الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعاً: الجواب عن طعن أعداء السنة فى أحاديث طاعة أولى الأمر
، وأحاديث الفتن
ما زعمه أعداء السنة من أن أحاديث طاعة أولى الأمر، وأحاديث اجتناب الفتن وضعها أهل الحديث لتثبيت أنظمة الحكم، فتلك دعوى يردها النقل والنظر.
…
يقول الأستاذ الصديق بشير: "فأما النقل: فإن الأحاديث التى ذكروها - ومعظمها فى الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهى تدعو إلى طاعة الحكام والأمراء، وتدعوا إلى اجتناب الفتن، والنجاة من شرورها، ويظن أنها وضعت من أجل تثبيت الحكام، إما بطاعتهم، أو باعتزال الأمر وتركه، فهذه الأحاديث لو افترضنا جدلاً صحة ادعائهم، فالقرآن الكريم يؤكدها ويصدقها، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ووجوب طاعة ولى الأمر بطاعته لله ورسوله، وقول تعالى: ذاماً الفتن ومحذراً من الارتكاس فيها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) . وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (3) . وكون الفتنة أشد من القتل لأن شرورها لا تنقطع كالنار لا تبقى على شئ. فهذا إذن أكبر دليل على أن مجموع تلك الأحاديث التى تحض على الطاعة، وتجنب الفتن سبقت الخلافات والنزاع حول الحكم.
…
وأما النظر: فإنه يكذب هذا الادعاء، لأن اجتماع الفقهاء أو أهل الحديث أو جمعيهم على وضع هذه المبادئ كما يسميها"جولدتسيهر" ويقول بها الرافضة، ومن قال بقولهم.لا يمكن أن يتحقق، واجتماعهم على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتأتى. ففى زمن بنى أمية كان هناك كثير من الصحابة أمثال: أنس بن مالك (ت93هـ) ، وعبد الله بن عمر (ت 73هـ) ، وعبد الله ابن عباس (ت 68هـ) ، وأبو هريرة (ت 59هـ) ، وعبد الله بن عمرو (ت 65هـ) ، والنعمان بن بشير (ت 64هـ) .
(1) الآية 59 من سورة النساء.
(2)
الآية 25 من سورة الأنفال.
(3)
جزء من الآية 191 من سورة البقرة.
.. وكان هناك عدد كبير من الفقهاء والأعلام أمثال: سعيد بن المسيب (ت 91هـ) ، وعروة بن الزبير (ت 94هـ)، وخارجة بن زيد (ت 100هـ) وبقية الفقهاء السبعة المشهورون. وأمثال: سالم بن عبد الله (ت 106هـ) ، والشعبى (ت 105هـ) ، وابن سيرين (110هـ) ، وهذه الدولة العباسية بدأت بخلافة أبى العباس السفاح سنة (132هـ) ، وكان ممن حضر قيامها من أئمة الفقهاء ربيعة الرأى (ت 134هـ) ، وعطاء الخراسانى (ت 135هـ) والأوزاعى (ت 157هـ) ، وأئمة المذاهب الأربعة.
…
فهل من الممكن أن يتفق أمثال هؤلاء – وهم من هم فى الورع والعلم – على تثبيت نظام من الأنظمة، ودعوة الناس إلى مؤازرته والخضوع له، ولو أدى بهم ذلك إلى اختلاق الأحاديث، لتأكيد هذه الدعوة، وكأنهم شرذمة من المتآمرين؟! وإذا صح لغيرهم أن يفعلوا ذلك، فهل يرضى هؤلاء بذلك، وهم يعلمون أنه خطر يهدد الإسلام، وأن السكوت عليه خيانة للمسلمين؟!
…
وكيف ترضى الفرق الأخرى التى تنازع نظام الحكم القائم بهذا الصنيع وهى تعلم أنه دس واختلاق؟! والعقل يقول: إنه لو أحس هؤلاء بأن تلك الأحاديث موضوعة لغرض تثبيت نظام الحكم الذى ينازعونه لشنعوا بذلك أيمَّا تشنيع، ولشهَّروا بواضيعها أيما تشهير، ولكن هذا لم يوجد؛ لأنه لم يصح إلا فى ذهن الرافضة وجولدتسهير، ومن تبعهم فى ملتهم من أبناء جلدتنا. وكيف فاتهم أن عصر بنى أمية وبنى العباس لم يخل من علماء نقد الحديث، وهم علماء الجرح والتعديل أمثال: شعبة بن الحجاج (ت 159هـ) ، وسفيان الثورى (ت 161هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدى (ت 198هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (ت 198هـ) ، وهم وغيرهم الذين غربلوا الحديث، وحذفوا الموضوعات وأظهروها، فهل غابت عنهم تلك الأحاديث التى ذكرها أعداء الإسلام، ومعظمها فى الصحيحين، حتى يأتى أدعياء العلم فى آخر الزمان ليبينوا لنا أنها موضوعة؟!
ثم ما المنهج الذى اتبعوه فى النقد؟ ليس ثمة منهج إلا مجموعة أفكار فاسدة وهواجس تعشعش فى أذهانهم، ولو افترضنا أن أعداء الإسلام لا يقصدون أنهم وضعوا هذه الأحاديث، أى اختلقوها فإن مجرد تسخيرهم لها لتثبيت دعائم الحكم الأموى مرة، والحكم العباسى مرة أخرى، مسبة أيضاً، وفرية لا يقولها عاقل!
