الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. ومما هو جدير بالذكر أن رب العزة قد بين فى كتابه العزيز أن نوعى الوحى المعبر عنهما بالكتاب والسنة ليسا من المسائل الخاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم وإنما هى سنة عامة فى الأنبياء جميعاً قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَاءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) ويقول رب العزة فى حق آل إبراهيم: {فَقَدْءَاتَيْنَاءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (2) ويقول عز وجل فى حق عيسى عليه السلام: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) .
السنة النبوية وحى من الله تعالى:
…
ذهب العلماء إلى أن الوحى بالنسبة إلى السنة المطهرة ينقسم إلى قسمين:
1-
القسم الأول: قسم أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده. وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية.
أما القسم الثانى: فهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح. أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك.
(1) الآية 81 من سورة آل عمران.
(2)
الآية 54 من سورة النساء.
(3)
الآية 110 من سورة المائدة.
والقسم الثانى هذا هو الأقل فى السنة الشريفة (1) ويدخل فى هذا القسم ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة والطبيعة وأقره الله عليها، كشؤونه فى طعامه وشرابه ولباسه، وجلوسه ونومه وما ماثل ذلك، فإن ذلك كله بعد تقرير الله عز وجل له، يكون بمنزلة الوحى حجة على العباد ما لم يقم دليل على خصوصيته بالنبى صلى الله عليه وسلم (2) .
ومن الأدلة على أن السنة النبوية وحى منزل من عند الله عز وجل قوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (3) فهذه الآية-من سورة النساء-تدل على أن الحكمة نزلت من عند الله تعالى مثل القرآن الكريم، وفى سورة الإسراء يقول رب العزة:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (4) . والآية واضحة فى أن الحكمة وحى من الله تعالى مثل القرآن الكريم.
(1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 54
(2)
حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى ص 340 بتصرف.
(3)
الآية 113 من سورة النساء.
(4)
الآية 39 من سورة الإسراء.
.. ومن دقة الأداء القرآنى فى التعبير عن هذين النوعين من الوحى (الكتاب والسنة) ؛ أنه فصل بينهما بواو العطف إذا اجتمعا، ليبين أن هذين النوعين مختلفان لضرورة التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، فالمنطق يقتضى أن الشئ لا يعطف على نفسه وصاحب العقل الفصيح يلمح الإشارة فى قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) حيث فرق رب العزة، بين الكتاب والحكمة بحرف العطف ليدل على تغايرهما، وأفرد الضمير العائد عليهما، ليدل على وحدة مصدرهما وأن المشكاة واحدة (2) .
(1) الآية 231 من سورة البقرة.
(2)
السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 66 بتصرف، وفيما سبق رد على ما زعمه مؤلف لماذا القرآن أن أفراد الضمير دليل على أن الحكمة هى القرآن، ولو كانت شيئاً آخر غير القرآن لقال يعظكم بهما، انظر: لماذا القرآن لأحمد صبحى منصور ص 28.
وأنت تستطيع أن تتأمل فى أية الأحزاب، كما تأملها الإمام الشافعى من قبل، يتضح لك أنها أوضح مما ذكر فى الدلالة على أن المراد بالحكمة السنة المطهرة، قال تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) . فالتلاوة هنا المرة بعد المرة، والمتلو هنا شيئان، أولهما: آيات الله فى كتابه، وثانيهما: الحكمة وهى صنف آخر من الوحى المتلو، ولا يكون ذلك إلا السنة النبوية المطهرة (2) .
(1) الآية 34 من سورة الأحزاب.
(2)
السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 67، وأنظر: الرسالة للإمام الشافعى ص 78، 79 فقرات رقم 252 - 257، والفقيه والمتفقه للخطيب 1/258 رقم256، ومختصر الصواعق المرسلة لابن قيم 2/511، والمدخل إلى السنن للبيهقى حيث نقل بأسانيده عن الحسن، وقتادة، ويحيى بن أبى كثير رحمهم الله – أنهم قالوا الحكمة فى هذه الآية يقصد آية "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ"هى السنة، وللإستزادة انظر: السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص32-46.
.. ولو شغب أعداء الإسلام على تفسير "الحكمة" بالسنة المطهرة، واعترضوا على ذلك (1) . قلنا لهم: ماذا تقولون فى آيات تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، قال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
…
فهذه الآيات الكريمات تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس كان مشروعاً من قبل، وكان ذلك التوجه حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحول إلى الكعبة، فأين ذلك كله فى القرآن الكريم؟
…
ألا يدل ذلك على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا عاملين بحكم لم ينزل به القرآن، وأن عملهم هذا كان حقاً وواجباً عليهم؟!!
