الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التغليس (1) بصلاة الفجر
يستحبُّ
التغليس بصلاة الفجر
؛ بأن تُصلّى في أوّل وقتها، كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها:
حديث أبي مسعود البدري: "أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح مرّة بغلس، ثمَّ صلّى مرّة أخرى فأسفَر بها، ثمَّ كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إِلى أن يسفر"(2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدنَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مُتَلَفِّعاتٍ بمروطهنَّ، ثمَّ ينقلبنَ إِلى بيوتهنَّ حين يقضين الصلاة؛ لا يعرفهنَّ أحدٌ من الغَلَس"(3).
(1) الغَلس: ظُلمة آخر الليل كما تقدّم، والمراد بالتغليس هنا: المبادرة بصلاة الفجر في أوّل وقتها.
(2)
أخرجه أبو داود بسند حسن كما قال النووي وابن حبان في "صحيحه"(378) وصححه الحاكم والخطابي والذهبي وغيرهم، كما بيّنه شيخنا -حفظه الله تعالى- في "صحيح سنن أبي داود"(378)، وقال: "والعمل بهذا الحديث هو الذي عليه جماهير العلماء؛ من الصحابة والتابعين والأئمّة المجتهدين
…
"، وانظر "الضعيفة" (2/ 372).
ومعنى إِلى أن يُسفر: "أي: ينكشف ويُضيء فلا يُشَكُّ فيه، وسيأتي شرحه قريباً -إِن شاء الله- في حديث: "أسفروا بالفجر
…
"، وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 381): "وقال بعضهم: معروف في كلام العرب قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، وأسفري عن وجهك، أي: اكشفي".
(3)
أخرجه البخاري: 578، ومسلم: 645، وغيرهما.
قال الحافظ في "الفتح"(2/ 55): " (كنَّ): قال الكرماني: هو مِثل (أكلوني =
وفي رواية: "وما يعرف بعضنا وجوه بعض"(1).
ولا يُعارض هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا (2) بالفجر؛ فإِنَّه أعظم
= البراغيث) لأنَّ قياسه الإِفراد وقد جُمِع. قوله (نساء المؤمنات): تقديره نساء الأنفس المؤمنات أو نحوها، ذلك حتى لا يكون من إِضافة الشيء إلى نفسه، وقيل: إِنَّ (نساء) هنا بمعنى الفاضلات، أي: فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي: فضلاؤهم. وقوله (لا يعرفهن أحد)، قال الداودي: معناه: لا يُعرفن أنساء أم رجال، أى: لا يظهر للرائي إلَاّ الأشباح خاصّة، وقيل: لا يُعرف أعيانهن فلا يُفرّق بين خديجة وزينب، وضعّفه النووي بأنّ المتلفّعة في النهار لا تعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة، وتعقّب بأن المعرفة إِنما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد الأول لعبَّر بنفي العِلم، وما ذكر من أن المتلفّعة بالنهار لا تُعرف عينُها فيه نظر، لأنَّ لكلّ أمرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مُغطّى.
وقال الباجي: هذا يدلّ على أنهنّ كنّ سافرات، إِذ لو كنَّ متنقّبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهنّ لا الغلس.
قلت: وفيه ما فيه، لأنَّه مبني على الاشتباه الذي أشار إِليه النووي، وأمّا إِذا قلنا إِنَّ لكل واحدة منهن هيئة غالباً فلا يلزم ما ذكر. والله أعلم.
والمروط: جمع مِرط بكسر الميم وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك، وقيل: لا يسمى مِرْطاً؛ إلَاّ إِذا كان أخضر، ولا يلبسه إلَاّ النساء، وهو مردود بقوله مِرْط من شعر أسود، وقوله: ينقلبن أي: يرجعن".
(1)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسند صحيح عنها. عن " جلباب المرأة المسلمة"(ص 66).
