الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف السلف الصالح من أحاديث الصفات والرد على أهل البدع قديماً وحديثاً:
…
الكلام عن صفات الله عز وجل له أهمية عظيمة بالنسبة للفرد المسلم، وذلك لأن الإيمان بالله الذى هو الركن الأول من أركان الإيمان، لا يتحقق إلا إذا وصف الله سبحانه بما يستحقه من صفات الكمال اللائقة به، ونزهه عن صفات النقص التى نفاها عن نفسه جل جلاله، بل لا يكون العبد موحداً لله إلا إذا أقر بأسماء الله وصفاته تحقيقاً لأحد أقسام التوحيد الثلاثة (1) ، التى لا ينفك بعضها عن بعض، ولوضوح هذا التوحيد - توحيد الأسماء والصفات – لم يقع خلاف بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتنازع اثنان منهم فى أمر واحد منه، بل الجميع كانوا على اتفاق تام بالإقرار به، والتسليم بما جاء فى القرآن والحديث منه (2) .
…
وقد ظلت القرون الخيرية تنهج نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى إثبات صفات الله والإقرار بها، إلى أن نجم التهجم فى الأمة، وابتدع القول بنفى صفات الله، فاحتضن أهل الاعتزال تلك المقالة، وجعلوها عقيدة يدينون لله بها" (3) .
…
وأما أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة فإنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. كما نفوا عنه ما لا يليق به من صفات النقص التى نفاها عن نفسه سبحانه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مستندين فى كل ذلك إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
(1) وهى توحيد: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
(2)
انظر: فتح البارى 13/402 رقم 7408، 13/418 رقم 7418، 7428.
(3)
انظر: الملل والنحل 1/86.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء فى آخر سورة الحشر: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففى إثبات أسمائه إثبات صفاته لأنه إذا ثبت أنه حى مثلاً فقد وصف بصفة زائدة على الذات، وهى صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (3) فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع.
وقد قسم البيهقى وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة فى القرآن وفى الأحاديث الصحيحة إلى قسمين:
أحدهما صفات ذاته: وهى ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال.
وثانيهما صفات فعله: وهى ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه. ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام من صفات ذاته، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه، واليد، والعين، من صفات ذاته، وكالاستواء، والنزول، والمجئ، من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفى عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج فى الفعل إلى مباشرة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) . ولولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى (5) .
(1) جزء من الآية 180 من سورة الأعراف.
(2)
جزء من الآية 24 من سورة الحشر.
(3)
الآية 180 من سورة الصافات.
(4)
الآية 82 من سورة يس، وانظر: فتح البارى 13/369، 370 أرقام7371 – 7375.
(5)
انظر: فتح البارى 13/402 رقمى 7407، 7408.
وعلى هذا اتفاق الفقهاء فى مشارق الأرض ومغاربها قال محمد بن الحسن الشيبانى: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، وبالأحاديث التى جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شئ.
…
وقال ابن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة فى الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئاً منها"(1) .
قال الإمام الشافعى – رحمه الله –: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفى عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) .
…
وقال أبو حنيفة – رحمه الله: "لا يشبه بشئ من خلقه، ولا يشبهه شئ من خلقه
…
وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا" (3) .
(1) انظر: فتح البارى 13/418 أرقام 7418 – 7428.
(2)
جزء من الآية 11 من سورة الشورى، وانظر: سير أعلام النبلاء 10/79 – 80.
(3)
انظر: شرح الفقه الأكبر لأبى منصور الحنفى ص 103 – 112، وشرح ملا على القارى على الفقه الأكبر ص 15 – 32، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/197.
.. والذى نرتضيه رأياً وندين لله به عقيدة ما قاله الحافظ ابن حجر: "اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فى إثبات أسماء الله وصفاته وعدم تأويلها، ولو كان تأويلها حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار، كالثورى، والأوزاعى، ومالك، والليث، ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم (1) أ. هـ.
…
أما رد أهل البدع قديماً وحديثاً لأحاديث العقائد من أسماء الله، وصفاته، بحجة أنها آحاد.
فهذا من تضليلهم لأن القضية ليست قضية متواتر وآحاد كما يزعمون، وإنما قضية عقل قدسوه وعبدوه من دون الله، وطوعوا النصوص من الكتاب والسنة لهذا الإله "إله الهوى":{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2) .
وجعلوا من عقولهم أصلهم الأول "المقدس" وهو التوحيد القائم على نفى الصفات، وطبقوا هذا الأصل على المتواتر نفسه، وهو القرآن الكريم، فأولوا ما فيه من إثبات أسماء وصفات الله عز وجل كما سبق من قول عبد الجبار وغيره. هذا من جهة.
(1) انظر: فتح البارى13/418أرقام7418-7428، وانظر: الإبانة للأشعرى 124-142، ومجالس ابن الجوزى فى المتشابه من الآيات القرآنية ص11-16، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها 2/878-910.
(2)
الآية 23 من سورة الجاثية، وللاستزادة فى الجواب انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/176 – 212.
