الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى ذلك رد على الصنم الأكبر للمستشرقين (جولدتسيهر) ومن تابعه من بنى جنسه، وغيرهم من المفتونين بهم من أدعياء العلم:"من أنه ليس صحيحاً ما يقال أن الحديث وثيقة للإسلام فى عهده الأول.. إلخ"(1) .
نقد قاعدة شاخت:
…
وأبلغ رد على "جوزيف شاخت" فى أنه لا صحة لأى حديث منسوب للنبى صلى الله عليه وسلم فى أحاديث الأحكام، وأن المجموعة الأولى من أحاديث الأحكام، قد نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى.
أبلغ رد عليه فى ذلك ما سبق ذكره من كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى واليه (عمرو بن حزم رضي الله عنه والكتاب فى الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن،
أليس هذا الكتاب فى الأحكام الفقهية التى يشكك فيها شاخت؟
…
وكذلك كتاب عمر إلى عامله عتبة بن فرقد بالنهى عن الحرير، وكتابه فى الزكاة، والخراج، والمسائل المالية الأخرى.
وكتاب أبى بكر لعامله أنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين.
أليس ذلك وغيره مما ذكرناه، من أحاديث الأحكام الفقهية التى يزعم "شاخت" ومن صار على دربه أنها نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى؟!
(1) للاستزادة فى الرد على هذه الشبهة انظر: الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 302، 303، والسنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 195 -197، والسنة قبل التدوين للدكتور عجاج ص249،ومنهج النقد فى علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر ص463-466
.. ويقول الدكتور ظفر إسحاق الأنصارى (1) فى نقد قاعدة شاخت: "إن قراءة عابرة لكتاب (أصول الفقه المحمدى) لجوزيف شاخت توضح أن قاعدته فى البحث واستدلالاته سطحيان للغاية فقاعدته (المنهجية المزعومة) القائمة على إنكار وجود خبر أو أثر بناء على سكوت المصادر عنه، وهو ما يقوم عليه موقف شاخت من إنكار توثيق الأحاديث بصفة عامة. فقوله: "إن حديثاً ما سيعد غير موجود فى وقت من الأوقات إذا لم يحتج بذلك الحديث فى مواطن الخلاف حيث يكون الاستدلال به أمراً لازماً" (2) .
…
إنَّ التجاء شاخت إلى هذه الحجة بدا كأنه يوحى بأن علماء المسلمين فى القرون الأولى كانوا فى حالة (نقاش وجدل) مستمر، وهو افتراض يرفضه العقل السليم بداهة ولا تسلم لشاخت قاعدته إلا إذا سلمنا بالافتراضات الآتية:
1-
أنه كلما ذكرت الأحكام الشرعية فى القرون الأولى من الهجرة المباركة ذكرت معها أدلتها المؤيدة، ولا سيما الأحاديث.
2-
أن الأحاديث المعروفة لفقيه ما (أو محدث) ينبغى أن تعرض بالضرورة عند كل فقهاء عصره ومحدثيه فى زمنه.
3-
أن جميع الأحاديث التى (نشرت) فى عهد معين، قد دونت تدويناً كاملاً، وصارت مشهورة على نطاق واسع، وأصبحت محفوظة تماماً، بحيث أننا إذا لم نجد حديثاً فى كتاب من كتب أحد العلماء المعروفين فهذا يعنى بالضرورة، عدم وجود ذلك الحديث فى عهده، سواء فى منطقته أو فى سائر أنحاء العالم الإسلامى آنذاك.
…
ولا يسلم واحد من هذه الافتراضات مع الشهادات التاريخية والحقائق المعروفة فى تلك القرون الأولى.
(1) مدير مركز البحوث الإسلامية - بالجامعة الإسلامية - إسلام آباد - باكستان.
(2)
أصول الفقه المحمدى ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد11/698
أولاً: لأن من المصنَّفات المتقدمة مدون فيها أحكام فقهية مستنبطة من آيات القرآن الكريم، ومن أحاديث نبوية دون أى إشارة إلى تلك الآيات أو الأحاديث حيث كان أولئك المؤلفون يكتفون بتسجيل آراء مذاهبهم، ولم يهتموا بالضرورة، ببيان الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضي الله عنهم لتأييد تلك الآراء، هذا إذا كان عنده علم بها، وقد يكون سبب عدم ذكره للحديث عدم بلوغه وعلمه به أو لأنه لم يثبت عنده، أو لمعارضة الحديث لما هو أقوى منه سنداً أو دلالة، كالإمام مالك رحمه الله فى تقديمه عمل أهل المدينة على خبر الواحد.
