الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكم ترْك الصَّلاة
عن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكُفر تركَ الصَّلاة"(1).
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَن تركها فقد كفر"(2).
وعن عبد الله بن شقيق قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَرون شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غير الصَّلاة"(3).
إِنَّ ما تقدم من النصوص ينطق بكفر تارك الصَّلاة، ولكن هل هو كفر مُخرجٌ من الملّة؟ أم هو كُفر دون كُفر؟ وهل هو كفر عمل أم كفر اعتقاد (4)؟
ومن الأمور المتفق عليها؛ أنَّ من لم يقر بوجوب الصلاة فهو كافر، بالنص
= ورواه ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي كلهم عن طلحة بنحوه، أطول منه. وزاد ابن ماجه وابن حبان في آخره:"فلما بينهما أبعدُ ممّا بين السماء والأرض".
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"(366).
(1)
أخرجه مسلم: 82
(2)
أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي ووافقهم شيخنا في "المشكاة"(574).
(3)
أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي"(2114)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"(562).
(4)
وانظر كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- الآتي قريباً بإِذن الله -سبحانه-.
والإِجماع (1).
جاء في "النهاية": "
…
ومنه الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما" لأنَّه إِمَّا أن يصدُق عليه أو يكذب، فإِن صدَق فهو كافر، وإن كذب عاد الكُفر إِليه بتكفيره أخاه المسلم.
والكُفر (2) صنفان: أحدهما الكُفر بأصل الإِيمان وهو ضدُّه، والآخر الكُفر بفَرْعٍ من فروع الإِسلام، فلا يَخْرج به عن أصْل الإِيمان.
وقيل: الكُفر على أربعة أنحاء: كُفر إِنكار، بألَاّ يعرف الله أصلاً ولا يعترف به.
وكُفر جُحود، ككُفر إِبليس، يعرف الله بقلبه ولا يُقِرّ بلسانه (3).
وكُفر عِنَاد، وهو أن يعترف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به؛ حسداً وبغياً، ككُفَر أبي جهل وأضرابه.
وكُفر نفاق، وهو أن يُقرّ بلسانه ولا يعتقد بقلبه.
قال الهروي: سُئل الأزهري عمّن يقول بخلق القرآن: أتسمِّيه كافراً؟ فقال: الذي يقوله كُفر، فأُعيد عليه السؤال ثلاثاً ويقول مِثل ما قال، ثمَّ قال في الآخر: قد يقول المسلم كُفراً.
ومنه حديث ابن عباس قيل له: " {ومن لم يحكُم بما أنزَل الله فأولئك
(1) وسيأتي كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في ذلك غير بعيد بإِذن الله -سبحانه-.
(2)
انظر تقسيم ابن القيم رحمه الله للكفر في "مدارج السالكين"(1/ 337).
(3)
بل كفره كفر إِباء واستكبار، وهو قول ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين"(1/ 337).
هم الكافرون} (1) قال: هم كَفَرة، وليسو كمن كفَر بالله واليوم الآخر".
ومنه حديثه الآخر: "إِنَّ الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثار بعضهم إِلى بعض بالسيوف، فأنزل الله تعالى: {وكيفَ تكفرونَ وأنتم تُتلى عليكُمْ آياتُ الله وفيكُم رسولُه} (2) ولم يكن ذلك على الكُفر بالله، ولكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الأُلفة والمودَّة"(3). انتهى.
