الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:شبهات بنيت على آيات من القرآن الكريم
تمهيد:
…
إننا لو فتشنا عن المحاربين لسنة النبى صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنهم يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التى ليس وراءها حجة، فيقولون: علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذى سلم من التغيير والتبديل
…
إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما فى كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذى أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها.
وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون منهما تشكيكاً فى حجية السنة. نذكرهما فى مطلبين:
1-
المطلب الأول: شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية والرد عليها.
2-
المطلب الثانى: شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها.
المطلب الأول:شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنة النبوية
…
واستدلوا على ذلك من القرآن الكريم بآيات عدة وهى:
1-
قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (1) . واستدل بهذه الآية الدكتور توفيق صدقى (2) ، ومحمود أبو ريه (3) ، ومحمد نجيب (4) ، وقاسم أحمد (5) .
(1) الآية 38 من سورة الأنعام.
(2)
مجلة المنار المجلد 9/516، 907، وأيده جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص33
(3)
أضواء على السنة المحمدية 404.
(4)
الصلاة ص 23.
(5)
إعادة تقييم الحديث 86.
2-
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) .
3-
وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (2)
4-
وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (3) .
…
واستدل بهذه الآيات الكريمات وما فى معناها (4) عدد من أعداء السنة المطهرة المنكرين لحجيتها قديماً وحديثاً، الزاعمين أن القرآن فى غنى عن السنة؛ لأن فيه بيان وتفصيل كل شئ؛ فقديماً على سبيل المثال لا الحصر: الطائفة التى ناظر الإمام الشافعى واحداً من أتباعها واستدلوا بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (5) .
(1) جزء من الآية 89 من سورة النحل.
(2)
جزء من الآية 114 من سورة الأنعام.
(3)
جزء من الآية 115 من سورة الأنعام.
(4)
كقوله تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " الآية 52 من سورة الأعراف، وقوله تعالى:"كِتَابٌ فُصِّلَتْءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" الآية 3 من سورة فصلت.
(5)
الآية 89 من سورة النحل، وانظر: الأم كتاب جماع العلم باب حكاية قول الطائفة التى ردت الأخبار كلها 7/250.
.. وحديثاً: الدكتور توفيق صدقى (1) ، وأبو رية (2) ، ومحمد نجيب (3) ، ومصطفى كمال المهدوى (4) ، وأحمد صبحى منصور (5) ، وقاسم أحمد (6) ، وجمال البنا (7) ، ورشاد خليفة (8) .
(1) مجلة المنار المجلد 9/907.
(2)
أضواء على السنة ص 404.
(3)
الصلاة ص 22.
(4)
مصطفى كمال المهدوى: مستشارى ليبى معاصر ينكر حجية السنة النبوية، من مؤلفاته: البيان بالقرآن من جزأين. وانظر: استشهاد بالآيات السابقة فى كتابه البيان بالقرآن 1/29،10.
(5)
الصلاة فى القرآن ص 32، 60، 61، ولماذا القرآن ص 10.
(6)
إعادة تقييم الحديث 86.
(7)
جمال البنا: هو جمال البنا ابن العالم المحدث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا صاحب الفتح الربانى فى ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى، وشقيق الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الأول، من مصنفاته التى طعن فيها فى حجية السنة النبوية المطهرة، الأصلان العظيمان، وكتاب السنة ودورها فى الفقه الجديد.وانظر: استدلاله بالآيات السابقة فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص33.
(8)
رشاد خليفة: هو رشاد عبد الحليم محمد خليفة، حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة عين شمس، عمل خبيراً زراعياً بالولايات المتحدة الأمريكية، كان عميلاً للبهائية ويدعو إليها، وينكر حجية السنة النبوية، ادعى النبوة ومات مقتولاً داخل مسجد قريب من جامعة أريزونا حيث كان يقوم بتدريس أفكاره البهائية التى تشكك فى الإسلام، وفى حجية السنة المطهرة، انظر: قصته فى كتابى الدفاع عن السنة ص42 وما بعدها، ومسيلمة فى مسجد توسان ص 16، 70، كلاهما لأستاذنا الدكتور طه حبيشى ص16،70. ورشاد خليفة صنيعة الصليبية العالمية للدكتور خالد نعيم ص 16-59، وانظر: استدلاله بالآيات السابقة فى قرآن أم حديث ص 6، والقرآن والحديث والإسلام ص 32.