ثانياً: "إن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحدث، أو يفتى أو يقضى، أو يفعل الشئ، فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، ويبلغه أولئك - أو بعضهم - لمن يبلغونه، فينتهى علم ذلك إلى من شاء الله تعالى من العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ثم فى مجلس آخر قد يحدث، أو يفتى، أو يقضى، أو يفعل شيئاً، ويشهده بعض من كان غائباً عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم. فيكون عند هؤلاء من العلم، ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء. وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم، بكثرة العلم، أو جودته. وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمكن ادعاؤه قط. واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وأحواله.
…
وإذا كان هذا هو حال أعلم الأمة وأفقهها، وأتقاها وأفضلها؛ فمن بعدهم أضعف وخفاء بعض السنة عليهم أولى، فلا يحتاج ذلك إلى بيان.
.. فمن اعتقد، أن كل حديث قد بلغ كل واحد من الأئمة، أو إماماً معيناً، فهو مخطئ خطأ فاحشاً قبيحاً" (1) .
ثالثاً: لا يسلم الافتراض الثالث لما هو معلوم، وسيأتى أن السنة النبوية قد مرت بمراحل ثلاث: 1-الكتابة، 2-التدوين، 3-التصنيف.
…
"ولا يقولنَّ قائلٌ: إنَّ هذه الأحاديث قد دونت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد، لأن هذه الدواوين المشهورة فى السنن، إنما جمعت بعد ذهاب الأئمة المتبوعين رحمهم الله ومع هذا، فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دواوين معينة.
…
ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فليس كل ما فى الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها" (2) .
…
وهكذا لم يسلم واحد من الافتراضات الثلاثة حتى تسلم لشاخت قاعدته.
يقول الدكتور ظفر: "ويكون من المفيد البحث عن الأحاديث التى وجدت فى الكتب السابقة، ولكنها لم تذكر فى الكتب اللاحقة، وهذا يعنى إمكان العمل على طريق معاكس لافتراض شاخت، وهذا سوف يأتى بنتائج مهمة للغاية، لأنه إذا كان من الممكن وهو فى نظرنا من الممكن - أن نثبت أن كثيراً من الأحاديث الواردة فى كتب متقدمة لا توجد فى كتب
(1) رفع الملام عن الأئمة لأعلام لابن تيمية ص 9، 10، 17، وانظر: علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 303 وما بعدها.
(2)
رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص 17، 18.
متأخرة، فضلاً عن الكتب المعاصرة، وكان ذلك لأن فقهاء العصر الذى نتكلم عنه لم يعتبروا أنفسهم ملزمين بذكر الأحاديث الكثيرة التى عرفوها ولو كانت مؤيدة لآرائهم، هذا فضلاً عن الأحاديث التى لم يحيطوا بها علماً كما سبق، فهذا كله يضع استدلال شاخت موضع شكوك خطيرة، ويبطل قاعدته التى على أساسها كان تشكيكه فى الأحاديث والوثوق بها بصفة عامة
…
وحتى يظهر بطلان قاعدة شاخت قام الدكتور ظفر بعقد مقارنة لطائفة من الآراء الفقهية لبعض فقهاء القرن الثانى الهجرى، وذلك من خلال مقارنة "موطأ الإمام مالك" برواية (يحيى الليثى)(1) ورواية (الشيبانى)(2) حيث أن عدداً كبيراً من الأحاديث الموجودة بموطأ مالك برواية يحيى الليثى، ولا توجد بموطأ رواية الشيبانى. على الرغم من أن الشيبانى كان الأصغر سناً، وتأخر عهده عن الإمام مالك. والأعجب من ذلك أننا نرى أحياناً أن بعض أحاديث الموطأ للإمام مالك التى تؤيد آراء مذهب الإمام الشيبانى، لا توجد فى موطأ الشيبانى أصلاً.
(1) يحيى الليثى هو: يحيى بن يحيى بن كثير الليثى مولاهم القرطبى، أبو محمد، صدوق فقيه، قليل الحديث، وله أوهام مات سنة234هـ، على الصحيح. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/318 رقم 7697،وتهذيب التهذيب 11/300 رقم 580، وسير أعلام النبلاء 10/519 رقم 168، وشذرات الذهب 2/82، والديباج المذهب ص 431 رقم 608
(2)
الشيبانى: هو محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة، قال فى الميزان: لينه النسائى وغيره من قبل حفظه. وقال ابن عدى لم تكن له عناية بالحديث، وقد استغنى أهل الحديث عن تخريج حديثه وكان من بحور العلم قوياً فى مالك. له ترجمة فى: سير أعلام النبلاء 9/134 رقم 45، ولسان الميزان 5/121 رقم 410، ووفيات الأعيان 4/184 رقم 567، وشذرات الذهب 1/321، والمجروحين لابن حبان 2/275، والجرح والتعديل 7/227 رقم 1253.
