الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذى يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك على أن الميزان فى أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يمكن له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن فى هذا الغلط، ومن يقدم العقل على السمع فى أمثال هذه القضايا؛ فمن قصور فهمه، واضمحلال رأيه، وقد تبين لك الحق من ذلك" (1) .
…
وعلى هذا سلم أهل السنة بما جاء فى الأمور الغيبية، ولم يحكموا عقولهم.
قال الإمام الأشعرى فى الإبانة: "نؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، وبالحوض، وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد فى الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى رواه الثقات عدل عن عدل حتى تنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
المبحث الثانى: شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها
…
أحاديث عذاب القبر ونعيمه لمن كان أهلاً لذلك، وسؤال الملكين، نص جماعة من العلماء على تواترها تواتراً معنوياً منهم الحافظ السيوطى (3) ، والكتانى (4) ، وابن قيم الجوزية (5) ، وابن أبى العز (6) وغيرهم (7) . وسوف نورد طرفاً من هذه الأحاديث عند الحديث عن كشف شبهات المعتزلة، ومن قال بقولهم من أهل الكلام والرافضة قديماً وحديثاً.
…
ويمكن أن نعرض شبهات المعتزلة حول عذاب القبر فيما يأتى:
(1) المقدمة لابن خلدون ص 508، 509.
(2)
الإبانة ص 27 رقمى 47، 58.
(3)
الأزهار المتناثرة ص 41 رقمى 43، 107.
(4)
نظم المتناثر ص 125، 126 رقمى 113، 114.
(5)
الروح ص 74، ومفتاح دار السعادة 1/43.
(6)
شرح الطحاوية 2/136.
(7)
انظر: إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية للأستاذ عبد العزيز الغمارى ص200.
لقد زعم المعتزلة أن الأخبار الدالة على عذاب القبر مجملة:
…
ولذلك انقسموا حوله إلى ثلاث فرق:
أنكره ضرار بن عمرو (1) ، والخوارج، ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة، والرافضة (2) .
قطع به بعضهم فى الجملة (3) .
جوزه آخرون (4) .
وبالقول الأول قال دعاة اللادينية فى عصرنا (5) .
وتدور شبه المنكرين لعذاب القبر وما فيه من سؤال، وضمة، وعذاب، بأنه معارض للقرآن، وللسنة، وللعقل.
(1) ضرار بن عمرو: هو ضرار بن عمرو الغطفانى، قاضى، من كبار المعتزلة، وهو زعيم الفرقة الضرارية، له مقالات خبيثة، كفره المعتزلة من أجلها وطردوه. انظر: فضل الإعتزال ص391، وميزان الاعتدال 228 رقم 3953، وسير أعلام النبلاء 10/544 رقم 175، ولسان الميزان 3/607 قم 4312، والضعفاء لأبى نعيم ص95 رقم 151، والضعفاء الكبير للعقيلى 2/222 رقم 765، والفهرست ص 299.
(2)
انظر: الروح لابن قيم الجوزية ص81، وعذاب القبر فى الميزان للأستاذ عكاشة عبد المنان ص101، 131، والإبانة ص15، والمنهاج شرح مسلم للنووى 9/224 رقم 2866.
(3)
انظر: شرح الأصول ص730، والروح ص80، 81، وعذاب القبر فى الميزان ص101،103.
(4)
انظر: فضل الإعتزال ص201، 202، وشرح الأصول ص730، والفصل فى الملل والنحل 4/67، وأصول الدين للبعدادى ص245، 246.
(5)
انظر: شفاء الصدر بنفى عذاب القبر لإسماعيل منصور، وعذاب القبر والثعبان الأقرع لأحمد صبحى منصور، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة لمحمد شحرور ص 381، ودفع الشبهات لأحمد حجازى ص 104، 204، 208، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 244 وما بعدها، وإنذار من السماء ص 244 وما بعدها، ودين السلطان 928-948 كلاهما لنيازى = =عز الدين، وأضواء على السنة لمحمود أبو ريه ص 74، والأضواء القرآنية للسيد صالح أبو بكر 2/318، 320، 356، وغيرهم.