5-
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) . واستدل بهذه الآية أبو رية (2) ، ومحمد نجيب (3) .
6-
وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) . واستدل بهذه الآية الدكتور أحمد صبحى منصور (5) ، وإسماعيل منصور (6) .
7-
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (7) واستدل بهذه الآية الدكتور إسماعيل منصور (8) .
8-
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (9) . واستدل بهذه الآية محمد نجيب (10) ، وإسماعيل منصور (11) .
(1) جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
(2)
أضواء على السنة ص 404.
(3)
الصلاة ص 23.
(4)
الآية 19 من سورة الأنعام
(5)
مجلة منظور المسلم نقلاً عن مسيلمة فى مسجد توسان ص 249.
(6)
إسماعيل منصور: هو إسماعيل منصور جودة، تخرج من جامعة القاهرة، وحصل على العالمية فى الطب البيطرى من الجامعة، تبرأ من السنة وزعم أنها أكذوبة كبيرة وخطيرة، وداهية كبرى أريد بها التشويش على كلام الله تعالى. من مصنفاته: تبصير الأمة بحقيقة السنة، وشفاء الصدر بنفى عذاب القبر، وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين. وغير ذلك، انظر: استدلاله بالآيات السابقة فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص11.
(7)
الآية 170 من سورة الأعراف.
(8)
تبصير الأمة بحقيقة السنة ص15.
(9)
الآية 51 من سورة العنكبوت.
(10)
الصلاة ص 22.
(11)
تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 10.
.. هذه الآيات الكريمات وما فى معناها؛ استدل بها دعاة الفتنة على عدم حجية السنة النبوية المطهرة، وشبهتهم فى هذه الآيات؛ أنها تبين أن القرآن تام قد حوى كل شئ، كما فى آية الأنعام "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ"، والله عز وجل ما فرط فى الكتاب من شئ، كما فى آية الأنعام "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" فأتى بالعام ثم فصله تفصيلاً، كما فى آية الأنعام "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا" وغيرها، وأتى بالمجمل ثم بينه للناس تبيناً تاماً، كما فى أية النحل "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" فهو لا يحتاج بعد هذا البيان إلى شئ آخر، وإلا لو احتاج إلى شئ آخر لكان القرآن غير صادق فيما قال، وهذا أمر مستحيل على الله عز وجل، ومستحيل على كلامه.
…
هذه هى ناصية الشبهة الأولى وجماعها، وهم يذكرون لها حشداً عظيماً من الآيات التى تؤيدها سواء كان الدليل فى موضوعه كما فى الآيات التى استشهدوا بها سابقاً، أو فى غير موضوعه كما فى باقى الآيات "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ""وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ""وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ""أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ".
…
فهؤلاء المدلسون ما عليهم إلا أن يفتحوا المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وينقلوا منه الآيات التى يشوشون بها على المسلمين، ويضعون أمام كل آية جملة تلائمها، ولا يهمهم بعد ذلك أبقيت وحدة الموضوع بين أيديهم أم لم تبق.
…
على أية حال فإن هذه هى الشبهة الأولى فى أصلها الأصيل وكلياتها التى لا تخرج عنها مهما علا الضجيج أو ارتفع الصياح (1) .
(1) السنة فى مواجهة أعدائها للأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 63،64 بتصرف.
.. ويقول الدكتور السباعى - رحمه الله تعالى - تتلخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعى فى قولهم: إن القرآن جاء تبياناً لكل شئ، فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لم ترد فى القرآن؛ كان ذلك معارضة من ظنى الثبوت وهى الأخبار، لقطعيه – وهو القرآن – والظنى لا يقوى على معارضة القطعى، وإن جاءت مؤكدة لحكم القرآن؛ كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تبيناً للقطعى الذى يكفر منكر حرف منه، بظنى لا يكفر من أنكر ثبوته، وهذا غير جائز.
