الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يفيده خبر الآحاد من العلم عند الجمهور
…
عرفنا فيما سبق أن الخبر المتواتر يفيد اليقين والقطع، فهو مقطوع بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى نفس الوقت يوجد فى النفس العلم الضرورى بمضمون الخبر، فلا يحتاج بعد ذلك إلى نظر واستدلال.
…
وهذا الرأى هو ما اتفق عليه العلماء جميعاً إلا من لا يعتد بخلافه. ولكن الخلاف جرى بين العلماء فى الحديث المقبول من الآحاد بأقسامه الثلاثة المشهور، والعزيز، والغريب، ومحل الخلاف بين العلماء هو: هل حديث الآحاد يفيد العلم أو الظن؟ وإذا كان يفيد العلم، فما هى الدرجة التى يفيدها؟ هل يفيد العلم القطعى أو النظرى؟
…
للعلماء فى ذلك مذاهب شتى، نوجزها فيما يلى:
ذهب أكثر أهل العلم، وجمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والمالكية، والمعتزلة، والخوارج إلى أنه لا يفيد العلم مطلقاً أى سواء بقرينة، أو بغير قرينة (1) واختاره الإمام النووى حيث قال معقباً على ما قاله ابن الصلاح، ومن شايعه، بأنه يفيد العلم إذا احتفت به قرينة قال:"وخالفه المحققون والأكثرون" فقالوا: يفيد الظن (2) مالم يتواتر (3) .
ويتعقب الحافظ ابن حجر الإمام النووى، فيما ذهب إليه، فيقول: "ما ذكره النووى، مسلم من جهة الأكثرين، أما المحققون فلا، فقد وافق ابن الصلاح أيضاً محققون (4) ، وهم من أصحاب القول الثالث.
(1) انظر: المستصفى 1/145، ودراسات أصولية فى السنة النبوية ص 169، وخبر الواحد فى السنة وأثره فى الفقه الإسلامى للدكتورة سهير رشاد مهنا ص23.
(2)
سيأتى بيان مراد أئمة المسلمين بالظن، وكيف أساء فهمه أعداء السنة ليطعنوا به فى حجية خبر الواحد انظر ص 563 –566.
(3)
تدريب الراوى 1/132.
(4)
المصدر السابق 1/133.
2-
ذهب قوم من أهل الحديث إلى أنه يفيد العلم النظرى بنفسه سواء بقرينة، أو بغير قرينة، متى توافرت فيه شروط الصحة والقبول - من اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، وحكى هذا الرأى ابن الصباغ عن قوم من أهل الحديث (1)، وبه قال الإمام ابن حزم فى الإحكام وقال: "وهو قول الحارث بن أسد المحاسبى، والحسين بن على الكرابيسى، وأبو الوليد سليمان بن خلف المالكى المعروف بالباجى. وعزاه لأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه (2) ، وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس (3) ، وإن نازعه فيه المازرى بعدم وجود نص له فيه، وحكاه ابن حزم عن داود الظاهرى (4) ، وحكاه ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة عن الإمام الشافعى رحمه الله (5) .
3-
وذهب بعض أهل الحديث، ومعهم بعض أهل الأصول والفقه، إلى أن خبر الآحاد إذا احتفت به قرينة خارجية تدل على مزيد من صحة ثبوت الخبر إلى من أخبر به، يفيد العلم النظرى اليقينى (6) .
(1) تدريب الراوى 1/75.
(2)
المصدر السابق 1/75، وانظر: الإحكام للآمدى 2/32، والبحر المحيط 4/262، وصحح الإمام ابن قيم الجوزية الرواية عن أحمد بأنه يفيد العلم، وضعف ما رواه الأثرم عن أحمد بخلاف ذلك. انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/533.
(3)
الإحكام لابن حزم 1/106.
(4)
تدريب الراوى 1/75.
(5)
مختصر الصواعق المرسلة 2/528، 530.
(6)
انظر: المحصول 2/141، والإحكام للآمدى 2/32، والبحر المحيط 4/265، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور مصطفى التازى 2/52، ودراسات أصولية فى السنة ص 186.