أما القرآن ففى قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (1) قالوا فلو كان يحيا فى قبره للزم أن يحيا ثلاث مرات، ويموت ثلاثاً، وهو خلاف النص (2) .
أما السنة فقالوا: الأخبار فيها متعارضة، وقد ردت عائشة -رضى الله عنها- حديث ابن عمر مرفوعاً (إن الميت يعذب فى قبره ببكاء أهله عليه) فقالت:وَهِلَ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن" وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر. وبه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: "إنهم ليسمعون ما أقول" وقد وَهِلَ0 إنما قال: "إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (3){وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4) . يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار، وفى رواية قالت (رضى الله عنها) يغفر الله لأبى عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسى أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها. فقال:"إنهم ليبكون عليها. وإنها لتعذب فى قبرها"(5) .
(1) الآية 11 من سورة غافر.
(2)
انظر: فتح البارى 3/284 رقم 1369، وشرح الأصول ص 730، 731.
(3)
الآية 80 من سورة النمل.
(4)
الآية 22 من سورة فاطر.
(5)
أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 3/503، 504 رقم 932.
قالوا فدل ذلك على أن الموتى لا يسمعون، وما يروى من سماعهم خفق النعال لا يصح أيضاً. وأن عذاب القبر خاص بالكفار من اليهود. وقوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1) .
…
قالوا: هذه فى آل فرعون خاصة، فلا يقاس عليهم غيرهم.
وما صح من أحاديث فى عذاب القبر؛ فهو آحاد يفيد الظن، لا يحتج به هنا فى باب العقائد (2) . وهو يصح لبعض الناس دون بعض ممن فقدت أجسادهم، أو تعذر وصول الحياة إليها (3) .
…
أما دليلهم العقلى فقالوا: لو كان لعذاب القبر أصل؛ لكان يجب فى النباش أن يرى العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب، فكان يشاهد عليه أثر الضرب وغيره، وفى علمنا العقلى بخلافه، دليل على أن ذلك مما لا أصل له، ولا مدخل للسمع فيه (4) .
ويجاب على هذه الشبه بما يلى:
إن زعمهم أن الأخبار مجملة فى إثبات عذاب القبر، ثم انقسامهم حوله إلى ما ذكرنا، يتبين منه: أن المعتزلة، وإن زعم بعضهم بأنه يقطع بوقوعه لدلالة الأخبار عليه، إلا إنهم لم يسلموا للنصوص فى ذلك تسليماً كاملاً، ولم يسلم هذا الأمر من إقحام عقولهم فى جزئيات منه.
نعم: إن من أثبته منهم أثبته فى الجملة، ولكنهم خاضوا فى ثبوته لعصاة المؤمنين، وفى كيفيته، ووقته مما دفعهم إلى رد بعض النصوص، وتأويل بعضها (5) .
…
فما زعموه من تعارض عذاب القبر ونعيمه بقوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (6) فلا حياة ثالثة.
(1) الآية 46 من سورة غافر.
(2)
انظر: شرح الأصول ص 730 –732.
(3)
فضل الاعتزال ص 203.
(4)
شرح الأصول ص 731 – 732، وفضل الاعتزال 201 – 203.
(5)
شرح الأصول ص 73 وما بعدها.
(6)
جزء من الآية 11 من سورة غافر.
فالجواب: أنه لا تعارض، إنما التعارض نشأ من عدم إدراكهم المراد بالحياة فى القبر فهى ليست الحياة المستقرة المعهودة فى الدنيا، التى تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هى مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذى وردت به الأحاديث الصحيحة، فهى إعادة عارضة، كما حى خلق، لكثير من الأنبياء، لمسألتهم لهم عن أشياء، ثم عادوا موتى (1) .