.. وهذا مثالاً لتأكيد ما قلناه: يشتمل باب أوقات الصلاة فى الموطأ برواية يحيى الليثى على ثلاثين حديثاً (1) ،بينما لا نجد منها فى موطأ مالك برواية الشيبانى (2) إلا أربعة أحاديث" (3) .
…
وهكذا مرت السنة النبوية منذ عهد النبوة المباركة بمراحل ثلاث حتى ظهور المصنفات الحديثية: 1-الكتابة 2-التدوين 3-التصنيف.
…
وفى ذلك يقول العلامة فؤاد سزكين فى "تاريخ التراث العربى" يقول: "فقد مرت مكتبة الحديث بالمراحل التالية:
أ- كتابة الأحاديث: وقد سجلت الأحاديث فى هذه المرحلة فى كراريس الواحد منها له اسم الصحيفة أو الجزء، وتمت هذه المرحلة فى عصر النبوة والصحابة وأوائل التابعين.
ب- تدوين الحديث: وفى هذه المرحلة ضمنت التسجيلات المتفرقة، وتم هذا فى الربع الأخير من القرن الأول للهجرة، والربع الأول من القرن الثانى.
(1) انظر: الموطأ برواية يحيى الليثى 1/37 وما بعدها.
(2)
انظر: الموطأ برواية الشيبانى ص 31 وما بعدها.
(3)
انظر: مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة 2/587 - 595، وانظر: توثيق الأحاديث النبوية (نقد قاعدة شاخت، للدكتور ظفر ترجمة الأستاذ جمال محمد نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/694 - 706. ومزيد من الرد على شاخت فى كتابه أصول الفقه المحمدى، انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/440 - 456.
ج- تصنيف الحديث: وقد رتبت الأحاديث فى هذه المرحلة وفق مضمونها، فى فصول وأبواب، وبدأ هذا مع الربع الثانى من القرن الثانى، واستمر إلى أن ظهرت فى أواخر القرن الثانى للهجرة طرق أخرى لترتيب الأحاديث وفق أسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب يحمل الواحد منها اسم المسند" (1) أهـ.
حتى إذا أطل علينا القرن الثالث الهجرى كانت السنة النبوية قد استقرت فى بطون الكتب المعروفة لدينا الآن وعلى رأسها الكتب الستة (2) ومسند الإمام أحمد، ومن أجل هذا، ولأنه العصر الذىتميز فيه صحيح السنة من ضعيفها اعتبره العلماء العصر الذهبىللسنة المطهرة (3)
(1) تاريخ التراث العربى المجلد 1/119، وانظر: السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص160 – 195، وتوثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى أسسه واتجاهاته للدكتور رفعت فوزى ص23- 71.
(2)
الكتب الستة هى صحيحا البخارى ومسلم، وسنن كل من: الترمذى، والنسائى، وأبو داود، وابن ماجة وهناك غيرها كثير صدر فى القرن الثالث الهجرى وفيما بعده من القرون مثل سنن الدارمى، والدارقطنى، وصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، ومصنف ابن أبى شيبة، وسنن سعيد بن منصور، وسنن البيهقى، وغيرها كثير وكثير. انظر: الرسالة المستطرفة للكتانى ص 10-62، وفى رحاب السنة الكتب الصحاح الستة لدكتور محمد أبو شهبة ص 25-28.
(3)
انظر: لمحة عابرة عن التدوين فى القرنين الثانى والثالث بعبارة موجزة للحافظ ابن حجر فى هدى السارى ص 8-9، والحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 316 - 420، وعلوم الحديث للدكتور مروان شاهين ص 67-90. وانظر: مقارنة بين الأسس التى تم بموجبها جمع وتدوين السنة النبوية ومقارنة ذلك بطرق وجمع وتدوين الأناجيل فى منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 480 - 493.
.. هذا ولم يكن تدوين السنة قائماً على المكتوب فقط وإنما كان قائماً جنباً إلى جنب بجانب المحفوظ فى الصدور، فالعبرة عند المحدثين بالعدالة، والضبط وهو نوعان:
1-
ضبط صدر وهو: أن يحفظ الراوى ما سمعه ويثبت منه ويعيه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء إن حدَّث حفظاً.