قال النووي رحمه الله في شرح حديث مسلم المتقدّم -بحذف-: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصَّلاة": "وأمَّا تارك الصَّلاة فإِن كان مُنكِراً لوجوبها فهو كافر بإِجماع المسلمين، خارج من ملّة الإِسلام؛ إلَاّ أن يكون قريب عهد بالإِسلام ولم يخالط المسلمين مدّة؛ يبلغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإِن كان ترَكه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها -كما هو حال كثير من النَّاس- فقد اختلف العلماء فيه فذهب مالك والشافعي -رحمهما الله- والجماهير من السلف والخلف إِلى أنَّه لا يكفر، بل يفسق ويُستتاب، فإِنْ تاب وإِلا قتلناه حدّاً كالزاني المحصَن، ولكنَّه يُقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إِلى أنّه يكفر وهو مرويٌّ عن عليّ بن أبي طالب وهو إِحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي -رضوان الله عليه- وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي
(1) المائدة: 44
(2)
آل عمران: 101
(3)
إِنْ صحّ هذا الخبر، وهناك كلام طيب لابن كثير في هذا الموضع فارجِع إِليه -إِن شئت-.
-رحمهما الله- أنَّه لا يكفر ولا يقتل، بل يُعزّر ويُحبس حتى يصلّي، واحتجّ من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد، واحتجّ من قال لا يُقتل بحديث "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلَاّ بإِحدى ثلاث
…
" (1) وليس فيه الصَّلاة، واحتجّ الجمهور على أنَّه لا يكفَّر بقوله تعالى: {إِنَّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويَغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (2) وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلَاّ الله دخل الجنة"، "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلَاّ الله دخل الجنَّة"، "ولا يلقى اللهَ تعالى عبدٌ بهما غير شاكٍّ فيُحجب عن الجنَّة" (3)، "حرم الله على النَّار من قال لا إِله إلَاّ الله
…
" (4). وغير ذلك، واحتجّوا على قتله بقوله تعالى: {فإِنْ تابوا وأقاموا الصَّلاة وآتَوُا الزكاة فخلّوا سبيلهم} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إلَاّ الله، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم" (6).
وتأوّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة"(7)، على معنى أنَّه
(1) أخرجه البخاري: 6878، ومسلم: 1676
(2)
النساء: 48
(3)
أخرجه مسلم: 26، 27
(4)
أخرجه مسلم: 29
(5)
التوبة: 5
(6)
أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 22
(7)
تقدّم تخريجه.
يستحق بترك الصَّلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنَّه محمول على المستحلّ، أو على أنَّه قد يؤول به إِلى الكفر، أو أن فِعله فِعل الكفّار والله أعلم".
وفي "مجموع الفتاوى"(22/ 40) لشيخ الإِسلام ابن تيمية: "وسُئل رحمه الله عن تارك الصَّلاة من غير عُذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟
فأجاب: أمَّا تارك الصَّلاة؛ فهذا إِن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنصّ والإِجماع، لكنْ إِذا أسلم ولم يعلم أنَّ الله أوجب عليه الصَّلاة، أو وجوب بعض أركانها؛ مِثل أن يصلّي بلا وضوء، فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلّي مع الجنابة فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه غُسل الجنابة، فهذا ليس بكافر إِذا لم يعلم.
وقال (ص 48): "وإِذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً، أو فاسقاً كفسّاق المسلمين؟ على قولين مشهورين؛ حُكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تُنقَل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإِنْ كان مقرّاً بالصَّلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها، يمتنع أن يصرّ على تركها حتى يقتل وهو لا يصلّي، هذا لا يُعرَف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قطّ في الإِسلام، ولا يعرف أنَّ أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له: إِنْ لم تصلّ وإِلَاّ قتلناك، وهو يصرّ على تركها، مع إِقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قطّ في الإِسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصَّلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها، ولا ملتزماً بفِعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلّت عليه النصوص الصحيحة.
كقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد وبين الكفر إلَاّ ترك الصَّلاة". رواه مسلم (1).
وقوله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركَها فقد كفَر". وقول عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كُفر إلَاّ الصَّلاة".
فمن كان مُصرّاً على تركها حتى يموت، لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون مسلماً مقرَّاً بوجوبها، فإِنّ اعتقاد الوجوب، واعتقاد أنّ تاركها يستحقّ القتل؛ هذا داعٍ تامٌّ إِلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإِذا كان قادراً ولم يفعل قطّ؛ علم أنَّ الداعي في حقّه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترْك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً.