…
وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار؛ لأنها قطعية الثبوت، فكيف عمم الشافعى بقوله:"رد الأخبار كلها"؟ والذى يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قطعياً أيضاً بل هو عندهم ظنى؛ لأنه جاء من طرق آحادها ظنية، فاحتمال الكذب فى رواته لا يزال قائماً ولو كانوا جمعاً عظيماً" (1) أ. هـ.
والجواب عن هذه الشبهة:
…
إن أعداء السنة المطهرة فهموا أن المراد من الكتاب فى قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) القرآن، ولكن مجموع الآيات ابتداء ونهاية، يفيد أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ الذى حوى كل شئ، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام كما جاء فى الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء"(3) .
(1) السنة ومكانتها فى التشريع ص 151.
(2)
جزء من الآية 38 من سورة الأنعام.
(3)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 8/452 رقم 2653.
.. وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (1) . والمثلية فى الآية ترشح هذا المعنى؛ لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها للبشر، وإنما الذى حوى كل شئ للطير والبشر، وتضمن ابتداءً ونهاية للجميع هو اللوح المحفوظ. يقول الحافظ ابن كثير: أى الجميع علمهم عند الله عز وجل، لا ينسى واحداً من جميعها، من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً؛ كقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) . أى مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها" (3) . والآية نظير قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4) . وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (5) .
…
وعلى هذا الأساس، ففهم أن المراد بالكتاب فى قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . هو القرآن غير دقيق، ويأباه السياق العام للآية وربطها بما قبلها، وبغيرها من الآيات التى فى معناها وسبق ذكرها.
(1) الآية 38 من سورة الأنعام.
(2)
الآية 6 من سورة هود.
(3)
تفسير القرآن العظيم 2/131، 132، وانظر: فتح القدير للشوكانى 3/61.
(4)
الآية 59 من سورة الأنعام.
(5)
جزء من الآية 3 من سورة سبأ.
.. ومن المعلوم بداهة أن الكلمة فى اللغة العربية يكون لها أكثر من معنى، ويتحدد المعنى المراد منها من خلال سياق الكلام الذى وردت فيه، وكلمة "الكتاب" تجئ فى القرآن بمعنى الفرض، والحكم، والقدر (1) . فبمعنى القدر قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (2) .
…
يقول الحافظ ابن كثير: أى لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفى المدة التى ضربها الله له، ولهذا قال تعالى:{كتاباً مؤجلاً} . وكقوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (3) . وكقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (4) .
…
وبمعنى الفرض قوله تعالى: {الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (5) قال ابن عباس أى مفروضاً (6) ، والكتاب يأتى فى القرآن الكريم تارة مراداً به اللوح المحفوظ كما سبق وأن بينا، وتارة أخرى يأتى مراداً به القرآن الكريم كما فى قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (7) . إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
(1) القاموس المحيط 1/120، ومختار الصحاح ص 562.
(2)
الآية 145 من سورة آل عمران.
(3)
جزء من الآية 11 من سورة فاطر.
(4)
الآية 2 الأنعام، وانظر: تفسير القرآن العظيم 1/410.
(5)
الآية 103 من سورة النساء.
(6)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/550.
(7)
الآية الأولى من سورة إبراهيم.
.. ومع هذا فنحن نسلم لكم أن المراد من الكتاب "القرآن"، ولكننا نقول لكم: إن هذا العموم غير تام، بل هو مخصص بقول الله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) . والذى يجعلنا نذهب إلى تخصيص هذا العام أمران:
1-
لتتفق آيات القرآن ولا تتعارض فى ظاهرها؛ فإن القرآن ملئ بالآيات التى فوض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى شرح أحكامها.
2-
إن كثيراً من الأمور الجزئية فى حياة المجتمع تحتاج إلى حكم، وليس فى القرآن إلا قواعده الكلية العامة. وعلى هذا فلا بأس أن يكون الكتاب فى الآية الكريمة هو القرآن الكريم (2) .