.. وبهذا الرأى قال ابن الصلاح ودافع عنه دفاعاً شديداً فى مقدمته، وبه قال جماعات من أئمة الأصول والفقه، منهم الآمدى (1) ، والسبكى (2) ، وابن الحاجب (3) ، واختاره المحققون من أهل الحديث منهم ابن حجر (4) ، وابن قيم الجوزية (5)، وابن كثير وقال:"وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، والله أعلم، ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية، مضمونة: أنه نقل القطع بالحديث الذى تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة: منهم القاضى عبد الوهاب المالكى، والشيخ أبو حامد الإسفرائينى، والقاضى أبو الطيب الطبرى، والشيخ أبو إسحاق الشيرازى من الشافعية، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاغونى، وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسى من الحنفية: قال:"وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم: كأبى إسحاق الإسفرائينى، وابن فورك.
(1) الإحكام 2/32 وعزاه إلى النظام من المعتزلة، وكذا عزاه ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق 2/535، والسرخسى فى أصوله 1/330.
(2)
الإبهاج فى شرح المنهاج 2/299.
(3)
شرح عضد الملة والدين على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/55.
(4)
نزهة النظر ص 22.
(5)
مختصر الصواعق المرسلة 2/523 - 563.
قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة" (1) وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً. فوافق فيه هؤلاء الأئمة"(2) .
…
وانتصر لابن الصلاح أيضاً البلقينى فقال: "ما قاله النووى وابن عبد السلام، ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح"(3) ثم ذكر ما نقله ابن كثير عن شيخه ابن تيمية.
…
ويمكن الجمع بين تلك المذاهب الثلاثة بما قاله الحافظ ابن حجر فى نزهة النظر قال: "والخلاف فى التحقيق لفظى، لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظرياً، وهو الحاصل على الاستدلال بواسطة القرائن، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر، وما عداه عنده كله ظنى بمعنى العلم أيضاً، كما فى قوله تعالى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (4) .أى ظننتموهن، فالعلم قد يطلق ويراد به الظن (5) وهم لا ينفون أن ما احتفت به القرائن أرجح مما خلا عنها"(6) .
وإليك بعض هذه القرائن التى تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى عند من يقول به:
(1) ونص على ذلك أيضاً الإمام ابن دحية على ما سيأتى فى حجية خبر الواحد ووجوب العمل به، وانظر: الباعث الحثيث للشيخ أحمد محمد شاكر ص29، 30، والحديث حجة بنفسه فى العقائد والأحكام للألبانى ص57-60.
(2)
وقال بذلك أيضاً أبو الحسن البصرى المعتزلى فى "المعتمد فى أصول الفقه" 2/84، ويشذ الشاذ عبد الجواد ياسين ويصف هذا بأنه مذهب فاسد". وانظر: السلطة فى الإسلام ص 258، وانظر: ما قاله حسن السقاف فى مقدمة كتاب ابن الجوزى دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص55 وما بعدها.
(3)
تدريب الراوى 1/132.
(4)
جزء من الآية 10 من سورة الممتحنة.
(5)
الإحكام للآمدى 2/32.
(6)
نزهة النظر ص 22 بتصرف، وانظر: البحر المحيط 4/264، 266، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/53.
1-
إخراج الشيخين البخارى ومسلم للحديث فى صحيحهما، أو إخراج أحدهما له مما قام الإجماع على تسليم صحته بأن لم يعترض عليه أحد من الحفاظ. وذلك لجلالة قدر الشيخين، وثبوت أقدامهما فى هذا الشأن، وتقدمهما على غيرهما فى معرفة الخبر الصحيح وتمييزه عن غيره.
…
ولتلقى الأمة لكتابيهما بالقبول اعتقاداً وعملاً، وهذا التلقى وحده أقوى فى إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، وممن صرح بأن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى، من سبق ذكرهم من الأئمة الأعلام الذين ذكرهم ابن كثير نقلاً عن شيخه ابن تيمية (1) ، وبهذه القرينة قال أيضاً الحافظ ابن حجر فى نزهة النظر (2) ، وزاد من القرائن على ما ذهب إليه ابن الصلاح ومن نقل عنهم.
2-
شهرة الحديث عند علماء الحديث لمجيئه من طرق متعددة متباينة مع سلامتها من ضعف الرواة وخلوها من العلل القادحة، وممن صرح بأن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد يفيد العلم النظرى أبو بكر بن فورك، وأبو منصور البغدادى وغيرهما.
3-
تسلسل الخبر بالأئمة المتقنين، والحفاظ الضابطين، كالحديث الذى يرويه الإمام أحمد وغيره عن الإمام الشافعى، ويرويه الإمام الشافعى، وغيره عن الإمام مالك
…
إلخ.