فأمَّا من كان مُصرّاً على تركها لا يصلّي قطّ، ويموت على هذا الإِصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر النَّاس يصلّون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن" حديث عبادة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنّ؛ كان له عهد عند الله أنْ يدخله الجنّة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له عهد عند الله، إِنْ شاء عذّبه وإنْ شاء غفر له"(2).
(1) وتقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(410)، وغيرهما وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "المشكاة"(570)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"(363) و"السنّة" لابن أبي عاصم (967).
فالمحافظ عليها الذي يصلّيها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي ليس يؤخّرها أحياناً عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث".
وجاء (ص 53) -منه-: "وسئل عن رجل يأمره الناس بالصَّلاة ولم يصلّ فما الذي يجب عليه؟
فأجاب: إِذا لم يصلّ فإِنَّه يستتاب، فإِن تاب وإِلَاّ قُتل، والله أعلم".
ويظهر من كلام شيخ الإِسلام رحمه الله أنه قد قسم الناس إِلى أربعة أقسام:
1 -
الممتنع منها حتى يُقَتل؛ كما في قوله المتقدم: "ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل؛ لم يكن في الباطن مقراً لوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين".
2 -
المُصرّ على الترك؛ كما يظهر في قوله: "فمن كان مصراً على تركها حتى يموت؛ لا يسجد لله سجدةً قط؛ فهذا لا يكون مسلمأ مُقرّاً بوجوبها". بمعنى أنه يرى رحمه الله كُفره.
3 -
الذي لا يحافظ عليها ويظهر من قوله: "لكنّ أكثر الناس يُصلّون تارة ويتركونها تارة
…
" وهذا تحت المشيئة؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المشار إِليه آنفاً.
4 -
المؤمنون المحافظون على الصلاة، وهم أصحاب العهد في دخول الجنّة. وبهذا يرى شيخ الإِسلام رحمه الله أن الامتناع من الصلاة حتى القتل،
أو الإِصرار على الترك؛ قرينتان للكفر، فقد قال رحمه الله في الممتنع: "
…
لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها"، وقال رحمه الله في المُصرّ على الترك (22/ 48): "
…
فهذا لا يكون قطُّ مسلماً مقرّاً بوجوبها".
وبهذا ينحصر الخلاف في المُصرّ على الترك، وهو المُشكل في كل الأقسام، وعليه مدار البحث والنظر، وتحقيق مناط الحُكم مرتبِطٌ بتنقيح مناطه، ويعود الأمر إِلى الإِقرار بالوجوب وعدمه. وبالله التوفيق.
وجاء أيضاً في "مجموع الفتاوى"(24/ 285) -بحذف-: "وسُئل رحمه الله عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلّي، هل لأحد فيها أجر أم لا؟ وهل عليه إِثم إِذا ترَكها مع عِلمه أنه كان لا يصلّي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر، وما كان يصلّي؛ هل يجوز لمن كان يعلم حاله أنْ يصلّي عليه أم لا؟
فأجاب: أمّا من كان مظهِراً للإِسلام، فإِنّه تجري عليه أحكام الإِسلام الظاهرة؛ من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، لكن من عُلِم منه النفاق والزندقة، فإِنه لا يجوز لمن عَلِم ذلك منه الصلاة عليه؛ وإن كان مُظهِراً للإِسلام".
وقال (ص 286): "وكلّ من لم يُعلَم منه النفاق وهو مسلم؛ يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك".
وجاء (ص 287) منه: "وسُئل عن رجل يصلي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلّي هل يصلّى عليه؟
فأجاب: مثل هذا ما زال المسلمون يصلّون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلّي المسلمون عليهم، ويُغسَّلون، وتجري عليهم أحكام الإِسلام؛ كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِن كان من علم نفاق شخص؛ لم يجُز له أن يصلّي عليه، كما نُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على من عَلم نفاقَه، وأمّا من شُكّ في حاله؛ فتجوز الصلاة عليه، إِذا كان ظاهره الإِسلام".