2-
ضبط كتاب وهو: أن يصون الراوى كتابه من أن يتطرق إليه خلل من حين كتابته أو سماعه إلى أن يؤدى منه ولا يدفعه إلى من يمكن أن يغير فيه إن كان منه يروى (1) وعلى هذين النوعين كان تبليغ سنة النبىصلى الله عليه وسلمعلى مر العصور، وبالحفظ أكثر فى القرون الأولى (2) .
كما أن الحفظ أقوى من الكتابة لبعده عن التصحيف والغلط، ومن هنا فهو مرجح على المكتوب إذا تعارض حديث مسموع وحديث مكتوب.
قال الآمدى: "وأما ما يعود إلى المروى فترجيحات الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبى صلى الله عليه وسلم والرواية الأخرى عن كتاب.فرواية السماع أولى: لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط"(3) .
(1) توضيح الأفكار 2/119-120، وتدريب الراوى 1/301، وفتح المغيث للسخاوى 1/314، وانظر: مقاصد الحديث فى القديم والحديث لفضيلة الدكتور مصطفى التازى 2/64، واختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان ص397-409.
(2)
انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى مبحث (الكتابة ليست من لوازم الحجية والكتابة لا تفيد القطع ص 399-402، والمكانة العلمية لعبد الرزاق بن همام فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار مبحث "الكتابة ليست أوثق من الحفظ القلبى إذا توافرت دواعيه 1/239، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 2332 لسنة 1396هـ 1976م.
(3)
الإحكام للآمدى 4/215، وانظر: الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ للحازمى ص 64.
.. ويدل على أن الكتابة دون الحفظ قوة ما هو مقرر عند أهل الحديث والأصول أن أعلى وجوه الأخذ من الشيخ سماع لفظه، واتفاقهم على صحة رواية الحديث بالسماع (1) ، واختلافهم فى صحة الرواية بطريق المناولة أو المكاتبة. مع ترجيح تصحيحهما (2) .
…
وفوق كل هذا دلالة على قوة الحفظ فى المكانة عن الكتابة أن الاعتماد فى نقل القرآن الكريم والقطع به، إنما حصل على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. فالحفظ وحده كان الاعتماد عليه فى نقل القرآن الكريم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التى كتب فيها القرآن فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض الصحابة لا يعرفها إلا من هى عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم. ثم لما جمعت فى عهد أبى بكر لم تنشر هى ولا الصحف التى كتبت عنها، بل بقيت عند أبى بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه فى عامة المواضع التى يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حتى استقر تدوين القراءات الصحيحة" (3) ، وكان الاعتماد عليها وعلى نقل القرآن بالحفظ.
(1) تدريب الراوى 2/8، وفتح المغيث للسخاوى 2/20، وتوضيح الأفكار 2/295.
(2)
تدريب الراوى 2/44-58، وفتح المغيث للسخاوى 2/100 - 127، وتوضيح الأفكار 2/329 - 343، وإرشاد الفحول 1/252، 253.
(3)
الأنوار الكاشفة عبد الرحمن المعلمى ص 77.
.. يقول المحقق ابن الجزرى: (1)"ثم إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، ففى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربى قال لى قم فى قريش فأنذرهم، فقلت له: أى رب إذن يَثْلَغُوا رَأْسى حتى يدعوه خُبْزَةً فقال: إنى بمتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتاباً لا يَغْسِلُهُ الماء، تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيْقَظانَ، فابعث جنداً أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك" (2) . فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج فى حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرأ فى كل حال كما جاء فى صفة أمته:"أنا جيلهم صدورهم". وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا فى الكتب، ولا يقرأونه كله إلا نظراً، لا عن ظهر قلب" (3) .
ويقول الشيخ محمد الزرقانى رحمه الله: "قلنا غير مرة إن المعوَّل عليه فى القرآن الكريم إنما هو التلقى والأخذ، ثقة عن ثقة، وإماماً عن إمام إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وإن المصاحف لم تكن ولن تكون هى العمدة فى هذا الباب، إنما هى مرجع جامع للمسلمين، على
(1) ابن الجزرى هو: محمد بن محمد بن على بن يوسف بن الجزرى، أبو الخير، كان إماماً فى القراءات لا نظير له، حافظاً للحديث وغيره أتقن منه، ولى قضاء الشام وشيراز، من مؤلفاته: النشر فى القراءات العشر، وطبقات القراء، وغير ذلك مات سنة 833هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص549 رقم 1183، والدرر الكامنة لابن حجر 3/395، وطبقات المفسرين للداودى 2/64 رقم430، وشذرات الذهب 7/204، والبدر الطالع للشوكانى 2/257.
