الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثانى: أهمية الإسناد فى الدين واختصاص الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم
…
الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص الأمة الإسلامية، لم يؤتها أحد من الأمم قبلها، وبه حفظ الدين من عبث العابثين، فكان الدعائم التى حفظ بها الدين قرآناً وسنة، ولذلك كان جزءاً من الدين، فهو الطرق التى أوصلت لنا الأخبار والآثار، صحيحة لا تشوبها شائبة.
وقد تكاثرت فى بيان شأن الإسناد، وأهميته، وفضله، كلمات العلماء، وتعددت وتنوعت أقوالهم فى تعظيم أمره.
ومن خيرها وأدقها تشخيصاً لموقع الإسناد كلمة الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدثك؟ بقى (1) أى بقى حيران ساكتاً. وقال أيضاً: "بيننا وبين القوم –أى المبتدعة والكذبة- القوائم يعنى الإسناد" (2) .
وقال سفيان الثورى: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأى شئ يقاتل؟ "(3) .
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) فى المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/120، والترمذى فى كتاب العلل الملحق بآخر السنن 5/695 واللفظ له.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/120.
(3)
أخرجه ابن حبان فى المجروحين 1/27، والخطيب فى شرف أصحاب الحديث 88 رقم 76.
وقال الإمام الشافعى: "مثل الذى يطلب الحديث بلا سند كمثل حاطب ليل"(1) وسبق قول ابن حزم: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل، أما مع الإرسال والإعضال
…
والنقل بالطريق المشتملة على كذاب، أو مجهول الحال فكثير من نقل اليهود والنصارى
…
" (2) .
…
لكل ما سبق اهتم المسلمون بالإسناد "وقد نشأ عن اهتمامهم به ووضوح أهميته فى تلقى المنقول: أن اشترط "الإسناد" فى تلقى سائر العلوم الإسلامية، كالتفسير، والفقه، والتاريخ، والرجال، والأنساب، واللغة، والنحو، والأدب، والشعر، والحكايات، حتى دخل فى سياق الكلمة الواحدة من أخبار الحمقى والمغفلين، وأخبار المضحكين
…
، كما دخل فى سياق الكلمة الواحدة فى التفسير، كما تراه فى "تفسير الإمام ابن جرير الطبرى" وكما تراه فى كتاب الخطيب البغدادى:"التطفيل وحكايات الطُّفَيليين" و "البخلاء" وكتب ابن الجوزى: "أخبار الحمقى والمغفلين"، و"أخبار الأذكياء"، و"ذم الهوى"، و"اللُّقَط فى حكايات الصالحين"، فتراه فى هذه الكتب يسوق سنداً طوله ثلاثة أسطر أو أكثر، من أجل نقل جملة صغيرة أو كلمة واحدة عن قائلها" (3) .
(1) ذكره الزرقانى فى شرح المواهب اللدنية 5/453، والمناوى فى فيض القدير 1/433.
(2)
الفصل فى الملل والنحل 2/81 –84 بتصرف، وانظر: تدريب الراوى 2/159، ولمزيد من معرفة فضل الإسناد انظر: فتح المغيث للسخاوى 3/5-7، وتدريب الراوى 2/159، 160، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 6، والأجوبة الفاضلة للكنوى ص 21، 22.
(3)
لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص143،144 بتصرف يسير.
.. "ومن علامات الاهتمام بالإسناد، وأماراته تلك التصانيف الضخمة التى ألفت فى الرجال، فنشأ بذلك علم مستقل من علوم الحديث، وهو علم الرجال، وهذا علم واسع تتقطع فيه الأنفاس، فمنه كتب معرفة الصحابة، وكتب الطبقات، وكتب الجرح والتعديل، وكتب الأسماء والكنى والألقاب، وكتب المؤتلف والمختلف، وكتب المتفق والمفترق والمتشابه، وكتب الوفيات، وهى فى مجموعها تدل دلالة عظيمة على الجهد المبذول فى نقد الأخبار، وليس الأمر كما يتوهم الكثيرون ممن لا علم لهم بهذا الأمر"(1) أ. هـ.
…
ومن علامات الاهتمام بالإسناد "علم الجرح والتعديل" وهو كسائر علوم الحديث مما تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وتميزت بتأسيسه، وإنشائه، والتفنن فيه، وقد أداها إلى إبداعه: الحفاظ على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم من التقول والدخيل، والمكافحة للدجالين والمشعوذين والخراصين، فكان هو من أكبر النتائج النافعة التى تولدت عن تلك الحملة الضارة على السنة المطهرة.
قَصدتَ مَسَاتِى فاجتلبت مَسَرَّتِى
…
***
…
وقد يُحِسنُ الإِنسانُ من حيث لا يَدِرى
فنشأ هذا العلم من عهد النبوة المباركة برعماً لطيفاً، ثم نما وازداد، وقوى واشتد فى القرن الأول، والثانى، وامتد واتسع وبدأ يتكامل فى القرن الثالث، والرابع، وهكذا حتى اكتمل فى القرن التاسع من الهجرة الشريفة، فكثرت فيه الكتب، وتنوعت فيه المؤلفات، ثم درست فيه فى عصرنا بعض المسائل والجزئيات والشخصيات دراسة خاصة، فقارب النُّضجَ والاحتراق، وإن كان هذا العلم ليس له غاية ولا نهاية.
(1) ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 71،72، وانظر: من نفس المصدر ص212 وما بعدها.
.. وبهذا العلم العظيم الذى لم تكن فيه محاباة لأحد مهما كان لا أباً، ولا ابناً،، ولا أخاً، ولا صديقاً، ولا أستاذاً، تمكن السلف والخلف من كشف العلل فى كل علم منقول حديثاً نبوياً، أو كلاماً عادياً، أو شعراً أو نثراً أدبياً، أو تاريخاً شخصياً أو سياسياً
…
، فكان هذا العلم مجهراً صادقاً، ونظارة صافية، تعزل للناظر بها: الصحيح عن القريح، وتميز له الزين من الشين، والصدق من الكذب، وتزن له المحامد والمثالب، بالقسطاس المستقيم (1) أ. هـ.
…
وإذا كانوا قديماً قالوا: الحق ما شهد به الأعداء فلننظر إلى ما قاله المستشرق "شبرنجر" فى مقدمته الإنجليزية على كتاب الإصابة فى أحوال الصحابة لابن حجر، قال:"لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا يوجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت فى علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون فى هذا العلم العظيم الخطر، الذى يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"(2) أ. هـ.
…
ويقول الأستاذ محمد أسد عن علوم الحديث: "إنه علم تام الفروع على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة، غايته الوحيدة البحث فى معانى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكلها وطريقة روايتها (3) أ. هـ.
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
(1) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 189 بتصرف يسير.
(2)
نقلاً عن الرسالة المحمدية للسيد سليمان الندوى ص 62، وانظر شهادة الدكتور موريس بوكاى فى دراسة الكتب المقدسة ص 290، رغم أنه لم يدافع عن السنة بل كان متحاملاً عليها ومخالفاً لها، كما سبق بيانه فى موقفنا من الحركة الاستشراقية.
(3)
الإسلام على مفترق الطرق ص 92 – 93 بتقديم وتأخير.