الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها
…
زعم أعداء السنة من غلاة الشيعة، والمستشرقين، ودعاة اللادينية: أن تأخر تدوين السنة كان له ضرر كبير على السنة من روايتها بالمعنى، وزعموا بأن رواية الحديث بالمعنى هى القاعدة الأصلية الثابتة المقررة عند علماء الحديث، حيث كان اهتمامهم بالمعنى أكثر من اهتمامهم باللفظ حتى وصلت إلينا الأحاديث وقد انطمست معالم ألفاظها ومعانيها، ولذلك لم يحتجّ النحاة بالأحاديث المروية، ولم يستشهدوا بها فى إثبات اللغة أو قواعد النحو، لأن ألفاظها مرهونة بالتأثر الشخصى للرواة (1) .
…
تلك هى خلاصة شبهة أعداء الإسلام حول رواية الحديث بالمعنى، والتى من خلالها يشككون فى حجية السنة النبوية، ومكانتها التشريعية.
والجواب:
(1) دراسات محمدية لجولدتسيهر ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوةبليبيا العدد10 ص571-573. وانظر: مجلة المنار المجلد 9 ص 911، 913. مقال الدكتور توفيق صدقى "الإسلام هو القرآن، وحدة" وأضواء على السنة ص 20، 21، 76 - 82، 97، 107، 259، والأضواء القرانية للسيد صالح أبو بكر ص 35، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 104، 177، 220، 238، 239، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 58، 61، 162، ونقد الخطاب الدينى للدكتور لنصر أبو زيد ص 119، 126، ونقد الحديث فى علم الرواية وعلم الدراية للدكتور حسين الحاج، 1/315 - 325، وانظر: له أيضاً أدب العرب فى صدر الإسلام ص93، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 75 - 83، ودين السلطان ص 75، وإنذار من السماء 113، ونقد الخطاب الدينى لنصر أبو زيد ص 119، 126، ونحو تطوير التشريع الإسلامى لأحمد نعيم ص 45، ودراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاى ص 290.
.. أولاً وقبل بيان فساد زعم دعاة الفتنة وأدعياء العلم بأن رواية الحديث بالمعنى هى القاعدة الأصلية الثابتة المقررة عند علماء الحديث، وأن اهتمامهم بالمعنى أكثر من اللفظ قبل بيان بطلان هذا الزعم، نحرر أولاً القول فى حكم رواية الحديث بالمعنى عند علماء الأمة من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، حيث سيتضح جلياً كيف قلب أعداء السنة المطهرة الأصل إلى فرع؟ والفرع إلى أصل؟
…
من المعلوم أن للعلماء فى رواية الحديث بالمعنى مذاهب عدة (1)، نستخلص منها مذهبين:
المذهب الأول: أن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز لمن لا يعلم مدلول الألفاظ فى اللسان العربى ومقاصدها وما يحيل معناها والمحتمل من غيره، والمرادف منها، وذلك على وجه الوجوب بلا خلاف بين العلماء، لأن من اتصف بذلك لا يؤمن بتغييره من الخلل، ووجب على من هذا حاله أن يروى الحديث بالألفاظ التى سمع بها مقتصراً عليها بدون تقديم، ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص لحرف فأكثر، ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، ولا مشدَّدٍ بمثقل، أو عكسه (2) ؛ "إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة، وتصرف على غير حقيقة فى أصول الشريعة، وتقوُّلٌ على الله ورسوله بما لم يحط به علماً"(3) .
(1) انظرها فى: إرشاد الفحول 1/234 - 239، وتوجيه النظر ص 298 - 314، وانظر: السنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص 65 - 69 وأصول السرخسى 1/355 - 357، والحديث= =النبوى فى النحو العربى ص 64 وما بعدها. والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى 1/54 - 56 كلاهما للدكتور محمود فجال.
(2)
فتح المغيث للسخاوى 2/207 بتقديم وتأخير، وانظر: تدريب الراوى 2/98.
(3)
الإلماع للقاضى عياض ص 174.