وقال ابن القيّم رحمه الله في كتاب "الصلاة وحُكم تاركها"(ص 38) في المسألة الأولى -وقد رجّح استتابة تارك الصلاة: المسألة الثانية: "
…
أنه لا يقتل حتى يُدعى إِلى فِعلها فيمتنع".
فماذا إِذا لم يُدع ولم يُستَتب؟ وماذا إِذا لم يُهدَّد بالقتل من الحاكم، أيُحكَم عليه بالكفر، وهذا هو واقعنا مع الأسف، فتنبّه وتدبّر.
ومِثله ما جاء في "الاختيارات"(ص32) في ردّ شيخ الإِسلام رحمه الله على متأخري الفقهاء: "
…
إِذ يمتنع أن يعتقد أنّ الله فرَضها ولا يفعلها، ويصبر على القتل؛ هذا لا يفعله أحد قطّ" وقد سبقت الإِشارة إِلى مِثل هذا، وانظر "مجموع الفتاوى" (7/ 218) فإِن فيه تفصيلاً أكثر.
وجاء في "المرقاة"(2/ 276): "فمن تركها فقد كفر: أي: أظهر الكُفر وعمل عمل أهل الكُفر فإِنّ المنافق نفاقاً اعتقادياً كافر، فلا يُقال في حقّه كَفر".
وجاء في "الصحيحة"(1/ 174) -بحذف-: "فالجمهور على أنَّه لا يكفُر بذلك، بل يفسق، وذهب أحمد -في رواية- إِلى أنَّه يكفر، وأنَّه يُقتَل ردّة لا حدّاً، وقد صحّ عن الصحابة أنَّهم كانوا لا يرون من الأعمال شيئاً ترْكه كُفر غير الصَّلاة. رواه الترمذي والحاكم.
وأنا أرى أنَّ الصواب رأي الجمهور، وأنّ ما ورَد عن الصحابة ليس نصّاً على أنَّهم كانوا يريدون بـ (الكفر) هنا الكفر الذي يُخلِّد في النار
…
ثمَّ وقفْتُ على "الفتاوى الحديثة"(84/ 2) للحافظ السخاوي، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصَّلاة -وهي مشهورة معروفة-: "ولكن؛ كل هذا إِنَّما يُحمل على ظاهره في حقّ تاركها جاحداً لوجوبها، مع كونه ممَّن نشأ بين المسلمين؛ لأنَّه يكون حينئذ كافراً مرتدّاً بإِجماع المسلمين، فإِنْ رجع إِلى الإِسلام؛ قُبِل منه وإِلَاّ قُتل.
وأمّا من تركَها بلا عذر بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها؛ فالصحيح المنصوص الذي قطَع به الجمهور أنَّه لا يكفر، وأنَّه -على الصحيح أيضاً بعد إِخراج الصَّلاة الواحدة عن وقتها الضروري؛ كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس، أو المغرب حتى يطلع الفجر؛ يستتاب كما يستتاب المرتدّ، ثمَّ يُقتل إِن لم يَتُب، ويُغسل ويصلَّى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين، مع إِجراء سائر أحكام المسلمين عليه (1)، ويؤول إِطلاق الكفر عليه لكونه شاركَ الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب العمل؛ جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صحّ أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "خمس صلوات كتبهنّ الله
…
(فذكر الحديث، وفيه:) إِنْ شاء عذبه، وإِن شاء غفر له"، وقال أيضاً: "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلَاّ الله؛ دخل الجنّة" إِلى غير ذلك
…
ولهذا لم يزل المسلمون يَرِثون تارك الصَّلاة ويورّثونه، ولو كان كافراً؛ لم يُغفر له؛ لم يَرِث ولم يُورَث".