(2)
مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة، باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار 9/214 رقم 2865.
(3)
النشر فى القراءات العشر 1/6، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 407، ومناهل العرفان للشيخ الزرقانى 1/243.
كتاب ربهم، ولكن فى حدود ما تدل عليه وتعينه، دون ما لا تدل عليه ولا تعينه. وقد عرفت أن المصاحف لم تكن منقوطة، ولا مشكولة، وأن صورة الكلمة فيها كانت لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة، وإذا لم تحتملها كتبت الكلمة بأحد الوجوه فى مصحف، ثم كتبت فى مصحف آخر بوجه آخر وهلم جراً.
…
فلا غرو أن كان التعويل على الرواية والتلقى هو العمدة فى باب القراءة والقرآن (1)
نقول: كل هذا رداً على من يشككون فى تدوين السنة على المحفوظ فى الصدور بحجة أن الحفظ خوان (2) ، وقوة حفظ الحفاظ خرافة (3) ، لأن الحفظ وإن كان خوان وضعيف عندهم وعند أهل العصور المتأخرة فى زماننا فلا يصح هذا القول فى عرب العصور الأولى الذين كان جُّل اعتمادهم فى تواريخهم وأخبارهم وسائر أحوالهم على الحفظ (4) .
وازداد عندهم هذا الأمر بعد دخولهم فى الإسلام، وقيضهم الله عز وجل لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم (5) .
(1) مناهل العرفان للزرقانى 1/411.
(2)
أضواء على السنة ص 268.
(3)
دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10/571، وانظر: بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمن لاسماعيل منصور ص 23، 133.
(4)
انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 403، وضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 126.
(5)
انظر: حجية السنة ص 404، وضوابط الرواية عند المحدثين ص 124، 128، ومبحث نوادر الحفظ وعجائب الحفاظ ص 129.
فكانوا يتذاكرون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى أو مجتمعين مع اليقظة، وشدة التحرى، وبذل الوسع فى إصابة النص الوارد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وحفظه، عملاً بتوجيهه صلى الله عليه وسلم، فى الحث على حفظ السنة وتبليغها فى قوله:"نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"(1) وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس-بعد أن أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع:"احفظوه وأخبروا به من وراءكم"(2)
…
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبى صلى الله عليه وسلم، وربما كنًّا نحواً من ستين إنساناً فيحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم فنتراجعه بيننا، هذا، وهذا، وهذا، فنقوم وكأنما قد زرع فى قلوبنا"(3) .
…
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: "إنى لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء فثلث أنام وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) . كما كان ابن عباس وزيد بن أرقم يتذاكران السنة (5) ، كما تذاكر أبو موسى وعمر بن الخطاب حتى الصبح (6) .
وحفلت مذاكره السنة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره لها.
(1) سبق تخريجه ص 273.
(2)
سبق تخريجه ص 274.
(3)
أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقه 2/263 رقم 950، والإلماع للقاضى عياض ص 142.
(4)
الدارمى فى سننه المقدمة، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه 1/94 رقم 264، والجامع لأخلاق الراوى 2/319، 320.
(5)
مسند أحمد 4/374.
(6)
أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقه 2/267 رقم 954.
.. فعن معاوية بن أبى سفيان قال:
…
وكنت مع النبى صلى الله عليه وسلم يوماً فدخل المسجد فإذا هو بقوم فى المسجد قعود، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما يقعدكم؟ قالوا: صلينا الصلاة المكتوبة ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكره"(1) .
بل كان صلى الله عليه وسلم يستمع لمذاكرتهم، ويوجههم إلى الدقة فى الحفظ وبذل الطاقة فى إدراك النص وحفظه كما جاء فى حديث البراء بن عازب وتعليم النبى صلى الله عليه وسلم له دعاء النوم، فلما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فرددتهن لاستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذى أرسلت قال قل: آمنت بنبيك الذى أرسلت"(2) .
وفى الحث على مذاكرة السنة وحفظها كان الصحابة رضي الله عنهم يحضون، فهذا أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول:"تذاكروا الحديث فإنكم إلا تفعلوا يندرس"(3) .
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب إن الله تعالى إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكره 1/172 رقم 321 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة مواضع منها: كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/426 رقم 247، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 9/38 رقم 2710 واللفظ له.
(3)
أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب فضيلة مذاكرة الحديث 1/173 رقم 324.