.. أما من كان عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينهما. فاختلف فيه السلف وأصحاب الحديث وأرباب الفقه والأصول، فالمعظم منهم أجاز له الرواية بالمعنى إذا كان قاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذى بلغه سواء فى ذلك الحديث المرفوع، أو غيره (1) .
…
المذهب الثانى: المنع من الرواية بالمعنى مطلقاً، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين عارف بمعانى الألفاظ أو غير عارف، وهو مذهب كثير من السلف، وأهل التحرى فى الحديث، وهو مذهب الإمام مالك، ومعظم المحدثين، وهو مذهب الظاهرية (2) .
(1) خلافاً للإمام مالك حيث رخص فى غير حديث النبى صلى الله عليه وسلمولم يرخص فيه، ومن ذلك قوله:"ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" فلا تعد اللفظ، وما كان من غيره فأصبت المعنى فلا بأس" انظر: الكفاية للخطيب ص 188، 189، وجامع بيان العلم 1/81، وتدريب الراوى 2/99، 101، وفتح المغيث للسخاوى 2/208، وفح المغيث للعراقى 3/48-49، وتوضيح الأفكار 2/392
(2)
انظر: إرشاد الفحول للشوكانى 1/236، 237، وانظر: السنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص65،66.
.. وهنا يظهر لنا جلياً أن الأصل فى رواية الحديث روايته باللفظ للعالم بالألفاظ ومدلولاتها وغيره، والفرع هو الترخص فى الرواية بالمعنى للعالم دون غيره. وهذا هو خلاصة المذهب الأول، وهو المختار عند الجمهور من السلف وأصحاب الحديث والفقه والأصول واختاره منهم الآمدى (1) وقال: ويدل عليه النص والإجماع والأثر، والمعقول.
…
أما النص: فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد فى إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبى صلى الله عليه وسلم وهو دليل الجواز (2) .
…
وأيضاً: فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بتبليغ سنته المطهرة فى حياته وبعد وفاته فى أحاديث كثيرة منها: "ألا ليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه"(3) .
…
هذا فى الوقت الذى كان فيه النهى عن كتابة السنة المطهرة: "لا تكتبوا عنى ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه وحدثوا عنى ولا حرج – الحديث"(4) فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التى بلغت أسماعهم بأعيانها بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير
…
لكتبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل جاءنا عن أحد منهم أنه فعل ذلك من أجل رواية الأحاديث بلفظها بلا تقديم ولا تأخير؟!
(1) الإحكام للآمدى 2/93، وانظر: إرشاد الفحول 1/237، والمستصفى 1/168، 169، والمحصول للرازى 2/231، 233، وتدريب الراوى 2/99، ونزهة النظر ص 44، وفتح= =المغيث للسخاوى 2/208 - 217، والكفاية ص 202، 203، ودفاع عن السنة للدكتور أبوشهبة 32، 55، 63، والسنة للدكتور أحمد كريمة ص 66، واختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان ص 291-298.
(2)
الإحكام للآمدى 2/93، 94.
(3)
سبق تخريجه ص 273.
(4)
سبق تخريجه ص 259.
كيف، وسائر الأخبار تشهد بأنهم كانوا يؤدونها حفظاً وبعضهم كتابة، ويقدمون، ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواية فيما لا يتغير معناه فلا ينكر ذلك منهم، ولا يرون بذلك بأساً" (1) .
…
يقول الأستاذ عبد الرحمن المعلمى: "هذا أمر يقينى لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. من بقى منهم حافظاً للفظ على وجهة أداه كذلك ومن بقى ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للفظ أداة بالمعنى من غير نكير منهم (2) .
…
يقول الدكتور أبو زهو بعد أن أفاد المعنى السابق: فدل ذلك على أن "المقصود منها (أى السنة) المعنى دون اللفظ، ولذلك لم يتعبد بتلاوتها، ولم يقع التحدى بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى"(3) .