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان عبد الله في "حاشيته على المقنع"
(1) سيأتي كلام شيخنا في إِبطال هذا؛ عما قريب -بإِذن الله تعالى-.
(1/ 95 - 96)، وختم البحث بقوله:"ولأنَّ ذلك إِجماع المسلمين، فإِننا لا نعلم في عصرٍ من الأعصار أحداً من تاركي الصَّلاة تُرك تغسيلُه والصَّلاة عليه، ولا مُنع ميراث موروثه، مع كثرة تاركي الصَّلاة، ولو كَفَر؛ لثبتت هذه الأحكام، وأمَّا الأحاديث المتقدمة؛ فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكافر لا على الحقيقة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "سِباب المسلم فسوق وقتاله كُفر" (1)، وقوله: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (2)، وغير ذلك. قال الموفق: وهذا أصوب القولين".
أقول [أي: شيخنا -حفظه الله-]: نقلْت هذا النص من "الحاشية" المذكورة، ليعلم بعض متعصّبة الحنابلة أن الذي ذهَبْنا إِليه ليس رأياً لنا تفرَّدْنا به دون أهل العلم، بل هو مذهب جمهورهم، والمحققين من علماء الحنابلة أنفسهم؛ كالموفّق هذا -وهو ابن قدامة المقدسي- وغيره؛ ففي ذلك حُجّة كافية على أولئك المتعصبة، تَحْمِلُهم إِنْ شاء الله تعالى على ترك غلَوائهم، والاعتدال في حُكمهم.
بيد أنَّ هنا دقيقة قَلَّ من رأيته تنبّه لها، أو نبّه عليها، فوجب الكشفُ عنها وبيانها، فأقول:
إِنَّ التارك للصلاة كسَلاً؛ إِنَّما يصح الحكم بإِسلامه، ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه، أو يدلّ عليه، ومات على ذلك قبل أن يستتاب؛ كما هو الواقع في هذا الزمان، أمَّا لو خُيِّر بين القتل والتوبة بالرجوع إِلى
(1) أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64
(2)
أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2787)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي"(1241) وغيرهم، وانظر "الإِرواء"(2561).
المحافظة على الصَّلاة، فاختار القتل عليها، فقُتل؛ فهو في هذه الحالة يموت كافراً، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا تَجري عليه أحكامهم؛ خلافاً لما سبق عن السخاوي؛ لأنَّه لا يُعقل -لو كان غير جاحد لها في قلبه - أن يختار القتل عليها، هذا أمر مستحيل معروف بالضرورة من طبيعة الإِنسان، لا يحتاج إِثباته إِلى برهان". انتهى.
وكم أعجبني قول بعض طلاب العلم: "إِنَّ ممّا أخشاه أن يكون المكفّرون لتارك الصلاة مطلقاً؛ قد عظّموا الصَّلاة أكثر من الشهادتين".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "أُمِرَ بعبد من عباد الله أن يضربَ في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجُلدَ جلدةً واحدةً، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه وأفاق قال: على ما جلدتموني؟ قالوا: إِنّك صليت صلاةً واحدةً بغير طهورٍ، ومررتَ على مظلومٍ فلم تنصره"(1).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- من فقه الحديث: قال الطحاوي عقبه: "فيه ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً، لأنّه لو كان كافراً لكان دعاؤه باطلاً لقول الله تعالى:{وما دعاء الكافرين إلَاّ في ضلال} .
ونقله عنه ابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 239)، وأقره، بل وأيده بتأويل الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة على أن معناها: "من ترك الصلاة جاحداً لها معانداً مستكبراً غير مقرّ بفرضها. وألزم من قال بكفره بها وقبلها
(1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وغيره، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة"(2774).
على ظاهرها فيهم أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني و
…
و .. إِلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث لا يُخرج بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِن كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أن تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك".
وفي "المغني"(2/ 298) بحثٌ نفيسٌ فارجِع إِليه -إِن شئت-.