(1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/53، 54.
(2)
نزهة النظر ص 22، وقال بذلك الأستاذ محمد رشيد رضا رحمه الله -فى مجلة المنار وأيد ما قاله الحافظ ابن حجر، انظر: مجلة المنار المجلد 19/348، 349.
.. فإن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى عند سامعه، وذلك لجلالة قدر هؤلاء الرواة للحديث من الأئمة الأعلام، والفقهاء العظام، إذ فى كل واحد منهم من الصفات اللائقة الموجبة لقبول خبره ما لا يوجد فى غيره، مما تجعل الواحد منهم أمة وحده، يقوم مقام العدد الكثير والجم الغفير (1) .
…
والذى أرجحه من ذلك كله هو ما ذهب إليه ابن حزم، وابن الصلاح، وابن حجر، وغيرهم - من أن ما رواه الشيخان أو أحدهما أو ما احتفت به قرائن أخرى - كما ذكر ابن حجر أو ما استوفى شروط الصحة الخمسة، المتفق عليها بين علماء الأمة، مقطوع بصحته، ويفيد العلم النظرى.
وإلى ذلك ذهب الشيخ أحمد محمد شاكر-رحمه الله تعالى –: حيث يقول بعد أن استعرض آراء العلماء فى ذلك: "والحق الذى ترجحه الأدلة الصحيحة، ما ذهب إليه ابن حزم، ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح، مقطوع بصحته، ويفيد العلم اليقينى النظرى، سواء كان فى أحد الصحيحين أم فى غيرهما، وهذا العلم اليقينى نظرى برهانى، لا يحصل إلا للعالم المتبحر فى الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل (2) ، المميز بين صحيحه وسقيمه، وغثه وثمينة، وأصيله ودخيله، أما من ليس من أهل هذا الشأن، فإن هذه القرائن ولو كثرت، لا تفيدهم علماً، فمثلهم لا يعتد به فى هذا المقام، ولا تبنى عليه هنا الأحكام (3) .
(1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث2/54،55،وانظر: نزهة النظر ص 23، وعلم الحديث لابن تيمية ص155، وإرشاد الفحول1/212، 213، ودراسات أصولية فى السنة ص 177-181، وانظر: قرائن الشيعة فى إفادة خبر الواحد للعلم فى كتاب أصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص83-87.
(2)
الباعث الحثيث ص 30، وانظر: المكانة العلمية لعبد الرزاق فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار 1/33 -42، مبحث:"إفادة خبر الواحد العلم".
(3)
مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/55.
.. يقول الشيخ أحمد محمد شاكر: "وأكاد أوقن أنه هو مذهب من نقل عنهم البلقينى ممن سبق ذكرهم من الأئمة الأعلام، وأنهم لم يريدوا بقولهم ما أراد ابن الصلاح من تخصيص أحاديث الصحيحين بذلك، وإلا فالأمة قد تلقت غيرهما من كتب السنة من السنن، والمسانيد والمصنفات، بالقبول، مع تصريح كل من الإمامين البخارى ومسلم بأنهما لم يستوعبا كل الصحيح فى صحيحهما.
…
وهذا العلم اليقينى النظرى يبدو ظاهراً لكل من تبحر فى علم من العلوم وتيقنت نفسه بنظريته، واطمئن قلبه إليها، ودع عنك تفريق المتكلمين فى اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بهما معنى غير ما نريد" (1) .
وبعد
إن الكلمة الفصل والأخيرة، فى كل مسألة علمية على أهلها، إذ لا ينبئك مثل خبير. وفى المثل: الخيل أعلم بفرسانها.
فالقول الفصل لأهل اللغة إذا كان المتعلق لغوياً، وللفقهاء إذا كانت المسألة فقهية، وللمحدثين إذا كان الكلام يتعلق بصحة الحديث، وهذه مسلمات لا يختلف فيها اثنان.
لهذا فإن معرفة كون الدليل قطعياً أو ظنياً من أحكام أهل الحديث، لمعرفتهم طرقه وتشعبها، ولا تعويل على غيرهم من المتكلمين والأصوليين، كما قال ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة (2) والله أعلم.
(1) الباعث الحثيث ص 30، 31 بتصرف.
(2)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/537، 561.