ونقول لكم: نعم لم يفرط ربنا عز وجل فى كتابه فى شئ من أمور الدين على سبيل الإجمال، ومن بين ما لم يفرط فى بيانه وتفصيله إجمالاً بيان حجية السنة وجوب اتباعها والرجوع والتحاكم إليها؛ فالقرآن جامع - دون تفريط - كل القواعد الكبرى للشريعة التى تنظم للناس شئون دينهم ودنياهم، والسنة النبوية هى المبينة لجزئياتها وتفاصيلها وهى المنيرة للناس طريق الحياة، وتنسجم هذه الآية مع الآيات الأخرى التى تؤكد بالنص أهمية السنة تجاه ما فى الكتاب من القواعد التى تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو توضيح أو تبيين
…
إلخ (3) .
(1) الآية 64 من سورة النحل.
(2)
انظر: البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 1/441.
(3)
انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 384، 385، والسنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى 18-24.
.. وهنا نأتى للرد على الآيات الأخرى التى استدلوا بها على أن القرآن أنزل مفصلاً وتبياناً لكل شئ، فلا يحتاج بعد هذا البيان إلى السنة المطهرة. أما قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (1) . وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) .
…
فالمراد بالتفصيل والبيان هنا: تفصيل وبيان كل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، أما تفاصيل تلك القواعد وما أشكل منها؛ فالبيان فيها راجع إلى السنة النبوية قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) فقاعدة وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى سنته المطهرة من القواعد الكلية المجملة لهذا الدين، وفصلها ربنا عز وجل فى كتابه العزيز كما فى الآية السابقة. وقوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (4) يقول ابن كثير فى تفسير قوله تعالى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} عن ابن مسعود (5) رضي الله عنه قال: قد بين لنا فى هذا القرآن كل علم وكل شئ وقال مجاهد (6)
(1) جزء من الآية 114 من سورة الأنعام.
(2)
جزء من الآية 89 من سورة النحل.
(3)
الآية 44 من سورة النحل.
(4)
الآية 64 من سورة النحل.
(5)
ابن مسعود: هو عبد الله بن مسعود صحابى جليل. له ترجمة فى: الاستيعاب 3/987 رقم1659، واسد الغابة 3/381 رقم 3182، وتاريخ الصحابة ص 149 رقم 718، وتذكرة الحفاظ 1/13 رقم 5، وطبقات الحفاظ ص 14 رقم6، وتجريد أسماء الصحابة 1/334، ومشاهير علماء الأمصار ص 16 رقم 21، والإصابة 2/360 رقم 4969.
(6)
مجاهد: هو مجاهد بن جبر، بفتح الجيم، وسكون الموحدة، أبو الحجاج المخزومى مولاهم، المكى، ثقة، إمام فى التفسير، والعلم، مات سنة 104هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/159 رقم 6501، وتذكرة الحفاظ 1/92 رقم 83، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص42 رقم 81، والثقات للعجلى ص420 رقم 1538، والثقات لابن حبان 5/419، وطبقات المفسرين للداودى 2/305 رقم 617.
: كل حلال وحرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتى، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون فى أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم - وقال الأوزاعى:"تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" أى بالسنة (1) .
…
ولا تعارض بين القولين - ابن مسعود والأوزاعى - فابن مسعود يقصد العلم الإجمالى الشامل، والأوزاعى يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالى.
…
ومن هنا؛ فالقول بأن القرآن الكريم تبيانٌ لكل شئ قول صحيح فى ذاته بالمعنى الإجمالى السابق ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم. وإلا فرب العزة هو القائل فى نفس سورة النحل وقبل هذه الآية قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (2) .
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/582.
(2)
الآيتان 38، 39 من سورة النحل.
.. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) فتلك ثلاث آيات كريمات فى نفس سورة النحل وسابقة لآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} والثلاث آيات تسند صراحة مهمة البيان والتفصيل إلى النبى صلى الله عليه وسلم صاحب السنة المطهرة، فهل يعقل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة - البيان، التى هى من مهام الرسل جميعاً كما قال عز وجل {أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (3) . وقال عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (4) . ويوقع التناقض بآية {الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .
إن كل الرافضين لحجية السنة، لابد أن يلتزموا بهذه النتيجة التى تعود بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله، سواء أقروا بلسانهم بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا؟!!
(1) الآية 44 من سورة النحل.
(2)
الآية 64 من سورة النحل.
(3)
الآية 4 من سورة إبراهيم.
(4)
الآية 187 من سورة آل عمران.
.. ويجدر بنا أن نشير إلى نصوص لبعض العلماء تؤكد الذى قلناه فى معنى البيان الوارد فى الآية التى استشهدوا بها يقول الإمام الشاطبى (1) : "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلى لا جزئى، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبى صلى الله عليه وسلم. ويدل على هذا المعنى - بعد الاستقراء المعتبر - أنه محتاج إلى كثير من البيان، فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هى بيان للكتاب كما سيأتى شرحه إن شاء الله تعالى.
…
وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وإذا كان الأمر كذلك فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله؛ لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها فى القرآن، إنما بينتها السنة، وكذا تفاصيل الشريعة من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود، وغير ذلك.
(1) الإمام الشاطبى: هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطى الشهير بالشاطبى، العلامة المؤلف النظار المفسر الأصولى اللغوى المحدث الورع الزاهد، له تأليف نفيسة منها: الموافقات فى أصول الفقه، والاعتصام فى الحوادث والبدع، توفى سنة790هـ. له ترجمة فى: شجرة النور الزكية محمد مخلوف ص 231 رقم 828، والمجددون فى الإسلام عبد المتعال الصعيدى ص 305، والفتح المبين عبد الله المراغى 2/204، وأصول الفقه تاريخه ورجاله للدكتور شعبان إسماعيل ص 384.
(2)
الآية 44 من سورة النحل.
(3)
جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
.. فعلى هذا لا ينبغى فى الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر فى شرحه وبيانه وهو السنة؛ لأنه إذا كان كلياً وفيه أمور كلية كما فى شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر فى بيانه، وبعد ذلك ينظر فى تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة، فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا فمطلق الفهم العربى لمن حصله يكفى فيما أعوز من ذلك، فبيان الرسول صلى الله عليه وسلمبيان صحيح لا إشكال فى صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ولا خلاف فى هذا البيان النبوى (2) .
…
ويقول الدكتور إبراهيم محمد الخولى: "التبيين" هنا غير "التبليغ" الذى هو الوظيفة الأولى للنبى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3)، و"التبيين" و "التبليغ" وظيفتان موضوعهما واحد هو "القرآن العظيم" عبر عنه فى آية "التبليغ" بهذا اللفظ:"ما أنزل إليك" وعبر عنه فى آية التبيين بلفظ مختلف: "ما نزل إليهم" وبينهما فروق لها دلالتها، مردها إلى الفروق بين الوظيفتين "فالتبليغ" تأدية النص؛ تأدية "ما أنزل" كما "أنزل" دون تغيير ما على الإطلاق، لا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير
…
... و "التبيين" إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، كى يتسنى لهم إدراكه، وتطبيقه، والعمل به على وجه صحيح.
…
و "التبليغ" مسئولية "المبلغ" وهو المؤتمن عليها، وهذا سر التعبير:"وأنزلنا إليك" حيث عدى الفعل "أنزل" بـ "إلى" إلى ضمير النبى صلى الله عليه وسلم، المخاطب.
(1) الآية 44 من سورة النحل.
(2)
الموافقات للشاطبى 3/274 - 276، 300، 301، 330 - 338 بتصرف يسير.
(3)
الآية 67 من سورة المائدة.
.. و "التبيين": مهمة، فرضتها حاجة الناس لفهم ما خوطبوا به، وبُلَّغوه، وإدراك دلالته الصحيحة، ليطبقوه تطبيقاً صحيحاً.