ثمَّ رأيتُ ردّاً للشيخ علي الحلبي -حفظه الله- على من يقول بتكفير تارك الصلاة إِذا كان غير جاحد لوجوبها، ذكر فيه عدداً من الحجج والبراهين من ذلك:
1 -
في كتاب "الجامع"(2/ 546 - 547) للخلاّل، عن إِبراهيم بن سعد الزّهري، قال: سألتُ ابن شهابٍ عن الرجل يترك الصلاة؟ قال: "إِنْ كان إِنّما يتركها أنه يبتغي ديناً غير الإِسلام قُتل، وإِنْ كان إِنّما هو فاسق من الفُسّاق، ضُرب ضرباً شديداً أو سُجن".
2 -
قال الإِمام ابن المنذر في كتاب "الإِجماع"(ص 148) في مسألة تارك الصلاة: "لم أجِدْ فيها إِجماعاً"(1) أي: على كُفره.
3 -
نَقَلَ الحافظ محمد بن نصر المقدسيّ عن ابن المبارك قولَه في تكفير تارك الصلاة -في كتابه "تعظيم قدر الصلاة"(2/ 998) -، ثمَّ قال: "فقيل
(1) ومِثله ما ذَكَره في مقدّمة كتاب "حكم تارك الصلاة" لشيخنا عن الإِمام محمد ابن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- فقد قال كما في "الدُّرر السنيّة"(1/ 70) - جواباً على من قال عمّا يُكَّفَّر الرجل به؟ وعمّا يقاتَل عليه؟: "أركان الإِسلام الخمسة؛ أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة؛ إِذا أقرَّ بها وتركها تهاوناً، فنحن وإنْ قاتلناه على فِعلها فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نكَفّر إلَاّ ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".
لابن المبارك: أيتوارثان إِنْ مات؟! أو إِن طَلَّقها يقع طلاقُهُ عليها؟ فقال: أمّا في القياس؛ فلا طلاق ولا ميراث، ولكنْ أَجْبُنُ"
…
4 -
قال الإِمام ابن القيّم في "كتاب الصلاة"(ص 55): "وها هنا أصل آخر، وهو أنّ الكفر نوعان: كُفر عمل، وكُفر جحود وعناد. فكُفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرسول جاء به من عند الله جُحوداً وعناداً من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضادُّ الإِيمان من كل وجه، وأما كُفر العمل، فينقسم إِلى ما يضادّ الإِيمان، وإِلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، وقتل النّبيّ وسّبه يضادّ الإِيمان.
وأمّا الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن يُنفى عنه اسم الكفر؛ بعد أنْ أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنْ هو كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يُسمّي الله -سبحانه- الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويُسمّي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً، ولا يُطلِق عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإِيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمّن لا يأمن جاره بوائقه، وإِذا نفي عنه اسم الإِيمان، فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كُفر الجحود والاعتقاد، وكذلك قوله:"لا ترْجِعوا بعدي كُفّاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض"(1) فهذا كُفر عمل (2) ".
(1) أخرجه البخاري: 6868، ومسلم: 66
(2)
قلت: ولا يخفى ما يقوله ابن القيّم -فيما يظهر من كلامه- تبعاً لشيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- أنه يُعلّق الكفر على تحقُّق الترك، والإِصرار عليه؛ باعتبارهما قرينة على عدم الإِقرار بالوجوب.
5 -
قال الإِمام الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان"(4/ 347) -بعد نقاشٍ طويلٍ في المسألة، وسَرْدٍ مستوعب لأدلة المكفِّرين، وغيرهم-: "هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمداً؛ مع الاعتراف بوجوبها. وأظهر الأقوال أدلة عندي: قول من قال إِنه كافر، وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور: إِنه كُفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إِذا أمكن.
وإِذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج من الملة؛ حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إِذا أمكن؛ لأن إِعمال الدليلين أولى من إِلغاء أحدهما؛ كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث.