(2)
أسفر الصبح إِذا انكشف وأضاء. قالوا: يُحتمل أنهم حين أمرهم بتغليس صلاة الفجر في أوّل وقتها؛ كانوا يصلّونها عند الفجر الأوّل حرصاً ورغبةً، فقال: أسفِروا بها =
للأجر" (1).
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح"(2/ 55): "وأمّا ما رواه أصحاب السنن وصحّحه غير واحد من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفِروا بالفجر فإِنَّه أعظم للأجر"، فقد حَمَله الشافعي وغيره على أنَّ المراد بذلك تحقُّق طلوع الفجر، وحَمله الطحاوي على أنَّ المراد الأمر بتطويل القراءة فيها؛ حتى يخرج من الصلاة مُسفِراً، وأبعَدَ من زَعمَ أنَّه ناسخ للصلاة في الغلس".
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء"(1/ 286): "قال الترمذي عقب الحديث: وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين الإِسفار بصلاة الفجر. وبه يقول سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد وإِسحاق: معنى الإِسفار: أن يتضح الفجر، فلا يُشكّ فيه، ولم يرو أنَّ معنى الإِسفار تأخير الصَّلاة".
قلت [الكلام لشيخنا -حفظه الله-]: "بل المعنى الذي يدل عليه مجموع ألفاظ الحديث إِطالة القراءة في الصَّلاة حتى يخرج منها في الإِسفار، ومهما أسفَر فهو أفضل وأعظم للأجر؛ كما هو صريحُ بعضِ الألفاظ المتقدمة، فليس معنى الإِسفار إِذن هو الدخول في الصَّلاة في وقت الأِسفار؛ كما هو
= أي: أخّروها إِلى أن يطلع الفجر الثاني وتتحققوه. وقيل: إِن الأمر بالإسفار خاصٌ في الليالي المقمرة؛ لأنَّ أوّل الصبح لا يتبّين فيها، فأُمروا بالأِسفار احتياطاً. "النهاية" بحذف يسير.
(1)
أخرجه أحمد وأبو داود والدارمي وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الإرواء"(258)، وذكر له طُرقاً وشواهد عديدة.
مشهور عن الحنفية، لأنَّ هذا خلاف السنّة الصحيحة العملية التي جرى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدَّم في الحديث الذي قبله، ولا هو التحقّق من دخول الوقت كما هو ظاهر كلام أولئك الأئمّة، فإِنَّ التحقق فرْض لا بد منه، والحديث لا يدلّ إلَاّ على شيء هو أفضل من غيره، لا على ما لا بدّ منه كما هو صريح قوله: "
…
فإِنَّه أعظم للأجر"، زِدْ على ذلك أنَّ هذا المعنى خلاف قوله في بعض ألفاظ الحديث: "
…
فكلّما أصبحتم بها فهو أعظم للأجر".
وخلاصة القول؛ أنَّ الحديث إِنّما يتحدّث عن وقت الخروج من الصلاة، لا الدخول، فهذا أمر يُستفاد من الأحاديث الأخرى، وبالجمع بينها وبين هذا: نستنتج أنَّ السنَّة الدخول في الغلس والخروج في الإِسفار، وقد شرح هذا المعنى الإِمام الطحاوي في "شرح المعاني"، وبيّنه أتمّ البيان بما أظهر أنَّه لم يُسبَق إِليه، واستدلّ على ذلك ببعض الأحاديث والآثار، وختم البحث بقوله: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإِسفار؛ على موافقة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهو قول أبي حنيفة وأيي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله تعالى-.
وقد فاتهَ رحمه الله أصرح حديث يدلّ على هذا الجمع؛ منْ فِعْله عليه الصلاة والسلام وهو حديث أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي، .. الصُّبح إِذا طلَع الفجر إِلى أن ينفسح البصر".
أخرجه أحمد بسند صحيح كما تقدَّم بيانه في آخر تخريج الحديث السابق. وقال الزيلعي (1/ 239): "هذا الحديث يُبطلِ تأويلهم الإِسفار بظهور الفجر" وهو كما قال -رحمه الله تعالى-". انتهى ولشيخ الإِسلام