…
ومن هنا كانت المخالفة فى العبارة
…
"ونزل إليهم"
…
حيث عدى الفعل "نزل" بـ (إلى) مضافاً إلى الضمير "هم"
…
أى الناس، وعُدِّى الفعل "لتبين" إلى الناس بـ "اللام" أن كانت حاجتهم إلى "التبيين" هى السبب والحكمة من ورائه، وهى توحى بقوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجة إلى ما احتاج إليه الناس من هذا التبيين، ولعمرى إنه لكذلك
…
، فقد أوحى إليه بيانه وألهمه، فالتقى فى نفسه "البيان" و "المبين" معاً، وأصبح مؤهلاً لأن يقوم بالوظيفتين: وظيفة البلاغ، ووظيفة التبيين على سواء
…
، واختلاف الناس فى فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ واختلافهم فى فهم درجات الإصابة، ودركات الخطأ
…
برهان بين على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم، ينهض به إمام الموقعين عن رب العالمين (1) .
…
ويقول الإمام الشافعى: "والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع: فجماع ما أبان الله عز وجل لخلقه فى كتابه، مما تعبدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه:
1-
منها ما أبانه لخلقه نصاً مثل إجمال فرائضه فى أن عليهم صلاة، وزكاة، وحجاً، وصوماً، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص على الزنا، والخمر، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصاً "إجمالياً".
2-
ومنها ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه مثل عدد الصلاة، والزكاة ووقتها، إلى غير ذلك من فرائضه التى أنزلها فى كتابه عز وجل.
(1) السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم محمد الخولى ص4، 5، 13، 47-69.
3-
ومنها ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص محكم، وقد فرض الله فى كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل (1) .
تعليق:
…
مما سبق من قول الإمامين الشاطبى والشافعى يتأكد ما ذكرناه فى أن المراد من معنى البيان والتفصيل الوارد فى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة المطهرة؛ بيان وتفصيل القرآن لكل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، ومن بين تلك القواعد التى فصلها وبينها ربنا عز وجل؛ وجوب اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى سنته المطهرة (2) ، ففى تلك السنة المطهرة إيضاح هذه القواعد وتفصيلها، فجاءت السنة موافقة ومؤكدة للقرآن، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه، ومفصله لمجمله، وموضحة لمشكله، ومستقلة بتشريع أحكام دون سابق ذكر لها فى كتاب الله عز وجل كما سيأتى مفصلاً فى المبحث الثالث.
…
يقول الإمام الشاطبى: "القرآن فيه بيان كل شئ على ذلك الترتيب المتقدم؛ فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شئ؛ فهو أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية، والتى منها السنة النبوية، فهى حاصلة فيه فى الجملة، والدليل على ذلك أمور:
(1) الرسالة للشافعى ص 20،22.
(2)
انظر: البحر المحيط للزركشى 1/441.
1-
منها: النصوص القرآنية، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما فى الصدور، ولا يكون شفاء لجميع ما فى الصدور إلا وفيه تبيان كل شئ (5) .
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2)
الآية 89 من سورة النحل.
(3)
الآية 38 من سورة الأنعام.
(4)
الآية 9 من سورة الإسراء.
(5)
الموافقات 3/333، 334 بتصرف يسير.
2-
ومنها: ما جاء فى الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"(1) . وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب؛ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "هَلْمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله (2) ، وأشباه هذا مما روى مرفوعاً وموقوفاً بالاقتصار على القرآن فقط.
…
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - الاقتصار على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهم؛ ولأن فيه تبيان كل شئ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى:{ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) .
وكلام الحافظ ابن حجر السابق نقله مبتوراً الأستاذ جمال البنا فقال: "التمسك بالقرآن والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله". وترك جمال البنا، بيان أن العمل بالقرآن الكريم يقتضى العمل بالسنة المطهرة كما صرح ابن حجر (4) .
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم 4/431، 432 رقم 1218 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ6/100 رقم1638
(3)
جزء من الآية 7 من سورة الحشر، وانظر: فتح البارى 5/425، 426 رقم 2740 حديث عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه.
(4)
السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 246.