ويدل أيضاً على أن المقصود من السنة المعنى دون اللفظ ما قاله الإمام الآمدى: "أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى فى الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة، بل المقصود إنما هو المعنى، ومع حصول المعنى، فلا أثر لاختلاف اللفظ، وهذا أحد وجوه دليل العقل التى استشهد بها الآمدى (4) .
…
وهذا المقصود كان يعيه الصحابة جيداً وحرصوا على تعليمه لمن بعدهم يدل على ذلك ما روى عن أبى نضرة، أنه قال: قلت لأبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: إنك تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً، وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص. قال: أردتم أن تجعلوه قرآناً لا، لا، ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
…
(1) نوادر الأصول للحكيم الترمذى 2/549، 550 بتصرف.
(2)
الأنوار الكاشفة ص 78 بتصرف وتقديم وتأخير.
(3)
الحديث والمحدثون ص 200.
(4)
الإحكام للآمدى 2/94.
(5)
سبق تخريجه ص 265.
فتأمل قول أبى نضرة: (إنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص) 0 ثم قول أبى سعيد (أردتم أن تجعلوه قرآناً لا لا، ولكن خذوا عنا
…
) (1) . فدل ذلك على أن الأصل فى كتاب الله عز وجل اللفظ، لأنه متعبد بتلاوته ومتحدى بأقصر سورة منه، وليست كذلك السنة المطهرة.
وليس هذا هو مفهوم ولا مقصود أبى سعيد الخدرى وحده، بل هو مقصود ومفهوم الصحابة أجمع، ويدل على ذلك روايتهم للقصة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير إنكار من أحد منهم، فكان إجماعاً تصير به الحجة (2) .
…
ويشهد لصحة ذلك أيضاً الرخصة فى قراءة القرآن الكريم على سبعة أحرف (3) ، وهذه الأحرف الستة الزائدة، عبارة عن أنواع من المخالفة فى بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف فى المعنى (4) .
(1) راجع فى ذلك أيضاً ما نقله السيوطى فى التدريب 2/100 عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
(2)
فتح المغيث للسخاوى 2/215 وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 189، والإحكام للآمدى 2/94، والكفاية ص 308.
(3)
استدل بذلك الإمام الشافعى فى الرسالة ص 274 فقرة رقم 752، وانظر: ما قاله تعليقاً ص274 فقرة رقم 753.
(4)
الأنوار الكاشفة ص 76، وقال فى الهامش: (المراد بالاختلاف فى المعنى هو الاختلاف المذكور فى قول الله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" الآية 82 من سورة النساء، فأما أن يدل أحد الحرفين على معنى، والآخر على معنى آخر، وكلا المعنيين معاً حق، فليس باختلاف بهذا المعنى أ. هـ. وإذا كان هذا من رأفة الله عز وجل بعباده مع كتابه، فبالحديث أولى. وقد روى ما هو شبيه بهذا عن يحيى بن سعيد القطان فى الكفاية ص 316، وانظر: الجواب عن الطعون الموجهة إلى حديث القراءات فى الباب الثالث.
.. واحتج حماد بن سلمة بأن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام وعدوه فرعون بألفاظ مختلفة فى معنى واحد، كقوله تعالى:{بِشِهَابٍ قَبَسٍ} (1) وقوله تعالى {بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ} (2) ، وكذلك قصص سائر الأنبياء عليهم السلام فى القرآن، وقولهم لقومهم بألسنتهم المختلفة، وإنما نقل إلينا ذلك بالمعنى (3) ، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمى، ومنه ما يأتى فى موضع بألفاظ، وفى آخر بغيرها
…
ويطول فى موضع، ويختصر فى آخر" (4) . وهذا يشهد لجواز التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ متعددة.
…
ومن أقوى الحج كما قاله الحافظ ابن حجر ما حكاه الخطيب البغدادى من: "اتفاق الأمة من جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى"(5) . وهذا هو أحد وجوه أدلة العقل التى استشهد بها الآمدى فى الإحكام (6) .