(1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/908 مقال الدكتور توفيق صدقى "الإسلام هو القرآن وحده" والصلاة لمحمد نجيب ص277، وأصول الفقه المحمدى لشاخت نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/665، قرآن أم حديث ص 29، والقرآن والحديث والإسلام ص 6 كلاهما لرشاد خليفة،= =والصلاة فى القرآن ص 12، 14، ولماذا القرآن ص 26 - 28 كلاهما لأحمد صبحى منصور، والإمام الشافعى نصر أبو زيد ص 89، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 568، والدولة والمجتمع ص232-235،كلاهما لمحمد شحرور، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص75-78، وإنذار من السماء نيازى عز الدين ص 95 وما بعدها، ودليل المسلم الحزين لحسين أحمد أمين ص 44، وتبصير الأمة بحقيقة السنة لإسماعيل منصور ص 21، 114، 117،320.
(2)
الآيات 142 - 144 من سورة البقرة.
.. ولا يصح أن يقال: إن عملهم هذا كان بمحض عقولهم واجتهادهم. إذ العقل لا يهتدى إلى وجوب التوجه إلى قبلة "ما" فى الصلاة، فضلاً عن التوجه إلى قبلة معينة، وفضلاً عن أن النبىصلى الله عليه وسلمكان أثناء صلاته إلى بيت المقدس راغباً كل الرغبة فى التوجه إلى الكعبة المشرفة
…
إذن: كان التوجه إلى بيت المقدس بوحى غير القرآن وهو السنة المطهرة (1) . ومن الأدلة على أن السنة النبوية وحى من عند الله من السنة نفسها قوله صلى الله عليه وسلم لوالد الزانى بامرأة الرجل الذى صالحه على الغنم والخادم، والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد. وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام" (2) ، وليس فى القرآن المتلوا إلا الجلد مائة، ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يستبطئن أحد منكم رزقه". إن جبريل عليه السلام ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه؛ فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية"(3) .
(1) حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى ص 336 بتصرف.
(2)
سبق تخريجه ص 222.
(3)
أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب البيوع2/5رقم 2136من حديث ابن مسعود وسكت عنه هو والذهبى، وأخرجه الحاكم فى نفس الأماكن السابقة من حديث جابر بن عبد اللهرضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبى، وانظر: الرسالة للإمام الشافعى ص93فقرة رقم306.
.. وفى الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أخاف عليكم بعدى، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل: أو يأتى الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له ما شأنك؟ تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: وَرَأَيْنَا أنه يُنْزَلُ عليه، فأفاق يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ0 وقال:"أين هذا السائل"(وكأنه حمده) فقال: "إنه لا يأتى الخير بالشر
…
الحديث" (1) .فالحديث هنا صريح فى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحى فيما يسأل عنه، فينزل عليه بما ليس بقرآن: "وهو دليل قطعى على أن السنة كانت تنزل كما ينزل القرآن" (2) ، ويستأنس لذلك بما روى عن حسان بن عطية (3) ؛ أنه قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القران" (4)
(1) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/248 رقم 6427، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض 4/154 رقم 1052 واللفظ له من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه.
(2)
البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 6/216.
(3)
حسان: هو حسان بن عطية المعاربى، أبو بكر الدمشقى، ثقة، فقيه، عابد، ومن أفاضل أهل زمانه، مات بعد العشرين ومائة من الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب1/199رقم1028، ومشاهير علماء الأمصار ص211 رقم 1423، والكاشف 1/320 رقم 1004، والثقات للعجلى ص 112 رقم 269، وحلية الأولياء 6/70 رقم 330، وصفوة الصفوة 4/222 رقم 755.
(4)
أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله 1/153 رقم 588، والخطيب فى الفقيه والمتفقه 1/266، 267 رقمى 268، 269، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، وأبو داود فى المراسيل ص 167 رقم 567، وانظر: الموافقات 4/408، ومختصر الصواعق المرسلة 2/512، وحجية السنة للعلامة عبد الغنى ص 337، وشذرات فى علوم السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور الأحمدى أبو النور ص 32.
هذا كله فضلاً عن أن الإجماع قد انعقد على أنه كان يوحى إليه غير القرآن الكريم (1) .
وتأسيساً على ما سبق، فإننا نقول: إن السنة الشريفة وحى من الله تعالى ابتداءً وهذا هو الأغلب، أو اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره ربه عليه إما بالموافقة أو بالتصحيح، ويكون مرد ذلك إلى الوحى أيضاً بإقرار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (2) . وهذا النوع من الوحى يسميه جمهور الحنفية وحياً باطناً (3) .
فتبين لك من هذا كله: أن جميع ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير حتى الحركات، والسكنات فهى وحى من عند الله تعالى بعد إقرار الله عز وجل عليه (4) .
…
والعصمة التى نتحدث عنها هنا تغنينا وحدها فى إثبات حجية جميع أنواع السنة القولية والفعلية والتقريرية والاجتهادية.
إجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتشكيك بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم
فى أن السنة المطهرة كلها وحى
(1) حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 338.
(2)
تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص54
(3)
انظر: أصول السرخسى 2/90 وما بعدها.
(4)
انظر: حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 340، 341 بتصرف.
.. زعم بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم أن إجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم ليس من الوحى الإلهى واتخذوا من ذلك مدخلاً للطعن فى السنة النبوية، وأنها ليست كلها وحى من عند الله تعالى (1)، ويستدلون على ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته عن طلحة بن عبيد الله (2) رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل. فقال: "ما صنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر فى الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أظن يغنى ذلك شئ" قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل.
(1) راجع: ما سبق فى الرد على الرافضة الذين طعنوا فى اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، واتخذوا منه مدخلاً للطعن فى عدالتهم ص 307-318.
(2)
طلحة بن عبيد الله: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/764 رقم 1280، واسد الغابة 3/84 رقم 2627، والإصابة 2/229 رقم 4266، وتاريخ الصحابة ص 24 رقم 5، ومشاهير علماء الأمصار 12 رقم 8.
.. وفى حديث رافع بن خديج (1) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر".قال عكرمة: أو نحو هذا.وفى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"(2)
…
وهذا الحديث من زمن طويل كان المشجب الذى يعلق عليه من شاء، ما شاء من أمور الشرع التى يراد التحلل منها (3) ، فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسى كله من الإسلام بهذا الحديث وحده، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا، فنحن أعلم به.
فليس من شأن الوحى أن يكون له فيها تشريع أو توجيه، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة، وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الاقتصادى كله من الإسلام كذلك، بسبب هذا الحديث الواحد المهم أن بعض الناس أراد أن يهدم بهذا الحديث الفرد كل ما حوت دواوين السنة الزاخرة، من أحاديث البيوع، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لينسخ به جميع أقواله وأعماله وتقريراته الأخرى، التى تكون السنة النبوية المطهرة.
(1) رافع بن خديج: صحابى جليل له ترجمة فى: اسد الغابة 2/232 رقم 1580، والاستيعاب 2/489 رقم 726، والإصابة 1/495 رقم 2526، وتاريخ الصحابة ص 97 رقم 419، وتجريد أسماء الصحابة 1/173، ومشاهير علماء الأمصار ص 18 رقم 29.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأى ص 8/127، 128، أرقام 2361 – 2363.
(3)
السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص32، وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية للعلامة محمد أبو زهرة ص 241 وما بعدها.
.. وهذا الغلو من بعض الناس، هو الذى جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله يعلق على هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد فيقول:"هذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر، وصنائع أوروبة فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، فى المعاملات وشئون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شئون الدنيا، ويتمسكون برواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1) والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن فى قرارة نفوسهم. ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنة، مع ما درسوا فى مصر أو فى أوروبة لم يترددوا فى المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، وفضلوا ما أخذوه عن
(1) بل وينكرون أركان الإسلام، انظر إلى ما يزعمه جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 193، قائلاً: "بيان النبى صلى الله عليه وسلم فى العبادات من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو شورى
…
إلخ، ليس تشريعاً دائماً لازماً" أ. هـ. وراجع من نفس المصدر ص 170، 195، 203، 225، وانظر: له الأصلان العظيمان ص 240 وما بعدها، وانظر: "الإسلام هو القرآن وحده" مقال الدكتور توفيق صدقى فى مجلة المنار المجلد 9/910، 911، وأضواء على السنة محمود أبو رية ص 42، 44، 93، وانظر: قصة الحديث المحمدى ص 14 - 17، ودراسة الكتب المقدسة للدكتور موريس بوكاى ص293،299،والإمام الشافعى ص84، ونقد الخطاب الدينى ص 126 كلاهما للدكتور نصر أبو زيد، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة للدكتور محمد شحرور ص553، والسلطة فى الإسلام للمستشار عبد الجواد ياسين ص 248 وما بعدها.
سادتهم، واختاروا ما أشربت قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام. والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، وإنما كان فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم:"ما أظن ذلك يغنى شيئاً" فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع (1) أ. هـ.
…
ومن اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم، وقوله "أنتم أعلم بأمر ديناكم"، ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى تقسيم السنة النبوية المطهرة إلى قسمين:
1-
سنة تشريعية ملزمة ودائمة.
2-
سنة غير تشريعية غير ملزمة ولا دائمة.
…
وقصدوا بغير التشريع ثلاثة أنواع:
1-
ما سبيله سبيل الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشى والتزاور
…
إلخ.
2-
ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذى ورد فى شئون الزراعة والطب، وطول اللباس وقصره.
(1) انظر: مسند الإمام أحمد 2/177 رقم 1935 هامش، وانظر: الرد القويم على المجرم الأثيم للشيخ التويجرى ص 133-136.