…
كما أن إشاعة هذه الأحاديث النبوية مصلحة للناس قبل أن تكون مصلحة للحكام؛ لأنه فى أغلب الفتن لا يتأذى بويلاتها إلا الناس، ولا يبلغ الحكام إلا دخانها، وفى الفتن تختلط الأمور وتتداخل، فيدعى كل طرف فيها أنه على حق، وأن غيره على باطل، ومن لم يتبين أى الأطراف على حق، كان أولى به أن يعتزل الفتن، وهو الصواب.
…
كما أن هذا الدين الحنيف جاء داعياً إلى التكتل والجماعة، وحذر من الفرقة والانقسام لأن هلاك المسلمين فى تفرقهم شيعاً وأحزاباً، يقول تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3) .
…
والأحاديث النبوية التى تدعوا إلى الجماعة، وعدم الخروج عنها توضح هذه الحقيقة القرآنية، حقيقة أن فساد أمر المسلمين بافتراقهم، وهى حقيقة يعيها جيداً أعداء الإسلام، إلَاّ أنهم يتجاهلون هذه الحقيقة ليزعموا أن هذه الأحاديث موضوعة، لخدمة الحكام، وذلك بعدم دفع المسلمين إلى الخروج على الحكام ولو كانوا جائرين، وتجاهلوا أن: من عقيدة المسلمين عدم الخروج على السلطان لجور أو ظلم ما لم يأمر بمعصية.
(1) الآية 103 من سورة آل عمران.
(2)
الآية 159 من سورة الأنعام.
(3)
الآية 105 من سورة آل عمران.
يقول الإمام الطحاوى فى عقيدته: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة"(1) .
…
ويقول شارح العقيدة الطحاوية: "فقد دل الكتاب، والسنة على وجوب طاعة أولى الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) كيف قال: وأطيعوا الرسول، ولم يقل: وأطيعوا أولى الأمر منكم! لأن أولى الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول؛ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم فى ذلك، وأما ولى الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
…
وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم (3) وقل من خرج على إمام إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم ما تولد من الخير، يقول ابن تيمية فى حكم قتل الأئمة والخروج عليهم:"إن من قال: إن قتلهم حد، قال: إن جنايتهم؛ توجب من الفتنة، والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال"(4) .
(1) شرح العقيدة الطحاوية 2/111.
(2)
جزء من الآية 59 من سورة النساء.
(3)
شرح الطحاوية 2/114.
(4)
منهاج السنة 3/201.
.. وأخيراً: بماذا يفسر أعداء الإسلام، ما رواه من طعنوا فيهم من المحدثين، من أحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"(1)،ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(2) . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"(3) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر: والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف فى الله لومة لائم"(4) .
ماذا يقول أعداء الإسلام فى هذه الأحاديث التى ظاهرها مجابهة السلطان إذا أمر بالمعاصى، أو استحلها، أو عطل حداً من حدود الله؟!
(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الملاحم، باب الأمر والنهى4/124رقم4344،والترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر 3/409 رقم 2174.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب كون النهى عن المنكر من الإيمان 1/296 رقم 49 من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية 6/466 رقم 1839 من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 13/204 رقمى 7199، 7200، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى معصية 6/468 رقم 1709 واللفظ له.
.. إن الذين رووا هذه الأحاديث، هم أنفسهم الذين رووا تلك الأحاديث التى ينكرونها، فكيف لهم الخروج من هذه الورطة التى أوقعوا أنفسهم فيها؟ إن طاعة ولى الأمر ليست على الإطلاق، بل هى مقيدة بطاعته لله ورسوله، تلك الطاعة التى لا تكون إلا بإقامة حكم الله فى الناس.
وهذا يبين أنه ليس ثمة مصلحة لهؤلاء المحدثين، والفقهاء، إلا خدمة هذا الدين، وليسوا أداة فى أيدى الحكام يسخرونها متى شاؤوا وكيف شاؤوا (1) .
بل كانوا حفظة الشريعة وحراس الأرض، ولولاهم لدرس الإسلام، فهم فرسان هذا الدين الذين وقفوا بالمرصاد لحركة الوضاعين من أعداء الإسلام، وأسفر صمودهم عن أدق منهج، وأحكمه فى نقد الروايات وتمحيصها، والتمييز بين غثها وسمينها، فأبلوا فى ذلك أحسن البلاء وبرزوا فى هذا المضمار، واستحدثوا فيه العلوم وقعدوها، وضبطوها وأَصَّلوها، وجاؤوا بالعجب العجاب فى حفظ السنة المطهرة (2) . فكانوا آية تصدق آية {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) أ. هـ.
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
(1) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 342 - 347 بتصرف، وانظر: مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 8/579 - 583، وللاستزادة فى الجواب عن هذه الشبهة انظر: منهج السنة فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم لفضيلة الأستاذ الدكتور يحيى إسماعيل حبلوش.
(2)
الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث فى القرن الثانى الهجرى للدكتور عبد المجيد محمود ص3 بتصرف.
(3)
الآية 9 من سورة الحجر.