…
فحياة القبور، وما فيها من نعيم أو عذاب؛ تختلف عن حياة الدنيا، وحياة الآخرة؛ فهى حياة برزخية لا طاقة للعقل فى إدراكها، ولا يمكنه أن يصل إلى كيفيتها، وإنما يتوقف الإيمان بهذه الحياة على النصوص الواردة قال تعالى:{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2)
…
أما دعواهم تعارض الأحاديث: فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض مع إمكان الجمع وهو ممكن. وما ورد من رد أم المؤمنين عائشة –رضى الله عنها– لخبر ابن عمر رضي الله عنه فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. فلا حجة لهم فيه على نفى عذاب القبر لأن عائشة –رضى الله عنها– إنما أنكرت عذاب الميت بما لم تكسبه يداه، يدل على ذلك احتجاجها بقوله تعالى:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) ومع ذلك فإنكارها ذلك وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لما أنكرته من رواية عمر وابنه – رضى الله عنهما – رواه من الصحابة كثيرون وهم جازمون. فلا وجه للنفى منها مع إمكان حمله على محمل صحيح (4) .
(1) فتح البارى 3/284 رقم 1374، وانظر: شرح المقاصد للتفتازانى 2/162.
(2)
الآية 100 من سورة المؤمنون.
(3)
الآية 38 من سورة النجم.
(4)
فتح البارى 3/184 رقم 1287.
والمحامل كثيرة جمع بينها الحافظ ابن حجر فقال: "من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ، كيف أهمل النهى، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله من المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
وحكى الكرمانى تفصيلاً آخر، وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ، وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزج. ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع فى الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) . فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال فى البرزخ بخلاف يوم القيامة والله أعلم (3) أ. هـ.
…
أما ردها – رضى الله عنها – لخبر ابن عمر – رضى الله عنهما – فى سماع الموتى لكلام النبى صلى الله عليه وسلم ومعارضتها ذلك بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (4) ونحوها من الآيات فالجمهور فى ذلك على خلافها فيما اجتهدت فيه، وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواة غيره عليه.
(1) الآية 38 من سورة النجم.
(2)
الآية 25 من سورة الأنفال.
(3)
انظر: فتح البارى 3/185 رقم 1290، والمنهاج شرح مسلم للنووى 3/505 رقم 932.
(4)
جزء من الآية 80 من سورة النمل.
وأما استدلالها بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقالوا معناها لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله
…
والآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) أى أن الله هو الذى يسمع ويهدى (2) .
…
وصحت الأحاديث بسماع الموتى حتى قرع النعال خلافاً لمن رد ذلك من المعتزلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابُه، وإنه ليسمع قرعَ نعالهم
…
" الحديث (3) .
…
وعن ابن عمر –رضى الله عنهما– قال: "اطلع النبى صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: تدعوا أمواتاً؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون"(4) . ولا دليل على خصوصية ذلك بأهل بدر، كما يزعم بعض المعتزلة (5) .
…
قال القاضى عياض – رحمه الله: "يحتمل سماعهم، على ما يحتمل عليه سماع الموتى، فى أحاديث عذاب القبر، وفتنته، التى لا مدفع لها. وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون فىالوقت الذى يريد الله تعالى".
(1) الآية 40 من سورة الزخرف.
(2)
فتح البارى 3/277 رقم 1370.
(3)
أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/275 رقم1374، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة تعليمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه 9/220 رقم 2870 واللفظ للبخارى.
(4)
أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/274 رقم1370، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 3/503 رقم 932 واللفظ للبخارى.
(5)
انظر: فضل الاعتزال ص 203.
وقال الإمام النووى – رحمه الله – بعد نقله لكلام القاضى عياض السابق: "وهو الظاهر المختار الذى تقتضيه أحاديث السلام على القبور"(1) .