3-
ما سبيله سبيل التدبير الإنسانى كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ونحو ذلك فهذه الأنواع الثلاثة ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، وإنما هو من الشئون البشرية التى ليس مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع (1) وبهذا التقسيم قال غير واحد من علماء المسلمين (2) . وبالغ بعضهم حتى كاد يخرج قضايا المعاملات، والأحوال المدنية كلها، من دائرة السنة التشريعية. حيث كان يرى أن كثيراً من أوامر الرسول ونواهيه فى المعاملات كان أساسها الاجتهاد لا الوحى (3)
(1) الإسلام عقيدة وشريعة للأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت ص 499 وما بعدها.
(2)
كالأستاذ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار المجلد 9/858، والدكتور عبد المنعم النمر رحمه الله فى كتبه (السنة والتشريع) و (الاجتهاد) و (علم أصول الفقه) والشيخ عبد الجليل عيسى فى كتابه (اجتهاد الرسول) ، والشيخ على حسب الله فى كتابه (التشريع) ، والشيخ محمد الغزالى-رحمه الله فى كتابة "كيف نفهم الإسلام" نقله عن الشيخ محمد المدنى، والدكتور محمد سليم العوا فى العدد الافتتاحى من مجلة "المسلم المعاصر"، والدكتور يوسف القرضاوى فى كتابه السنة مصدراً للمعرفة والحضارة 41، وغيرهم. انظر: العصريون معتزلة اليوم للأستاذ يوسف كمال ص53-72.
(3)
انظر: السنة والتشريع ص 25، 26، وعلم أصول الفقه ص 24 وما بعدها كلاهما لفضيلة الدكتور عبد المنعم النمر رحمه الله وما ذهب إليه لا يفيده فى دعواه، لأن الاجتهاد إذا أقر كان بمنزلة الوحى لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، كما هو مقرر فى علم الأصول، ولهذا يسميه علماء الحنفية (الوحى الباطن) 0 هكذا قال فضيلة الأستاذ الدكتور القرضاوى رداً على الدكتور= =النمر فى كتابه السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص 17 هامش. ولا أدرى لماذا بعد ذلك يؤيد أنصار مدرسة تقسيم السنة إلى تشريع، وغير تشريع؟! أليس كل ما يقال فيه أنه سنة غير تشريعية ينطبق عليه ما قاله هنا من إقرار رب العزة لاجتهاد نبيه صلى الله عليه وسلم فيصير وحياً، حتى ولو كانت درجته الإباحة، كما سيأتى تفصيله بعد قليل؟!
.. حتى انتهى به هذا الاتجاه إلى أن حرم برأيه ما أحلته السنة النبوية! وما أجمع المسلمون - من جميع المذاهب والمدارس الفقهية - على حله، وذلك هو (بيع السلم) الذى رخص فيه النبى صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس إليه، بعد أن وضع له الضوابط اللازمة لمنع الغرر والنزاع. ويسميه بعضهم (السلف) أيضاً، وبه جاء الحديث، ومضى عليه عمل الأمة أربعة عشر قرناً. ففى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون فى الثمار السنة والسنتين، فقال:"من أسلف فى تمر، فليسلف فى كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"(1) . بل قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجله، قد أحله الله فى كتابه، وأذن فيه. ثم قرأ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) وكلمة "أشهد" بمثابة "القسم": فهذا رأى ترجمان القرآن.
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب السلم، باب السلم فى وزن معلوم 4/501 رقم 2240، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساقاة، باب السلم 6/46 رقم 1604 واللفظ له، وانظر: نيل الأوطار 5/226.
(2)
الآية 282 من سورة البقرة.
.. ولكن فضيلة الشيخ عبد المنعم النمر قال عن السلم: "وهو بيع معدوم موصوف فى الذمة، ويسير عليه كثير من الناس فى الأرياف، مستغلين حاجات الزراع استغلالاً سيئاً، مما يجعلنا نميل إلى تحريمه. من أجل هذا الاستغلال الكريه المحرم فى الإسلام (1) ، يقول الدكتور القرضاوى: "وكان أولى بالشيخ هنا أن يقتصر على تحريم الظلم والاستغلال، ولا يتعدى ذلك إلى تحريم التعامل الثابت بالسنة والإجماع" (2) .
…
وإذا كان عمدة الأدلة عند من يذهبون إلى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، أو يذهبون إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، إذا كان عمدة أدلتهم جميعاً، اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر ديناكم" فلنحرر القول فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وبيان المراد من قوله "أنتم أعلم بأمر ديناكم" فإلى تفصيل ذلك.
(1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المنعم النمر ص 42، 43، وانظر: له أيضاً علم أصول الفقه ص 28.
(2)
السنة مصدراً للمعرفة والحضارة للدكتور القرضاوى، وانظر: السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 28.