وقال النووي في "شرح المهذب" -بعد أن ساق أدلة من قالوا إِنه غير كافر ما نصه-: "ولم يزل المسلمون يورّثون تارك الصلاة ويوَرِّثون عنه، ولو كان كافراً لم يغفر له ولم يرث ولم يورث".
من أجل هذا؛ عدّ الإِمام ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد"(1/ 228) قول مكفّري تارك الصلاة: "
…
مضاهياً لقول من يكفّر بالذنوب".
ولعلّه -من أجل ذا- قال العلامة أبو الفضل السَّكْسَكي في كتابه "البرهان"(ص 35): "إِنّ تارك الصلاة -إِذا لم يكن جاحداً- فهو مسلم -على الصحيح من مذهب أحمد- وأنّ المنصورية يسمّون أهل السنّة مرجئة؛ لأنهم يقولون بذلك، ويقولون: هذا يؤدي إِلى أن الإيمان
عندهم قول بلا عمل"!
6 -
قال الإِمام ابن عبد البّر في "التمهيد"(4/ 236) مُلزِماً مكفّري تارك الصلاة -لمجرّد العمل-: "ويلزم من كَفَّرهم بتلك الآثار (1) وقبلها على ظاهرها فيهم: أن يكفِّر القاتل، والشاتم للمسلم، وأن يكفِّر الزاني، وشارب الخمر، والسارق، والمنتهب، ومن رغب عن نسب أبيه.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن
…
" (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإِنّه كُفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم"(4).
وقال أيضاً: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(5).
إِلى آثار مِثل هذه لا يُخرجُ بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِنْ كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أنْ تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك".
(1) منها حديث بُريدة بن الخصيب -مرفوعاً-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كَفر"، وتقدّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64، وتقدّم.
(3)
أخرجه البخاري: 6810، ومسلم: 57
(4)
أخرجه البخاري: 6768، ومسلم: 62
(5)
تقدّم.
7 -
قال الإِمام عبد الحقِّ الإِشبيلي في كتابه "الصلاة والتهجّد"(ص 96): "
…
وذهب سائر المسلمين من أهل السنّة -المحدثين وغيرهم- إِلى أن تارك الصلاة متعمداً، لا يكفر بتركها، وأنه أتى كبيرة من الكبائر إِذ كان مؤمناً بها، مُقرّاً بفرضها، وتأولوا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقول عمر، وقول غيره ممن قال بتكفيره، كما تأولوا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(1)، وغير ذلك مما تأوّلوه، ومن قال بقتل تارك الصلاة من هؤلاء، فإِنما قال: يقتل حدّاً، ولا يقتل كفراً، وإِلى هذا ذهب مالك والشافعي وغيرهما.
8 -
ويقول الحافظ العراقي في "طرح التثريب"(2/ 149): "وذهب جمهور أهل العلم إِلى أنه لا يكفر بترك الصلاة -إِذا كان غير جاحد لوجوبها-، وهو قول بقية الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد بن حنبل -أيضاً-". انتهى كلام الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-.
قلتُ: ومهما يكن مِن أمر؛ فإِنه لا ينبغي أن نختلف في هذه المسألة، أو نجعل فيها ولاءً وبراءً -إِذ الخلاف شرٌّ- وهذه من مسائل الاجتهاد، والذي ينبني على هذه المسألة أمران:
1 -
أمْرٌ يتعلّق بجزاء تارك الصلاة عند اللَّه -تعالى- أيخلُد في النّار أم لا؟ وليس لنا من هذا الأمر شيء.
2 -
وأمْرٌ يتعلق بإِجراء الأحكام عليه في الدنيا، وينقسم إِلى قسمين:
أ- ما ينبني عليه من إِجراء أحكام الكافر؛ كمنع الميراث، وتطليق زوجته، وعدم دفنه في مقابر المسلمين عند موته
…
إِلخ.
(1) تقدّم تخريجه.