…
أما ما زعموه من تعارض الأحاديث المثبتة لعذاب القبر والنافية له.
فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض.
ففى الأحاديث التى زعموا أنها تنفى عذاب القبر فى عجزها ما يثبته، وهو ما تعمدوا بتره، فلا تعارض بين أول الحديث وآخره كما جاء فى رواية مسلم عن عائشة –رضى الله عنهما– قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى امرأة من اليهود. وهى تقول هل شعرت أنكم تفتنون فى القبور؟ قالت: فَارْتَاعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تُفتنُ يهودُ" قالت عائشة: فلبثنا ليالى. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شعرت أنه أوحى إلى أنكم تفتنون فى القبور؟ " قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَعْدُ، يستعيذُ من عذاب القبر" (2) .
قال الحافظ ابن حجر: وحاصل الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون فى القبور فقال:"إنما يفتن يهود" فجرى على ما كان عنده من علم ذلك، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه، وعلمه، وأمر بإيقاعه فى الصلاة، ليكون أنجح فى الإجابة" (3) .
(1) المنهاج شرح مسلم للنووى 9/225 رقم 2874.
(2)
أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر
…
إلخ 3/91، 92 رقم 584.
(3)
فتح البارى 11/180 رقم 6366.
وفى رواية أخرى عنها –رضى الله عنها– قالت: دخلت عَلَىَّ عَجُوزانِ من عُجُز يهود المدينة. فقالتا: إن أهل القبور يعذبون فى قبورهم. قالت: فكذبتُهُما. ولم أنعم أن أَصَدِّقَهُمَا. فَخَرَجَتَا. ودخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله! إن عَجُوَزَيْنِ من عُجُزِ يهود المدينة دخلتا على فزعمتا أنَّ أهل القبور يُعذبون فى قبورهم. فقال: "صدقتا. إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم" قالت: فما رأيته، بعد، فى صلاة، إلا يتعوذ من عذاب القبر" (1) .
…
قال الحافظ ابن حجر: "وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن فى هذه أنه صلى الله عليه وسلم، أنكر على اليهودية، وفى الأول أنه أقرها.
(1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر 11/178 رقم 6366، ومسلم "بشرح النووى" كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر
…
إلخ 3/92 رقم 586 واللفظ له.
قال النووى تبعاً للطحاوى وغيره: هما قصتان، فأنكر النبى صلى الله عليه وسلم، قول اليهودية فى القصة الأولى، ثم أعلم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبى صلى الله عليه وسلم بأن الوحى نزل بإثباته، ويدل على ذلك صراحة، ما رواه أحمد فى مسنده بإسناد على شرط البخارى عن عائشة –رضى الله عنها-:"أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادى بأعلى صوته: "أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق" (1) .
(1) المسند 6/81، 89، 174، وعزاه الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 3/55 إلى أحمد، وقال: رجاله رجال الصحيح، انظر دفع الشبهات لأحمد حجازى السقا ص208، 209 حيث بتر هذه الرواية مكتفياً فى سردها إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا عذاب دون يوم القيامة، موهماً أن هذه الرواية تنفى عذاب القبر. فتأمل كيف يحرفون الكلم عن مواضعه.
.. وفى هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم، إنما علم بحكم عذاب القبر، إذ هو بالمدينة فى آخر الأمر، وهذا لا يستشكل مع ما نزل بمكة من قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1) وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (2) . لأن الآيتين بظاهر منطوقهما فى حق الكفار.
والذى أنكره النبى صلى الله عليه وسلم، إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم اعلم صلى الله عليه وسلم، أن ذلك قد يقع على من يشاء منهم، فجزم به، وحذر منه، وبالغ فى الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى (3) أ. هـ.
(1) الآية 27 من سورة إبراهيم.
(2)
الآية 46 من سورة غافر.