ومن جهة ثانية فإن ما جاءت به السنة الصحيحة – حتى ولو كانت آحاداً – من أحاديث فى أسماء الله، وصفاته لم تكن السنة فى ذلك بدعاً، وإنما جاءت بمثل ما جاء به القرآن الكريم، ولا يوجد فى أحاديث العقائد ما يكون مخالفاً لعقائد القرآن، او زائداً عليها بحيث لا يكون له أصل فى القرآن. وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى العقائد تجد مثله فى القرآن، ويجرى فيها ما يجرى فى القرآن من إثباته بلا تعطيل ولا تشبيه.
…
وقد حرص الإمام الجليل أبو عبد الله إسماعيل البخارى على بيان ذلك فى تراجم أبواب كتاب التوحيد من جامعه الصحيح، قبل أن يذكر أحاديث الباب وما فيها من دلالة على صفات لله عز وجل، يعنون للباب بالآيات القرآنية التى جاءت بمثل ما جاءت به أحاديث الباب وهو بذلك يؤكد ما سبق، من أن ما جاءت به السنة المطهرة من أحاديث فى الصفات لم تكن فى ذلك بدعاً وإنما جاءت مؤيدة ومقررة، وموضحة لما جاء فى القرآن الكريم.
وهاك نماذج من صنيعه:
"باب قول الله تعالى"{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (1) وقوله جل ذكره {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) . وتحت هذا الباب ذكر من الأحاديث ما يوافقه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب فى كتابه – وهو يكتب على نفسه
…
الحديث" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى" الحديث (4) ، وباب قول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (5) . وتحته حديث جابر مرفوعاً: "أعوذ بوجهك" لما نزل عليه: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم
…
الحديث" (6) وباب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (7) وتحته أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى لا يغيضها سَحَّاء الليلَ والنهارَ، قال أرأيتم ما انفق منذ خلق الله السماوات والأرض فإنه لم يغض ما فى يده. وقال عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع" (8) . وقوله - صلى
(1) جزء من الآية 28 من سورة آل عمران.
(2)
جزء من الآية 116 من سورة المائدة.
(3)
صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:"وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ" 13/395 رقم 7404 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(4)
المصدر السابق فى نفس الأماكن السابقة 13/395 رقم 7405.
(5)
جزء من الآية 88 من سورة القصص.
(6)
صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" 13/400 رقم 7406 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(7)
جزء من الآية 75 من سورة ص.
(8)
انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد باب قول الله تعالى:" لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" 13/404 رقم 7411 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
الله عليه وسلم -: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك"(1) وحديث يقر فيه صلى الله عليه وسلم الحبر اليهودى فى قوله: "يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول أنا الملك أنا الملك.
يقول ابن عمر "فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم" ضحك حتى بدت نواجذه. ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
فكل هذه الأحاديث، وما فى معناها، والمثبتة لله عز وجل الصفات من النفس، والوجه، واليد، ونحو ذلك من العين، أو الاستواء، والنزول، والمجئ، والضحك، والغضب
…
إلخ.
…
أصول هذه الصفات مذكورة فى القرآن الكريم، ولا يوجد فى الحديث الصحيح الآحاد إلا ما يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها. فردها بحجة أنها آحاد هو رد للقرآن نفسه.
(1) انظر: المصدر السابق نفس الكتاب والباب 13/404 رقم 7412 من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
الآية 67 من سورة الزمر، وانظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:"لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" 13/404، 405 رقم 7415 من حدث ابن عمررضي الله عنه وانظر فى كل ما سبق الشريعة للآجرى ص 316 – 328، وانظر الابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص93 – 101.
وعدل القول فى هذه الأخبار ما قاله الإمام ابن قتيبة قال: "أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن: بالرؤية والتجلى، وأنه يعجب، وينزل إلى السماء، وأنه على العرش استوى، وبالنفس، واليدين، من غير أن نقول فى ذلك بكيفية أو بحدٍ أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت. فنرجو: أن نكون فى ذلك القول والعقد، على سبيل النجاة غداً، إن شاء الله تعالى.
ويقول أيضاً: "فنحن نقول كما قال الله، وكما قال رسوله، ولا نتجاهل، ولا يحملنا ما نحن فيه: من نفى التشبيه، على أن ننكر ما وصف به نفسه، ولكنا لا نقول: كيف البيان؟ وإن سئلنا: نقتصر على جملة ما قال، ونمسك عما لم يقل"(1) .
وما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى هذا الباب تجد مثله فى القرآن الكريم، وقد صنف غير واحد من الأئمة فى توضيح هذا المشكل.
منهم الإمام ابن قتيبة فى كتابيه "تأويل مشكل القرآن" و "تأويل مختلف الحديث" والإمام الطحاوى فى كتابه "مشكل الحديث وبيانه" على تكلف منه، هو والإمام ابن قتيبة فى تأويل مشكل الضعيف، والموضوع فى أحاديث الصفات، ولو استعمل كل منهما الصنعة الحديثية لكانا فى غنى عن هذا التكلف. وغيرهم من الأئمة (2) أ. هـ.
(1) انظر: تأويل مشكل القرآن ص 56، 57، وتأويل مختلف الحديث ص 192، وانظر: العقيدة الصحيحة فى الله وما ثار حولها من مشكلات للحافظ عبد الغنى النابلسى ص20، 21، وانظر: مجالس ابن الجوزى فى المتشابه من الآيات القرآنية لابن الجوزى 6-11.
(2)
انظر: التوحيد وإثبات صفات الرب للإمام ابن خزيمة و"الأسماء والصفات"للإمام البيهقىوغيرهم.