما أن كل ما تعم به البلوى فإنه مدعاة للتخفيف، وفقًا للقاعدة الشرعية المشقة تجلب التيسير، هذه هي الضوابط الشرعية في العفو عن النجاسة، ويبقى على طالب العلم تحقيق المناط، في تنزيل هذه الضوابط على الأعيان، والله أعلم.
* * *