(3)
انظر: فتح البارى 3/278، 279، وانظر: تصريح البراء بن عازب رضي الله عنه بأن آية "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" قال نزلت فى عذاب القبر" أ. هـ. أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه 9/221رقم2871،والنسائى فى سننه كتاب الجنائز، باب عذاب القبر4/101رقم2056.
.. أما دعوى القاضى عبد الجبار ومن قال بقوله: إن قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1) فى آل فرعون خاصة (2) .
فيجاب علىذلك: بأن دعوى الخصوصية ممتنعة، ولا دليل عليها، ومما يؤيد ذلك ما يلى:
أولاً: لقد احتج أهل العلم بهذه الآية على عذاب القبر، وما زالوا يستشهدون بها على إثباته (3)، حتى قال الإمام ابن كثير – رحمه الله:"وهذه الآية أصل كبير فى استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ فى القبور"(4) .
ثانياً: لقد فهم الصحابة والتابعون رضي الله عنهم عدم الخصوصية فى الآية، ولذلك جعلوها مستنداً لهم فى إثبات عذاب القبر (5) .
(1) الآية 46 من سورة غافر.
(2)
شرح الأصول ص 730، ودفع الشبهات عن الشيخ محمد الغزالى لأحمد حجازى السقا ص209، وراجع: المصادر السابقة ص 818، 819.
(3)
انظر: المنهاج شرح مسلم 9/223 رقم 2866، والجامع لأحكام القرآن 15/318، 319، وفتح البارى 3/276، وتفسير القرآن العظيم 4/81.
(4)
تفسير القرآن العظيم 4/81.
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 15/319، وانظر: استدلال جرير بن عبد الله رضي الله عنه على ذلك فى رواية البراء بن عازب عند أبى داود وستأتى بعد قليل ص 826.
ثالثاً: روى البخارى بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة؛ فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار؛ فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة"(1) وهذا فى معنى الآية (2) .
…
أما زعمهم بأن أحاديث عذاب القبر آحاد لا يحتج بها هنا فى العقائد، فقد سبق أن جماعة من الأئمة نصوا على أن الأحاديث الواردة فى عذاب القبر، وسؤاله، ونعيمه، متواترة بمجموعها تواتراً معنوياً، وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر.
وحتى لو كانت أحاداً لوجب علينا التسليم لها، والإيمان بمضمونها، متى ثبتت صحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن دلت على عقيدة خلافاً لمن أبى ذلك.
فخبر الآحاد حجة فى العقائد كما سبق تفصيله فى غير موضع من البحث (3) .
وأما دليلهم العقلى فيجاب عنه بالآتى:
أولاً: هذا إقحام منهم للعقل فى أمر لا طاقة له به، ولا مدخل له فيه؛ لأن عذاب القبر ونعيمه أمر غيبى لا عهد للعقول به فى هذه الدار، ولا يمكنها أن تصل إلى كيفيته، وإنما يتوقف الإيمان فيه على النصوص الواردة، وإن كان العقل لا يمنع وقوعه، والشرع لا يأتى بما تحيله العقول، ولكنه يأتى بما تحار فيه العقول (4) .
(1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشى 3/286 رقم 1379، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه
…
إلخ 9/218 رقم 2866، واللفظ لمسلم.
(2)
انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/414 – 415.
(3)
راجع: إن شئت ص 497، 552-566، 751-753، 757، 758، 787-788.
(4)
انظر: شرح الطحاوية 2/136بتصرف.
ثانياً: إن الحياة التى يحياها الميت فى قبره والتى دل عليها حديث النبى صلى الله عليه وسلم، فى قوله:"فتعاد روحه إلى جسده"(1) حياة أخرى غير هذه الحياة المعهودة فى الدنيا التى تقوم فيها الروح بالبدن، وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، وهذا أمر لا يكذبه العقل ولا ينفيه (2) .
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – "إن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به فى بطن الأم جنيناً.
الثانى: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به فى حال النوم فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به فى البرزخ (3) ؛ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه البته.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً، ولا نوماً، ولا فساداً.
