الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. قال المحقق ابن الجزرى: "فلو كان الحديث منصرفاً إلى قراءات السبعة المشهورين أو سبعة غيرهم من القراء الذين ولدوا بعد التابعين، لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عارياً عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة، فتؤخذ عنهم القراءة، وأدى أيضاً إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به، وهذا باطل، إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة، لفظاً عن لفظ، إماماً عن إمام، إلى أن يتصل بالنبى صلى الله عليه وسلم (1) .
…
وقال أبو شامة (2) : "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هى التى أريدت فى الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل"(3) أ. هـ.
المبحث الرابع: بقاء الأحرف السبعة فى المصاحف
…
يقول الإمام ابن حزم رداً على من زعم أن سيدنا عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل.
قال: تلك "عظيمة من عظائم الإفك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام.
(1) مناهل العرفان 1/193 - 194.
(2)
أبو شامة هو: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو شامة المقدسى، الإمام الحافظ المحدث المجتهد الشافعى، المقرئ، النحو، تولى مشيخه الإقراء، والحديث بدمشق. من مؤلفاته:"شرح الشاطبية" و "مختصر تاريخ دمشق" وغير ذلك مات سنة 665هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 4/1460 رقم 1157، وطبقات المفسرين للداوودى 1/268 رقم 254، وطبقات القراء لابن الجزرى 1/366، وطبقات الشافعية للسبكى 8/165، وشذرات الذهب 5/318.
(3)
فتح البارى 8/647، وانظر: الإتقان 1/215 فقرة رقم 1093.
ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلاً، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة. ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذى عقل، إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلاً، ثم وقف عليه، وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه، لأنه تكذيب لله تعالى فى قوله الصادق لنا:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وفى قوله الصادق: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (2) فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذى أنزله الله تعالى عليه. فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام (3) إلا بعض هذا (4) أ. هـ.
…
يقول الشيخ الزرقانى: "ونحن إذا رجعنا بهذه الأوجه السبعة إلى المصاحف العثمانية وما هو مخطوط بها فى الواقع ونفس الأمر، نخرج بهذه الحقيقة التى لا تقبل النقض، ونصل إلى فصل الخطاب فى هذا الباب، وهو أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها. ولكن على معنى أن كل واحد من هذه المصاحف اشتمل على ما يوافق رسمه من هذه الأحرف كلاً أو بعضاً، بحيث لم تخل المصاحف فى مجموعها عن حرف منها رأساً"(5) .
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
الآيات 17-19 من سورة القيامة.
(3)
انظر: فى الأدب الجاهلى لطه حسين ص 96-99 وبقية المصادر السابقة ص724.
(4)
الإحكام فى أصول الأحكام 4/565، 566.
(5)
مناهل العرفان 1/171، وانظر: فتح البارى 8/626 – 638 أرقام 4986 – 4988.
.. ويدل على ذلك خطة سيدنا عثمان رضي الله عنه فى جمعه للقرآن الكريم وقوله للرهط القريشيين الثلاثة: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام:"إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم" ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصه، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحفٍ أن يحرق" (1) فدل ذلك على ما هو مجمع عليه، أن سيدنا عثمان رضي الله عنه كتب مصاحف متعددة متفاوتة فى إثبات، وحذف، وبدل وغيرها، لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة، وجعلوها خالية من النقط والشكل، تحقيقاً لهذا الاحتمال أيضاً، فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} من قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) فإنها تصلح أن تقرأ "فتثبتوا" عند خلوها من النقط، والشكل، وهى قراءة أخرى، أما الكلمات التى لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضاً، فإنهم كانوا يرسمونها فى بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفى بعض آخر برسم آخر يدل على القراءة الثانية كقراءة "وصى" بالتضعيف و "أوصى" بالهمز، وهما قراءتان فى قوله سبحانه {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (3) أ. هـ.
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن8/627رقم 4987.
(2)
الآية 6 من سورة الحجرات.
(3)
جزء من الآية 132 من سورة البقرة، وانظر: مناهل العرفان 1/257 وما بعدها.
.. إن الأحرف السبعة باقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة فى القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، فما بين ذلك، لأنها من الذكر المنزل الذى تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلاً، وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع.
…
ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه فى هذا ما رواه البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . قال: قد نسختها الآية الأخرى، فلم تَكْتُبها أو تَدَعها؟ قال: يا ابن أخى: لا أُغيِّرُ شيئاً منه من مكانه" (2) .
وبعد
…
إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها سيدنا عثمان رضي الله عنه فى جمعه لكتاب الله، ومعاذ الله أن يسقط منها شيئاً، وهى مثبوتة فى القراءات المشهورة فى مشارق الأرض ومغاربها.
(1) الآية 234 من سورة البقرة.
(2)
البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" 8/41 رقم 4530، 4546، وانظر: الإحكام لابن حزم 5/568.
.. لا يجوز أن نجعل اختلاف القراءات معركة جدال ونزاع وشقاق، ولا مثار تردد وتشكيك وتكذيب، ولا سلاح عصبية وتنطع وجمود. على حين أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كانت حكمته من الله التيسير، والتخفيف، والرحمة، والتهوين على الأمة، فما يكون لنا أن نجعل من هذا اليسر عسراً، ومن هذه الرحمة نقمة! 0 يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الجدال فى القرآن كفر"(1) وكذلك تغير وجهه الشريف عند اختلافهم وقوله لهم: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف"(2) . وضربه فى صدر أُبَى بن كعب رضي الله عنه، حين جال بخاطره حديث السوء فى هذا الموضوع الجليل. الذى زلت فيه بعض الأقدام، وكثر فيه القيل والقال، إلى حدٍ كاد يطمس أنوار الحقيقة" (3)
أ. هـ.
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب النهى عن الجدل فى القرآن4/199 رقم4603، والحاكم فى المستدرك كتاب التفسير 2/243 رقمى 2882، 2883 من حديث أبى هريرة، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبى. وانظر: الأحرف السبعة فى القرآن ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين مبحث "الأحرف السبعة خصيصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم" ص145، 146، ومبحث "الأحرف السبعة ميزة للقرآن على الكتب السماوية" ص 146، وانظر: الكواكب النيرات فى أثر السنة النبوية على القراءات للدكتور علام بن محمد بن علام ص 16، 72، 73، وأثر القراءات فى الدراسات النحوية للدكتور عبد العال سالم على ص77-200.
(2)
أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التفسير 2/243 رقم 2885، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبى. وانظر: الشريعة للآجرى ص 67 وما بعدها.
(3)
انظر: مناهل العرفان 1/140 - 145، ومزيد من الدفاع عن الطعون الموجهة إلى الحديث انظر: الشيعة الإثنى عشرية ومنهجهم فى التفسير لفضيلة الدكتور محمد العسال، ص131-140، والقرآن والقراءات والأحرف السبعة الحقيقة - العلاقة - صحة النقل لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الغفور محمود جعفر، ورسم المصحف العثمانى وأوهام المستشرقين فى قراءات الكريم للدكتور عبد الفتاح شلبى، والقراءات فى نظر المستشرقين والملحدين للشيخ عبد الفتاح القاضى، وأثر القراءات فى الدراسات النحوية للدكتور عبد العال سالم على ص 9 -73.