…
وإذا كان النائم روحه فى جسده وهو حى، وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده، كانت له حال متوسطة بين الحى وبين الميت الذى لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحى والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة" (4) .
(1) جزء من حديث البراء بن عازب الطويل فى شأن عذاب القبر، والحديث أخرجه أبو داود فى سننه بطوله، فى كتاب السنة، باب فى المسألة فى القبر وعذاب القبر 4/239، 240 رقم 4753، وأحمد فى المسند 4/287 – 288، وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/52 – 53.
(2)
انظر: الروح ص 62، وفتح البارى 3/241.
(3)
البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به الفترة ما بين الموت إلى القيامة. انظر: القاموس المحيط 1/255.
(4)
الروح ص 62، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/136.
.. واعلم: أن الرسل "صلوات الله وسلامه عليهم" لا يخبرون بما تحيله العقول وتنافيه، ولكن إخبارهم إما أن يشهد به العقل والفطرة، وإما أن لا يدركه العقل لعجزه عن الوصول إلى حقيقته وكنهه، ولا يكون الخبر بذلك محالاً فى العقل، وبالتالى كل خبر يظن أن العقل يحيله فإما أن يكون كذباً أو يكون ذلك العقل فاسداً (1) .
وبعد
فإن عذاب القبر أو نعيمه حق ثابت بظاهر القرآن، وصريح السنة المطهرة وعلى ذلك إجماع أهل السنة (2) .
فإن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى، أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين (3) .
أدلة عذاب القبر ونعيمه:
…
الذى يلقى نظرة فى القرآن الكريم، والسنة المطهرة يجد أن عذاب من يستحق العذاب، ونعيم من يستحق النعيم يبدأ منذ قدوم الملائكة لأخذ روحه عند الموت قال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (4) .
(1) الروح ص 86، 87 بتصرف، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة1/403–405.
(2)
شرح لمعة الاعتقاد الهادى إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسى ص 69، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/397.
(3)
الروح ص 74، ولوامع الأنوار البهية 2/25.
(4)
الآية 93 من سورة الأنعام.
.. فقوله تعالى: "وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ" أى بالضرب حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، وهو كقوله:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (1) وفى حق أهل النعيم قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (3) . وغير ذلك من الآيات.
…
وهذا وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب أو النعيم الواقع قبل يوم القيامة.
وإنما أضيف العذاب أو النعيم إلى القبر لكون معظمة يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته، ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا ما شاء الله" (4) .
وهذا خلافاً لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وقال بعذاب القبر لمن قبر فقط (5) .
…
كما دلت الأدلة على وقوع النعيم أو العذاب عقب الدفن، وبعد سؤال الملكين، وامتحانهما له.
(1) الآية 50 من سورة الأنفال.
(2)
الآية 32 من سورة النحل.
(3)
الآية 30 من سورة فصلت.
(4)
الفصل فى الملل والنحل 4/67، وفتح البارى 3/275، 276.
(5)
انظر: شرح الأصول ص 733.
فقد جاء فى حديث البراء بن عازب فى شأن المؤمن: "فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها، وطيبها ويفسح له فى قبره" وقال فى الكافر: "فينادى مناد من السماء أن كذب عبدى فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه
…
" الحديث (1) .
…
فهذا نص صريح على وقوع النعيم أو العذاب بعد الدفن.
وفى الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعاً: "إن هذه الأمة تبتلى فى قبورها. فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع
…
، الحديث (2) .
…
فقد دلت هذه الأحاديث وغيرها فى الصحيح كثير، على وقوع عذاب القبر بعد الدفن.
وهل يدوم ذلك إلى يوم القيامة أم ينقطع؟ الظاهر من النصوص، أن منه ما هو دائم إلى يوم القيامة، وهو عذاب الكفار، كما قال تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (3) وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (4) .
قال الحافظ ابن حجر قال الطبرى: "الأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل الجوع أو السبى أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك"(5) .
(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى المسئلة فى القبر وعذاب القبر4/239رقم4753.
(2)
جزء من حديث طويل أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر
…
إلخ 9/218،219رقم2867.
(3)
الآية 46 من سورة غافر.
(4)
الآية 101 من سورة التوبة.
(5)
فتح البارى 3/276 رقم 1369 بتصرف يسير.
وفى حديث أبى هريرة فى شأن المنافقين "فيقال للأرض: التئمى عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك"(1) .
…
ومنه الذى يدوم مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة، فإنهم يعذبون على قدر جرائمهم، ثم يخفف عنهم (2) .
…
وبالتالى زعم القاضىّ عبد الجبار ومن قال بقوله: إن العذاب يؤخر إلى ما بين النفختين (3) ؛ زعم لا حقيقة له؛ لأن الأدلة السابقة تخالفه، والآية التى استدلوا بها دليل عليهم لا لهم، لأن المراد بالبرزخ هو الحاجز الذى بين الدنيا والآخرة، وهى فترة بقاء الناس فى قبورهم (4) .
…
إن الله عز وجل جعل أمر الآخرة وما يتصل بها من حياة البرزخ أمراً غيبياً محجوباً عن المكلفين فى هذه الدار، لكمال حكمته سبحانه وتعالى، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم (5) .
…
ولو أطلع الله العباد على عذاب القبر؛ لزالت حكمة التكليف، والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما ثبت فى صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع منه (6) .
…
ولما كانت هذه الحكمة منفية فى البهائم، سمعت ذلك وأدركته كما سبق فى الحديث (7) . إن الله عز وجل حجب بنى آدم، من رؤية كثير مما يحدث فى هذه الدنيا، فجبريل
(1) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/383، 384 رقم 1071 وقال: حديث حسن غريب.
(2)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/139.
(3)
انظر: شرح الأصول ص 732.
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم 3/256.
(5)
انظر: الروح ص 89.
(6)
سبق تخريجه ص 829.
(7)
راجع: ص 824.
-عليه السلام كان ينزل بالوحى على النبى صلى الله عليه وسلم ويخاطبه على كثب من الصحابة رضي الله عنهم وهم لا يرونه، والجن يعيشون بيننا، ويتكلمون فيما بينهم، ونحن لا نراهم، ولا نسمع كلامهم، والنائم يجد ألماً ولذة فى نومه، ولا يحس بذلك جليسه، بل اليقظان يحس بالألم، ويشعر باللذة ولا يجد ذلك من يجالسه (1) .
والمحتضر يشعر بالألم عند احتضاره، وتضربه الملائكة، والحاضرون لا يرون ذلك.
كذلك عذاب القبر، ونعيمه، يقع على الميت، حتى لو دفن رجلان أحدهما إلى جنب الآخر، وكان أحدهما منعماً، والآخر معذباً، فإن نعيم الأول لا يصل إلى الثانى، وكذا عذاب الثانى لا يصل إلى الأول. وقدرة رب العزة أعجب، وأوسع من ذلك (2) . فقياس أحوال الآخرة، وحياة البرزخ بأحوال الدنيا، قياس للغائب، على الشاهد، وهو محض الضلال، والجهل، وتكذيب الرسل صلوات الله وسلامه عليهم (3) أ. هـ.
اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات،
ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إنى اسألك حسن الخاتمة
(1) انظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 9/224 رقم 2866-2875، وفتح البارى 3/278 رقم 1374، والروح ص 90، 91.
(2)
انظر: شرح الطحاوية 2/138، والروح ص 92،93، والاعتصام 2/569.
(3)
انظر: فتح البارى 3/278 رقم 1374، الروح ص 100، وللاستزادة انظر: إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين للإمام البيهقى، والغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد همام، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/397-415.