…
فإن قيل: إن هذه الأدلة السابقة معارضة لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمراً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"(7) ومعارض لقوله صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب رضي الله عنه لما استذكر دعاء النوم قائلاً: (آمنت برسولك الذى أرسلت، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم، قل: آمنت بنبيك الذى أرسلت" (8) .
(1) جزء من الآية 7 من سورة النمل.
(2)
جزء من الآية 10 من سورة طه.
(3)
فتح المغيث للسخاوى 2/214.
(4)
الأنوار الكاشفة ص 78، ونفس المعنى قاله الدكتور أبو زهو فى الحديث والمحدثون ص 209، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 425.
(5)
فتح المغيث للسخاوى 2/214، وانظر: الكفاية ص 303-305، وتدريب الراوى 2/101.
(6)
الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 2/94.
(7)
سبق تخريجه ص 34.
(8)
سبق تخريجه ص 361.
أجيب عن الحديث الأول: من وجهين:
الوجه الأول: القول بموجبه، وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع. ولهذا، يقال لمن ترجم لغة إلى لغة، ولم يغير المعنى، أدى ما سمع كما سمع. ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ، ما ذكره الخبر من التعليل وهو اختلاف الناس فى الفقه، إذ هو المؤثر فى اختلاف المعنى. وأما الألفاظ التى لا يختلف اجتهاد الناس فى قيام بعضها مقام بعض، فذلك مما يستوى فيه الفقيه، والأفقه، ومن ليس بفقيه، ولا يكون مؤثراً فى تغيير المعنى.
…
الوجه الثانى: أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ، لأن رواة هذا الخبر نفسه قد رووه على المعنى، فقال بعضهم: رحم الله مكان نضر الله ومن سمع بدل (امرأ سمع) وروى "مقالتى" بدل (منا حديثاً)(وبلغه) مكان (أداه) وروى (فرب مبلغ أفقه من مبلِّغ) مكان (فرب مبلغ أوعى من سامع) ، وألفاظ سوى هذه متغايرة تضمنها هذا الخبر. فالظاهر يدل على أن هذا الخبر نقل على المعنى، فلذلك اختلفت ألفاظه، وإن كان معناها واحداً. فالحديث حجة لنا لا علينا (1) .
(1) الإحكام للآمدى 2/95، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 2/215، والكفاية للخطيب ص 305
أما الحديث الثانى "لا ونبيك"؛ ففى الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون المنع؛ لكونها ألفاظ أذكار توفيقية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللفظ الذى وردت به" (1) . أو لعله أراد أن يجمع بين الوصفين فى موضع واحد، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم نبى مرسل، فهو إذن أكمل فائدة، وذلك يفوت بقوله: (وبرسولك الذى أرسلت) وأيضاً فالبلاغة مقتضية لذلك لعدم تكرار اللفظ لوصف واحد فيه، زاد بعضهم أو لاختلاف المعنى، لأن برسولك يدخل جبريل وغيره من الملائكة الذين ليسوا بأنبياء"(2) .
قلت لا تعارض بين الحديثين المعترض بهما على ما سبق ذكره من الأدلة، فهى كلها تشهد برأى الجمهور المختار وهو أن الأصل رواية الحديث باللفظ على فرض التسليم بما اعترض به من حديث:"نضر الله إمراً" وحديث "لا ونبيك".
والفرع هو الترخص فى الرواية بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها دون غيرها، ويشهد لذلك ما سبق ذكره من أدلة، وحينئذ فلا تعارض.
(1) فتح المغيث للسخاوى 2/215.
(2)
المصدر السابق 2/266 وانظر: الكفاية ص 306.
.. وحتى مع التسليم بأن الأصل هو الرواية بالمعنى، فلسنا نرى أن الرواية بالمعنى تفضى إلى النتائج الخطيرة التى يزعمها دعاة الإلحاد؛ لأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كانت تختلف ألفاظه بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، ففى كل ذلك تختلف ألفاظه صلى الله عليه وسلم، إيجازاً، واطناباً، وتقديماً، وتأخيراً، وزيادة، ونقصاناً، بحسب ما تقتضيه الحال ويدعوا إليه المقام (1) .
فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلاً؛ فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه،
…
فيظن من لا علم له أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، أو من آثار الرواية بالمعنى، وواقع الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان طبيب النفوس، فيجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس فى جميع الظروف أو فى الظرف الذى كان فيه الاستفتاء" (2) أ. هـ.
(1) وهذا من أساليب القرآن الكريم انظر: إلى قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" الآيتان 6،7 من سورة البقرة وقوله تعالى:"أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" الآية 23 من سورة الجاثية. فقارن التقديم والتأخير فى الختم على القلب والسمع فى الآيتين البقرة والجاثية.
(2)
الحديث والمحدثون ص 207، 208، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 55.
.. ويرجع اختلاف الأحاديث أيضاً إلى أنها ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبى صلى الله عليه وسلم وهى كثيرة، ومنها ما أصله قولى، ولكن الصحابى لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبى صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا
…
وأشباه هذا وهذا كثير أيضاً. وهذان الضربان ليسا محل نزاع. ولا دخل للرواية بالمعنى فيهما، والكلام فى ما يقول الصحابى فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، أو نحو ذلك، ومن تتبع هذا فى الأحاديث التى يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو فى بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها، فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها (1) .
(1) انظر: الأنوار الكاشفة للأستاذ عبد الرحمن المعلمى ص 79.
ومنهم من يشدد ويصحح ما يسمعه من الرواة من تغيير اللفظ النبوى بالتقديم والتأخير، أو استبدال كلمة بمرادفها، كابن عمر رضي الله عنه فعن عُبَيْد بن عمير (1) ؛ أن ابن عمر كان جالساً مع أبيه وعندهم مغيرة بن حكيم – رجل من أهل صنعاء – إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين (2) من الغنم"، فقال عبد الله بن عمر: ليس هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لو علمت علمه، علمت أنه لم يقل إلا حقاً ولم يتعمد الكذب، فقال: إنه لثقة، ولكنى شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال، هذا فقال كيف يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق مثل الشاة بين الغنمين". فقال عُبَيْد بن عُمَير هى واحدة إذا لم يجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً، فلا يضرك أن قدمت شيئاً أو أخرته؛ فهو واحد" (3) .
(1) عُبَيْد بن عُمَير هو: ابن قتادة الليثى أبو عاصم المكى، ولد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم قاله مسلم، وعده غيره فى كبار التابعين، وكان قاضى أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/645 رقم 4401، وتذكرة الحفاظ 1/50 رقم 28، وطبقات الحفاظ ص22 رقم 28، وخلاصة تذهيب الكمال ص 21، وطبقات القراء لابن الجزرى 1/496.
(2)
الربيض: الغنم نفسها، والربض: موضعها الذى تربض فيه، أراد أنه مذبذب كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مربضيهما. انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/185.
(3)
أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من رخص فى الحديث إذا أصاب المعنى 1/105 رقم318، والخطيب فى الكفاية ص 268، 269 واللفظ له، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 417.
.. وسمع ابن عمر أيضاً رجلاً يردد حديث الأركان الخمسة، فقدم بعضها وآخر بعضاً مخالفاً بذلك الرواية التى سمعها ابن عمر بنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن عمر –رضى الله عنهما-:"اجعل صيام رمضان أخرهن، كما سمعت من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1) .
…
وروى الخطيب بسنده عن العلاء بن سعد بن مسعود قال: قيل لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: ما بى ألا أكون سمعت مثل ما سمعوا، أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفينى، وأكره التزيد والنقصان فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) .
…
وفى عصر التابعين، وأتباع التابعين ظل كثير من الرواة يؤدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ونصه، حتى فى الحروف وفى ذلك يقول الأعمش:"كان العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً"(3) .
…
وكان مالك رحمه الله يتقى فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما (4) . وممن اعتمد ذلك الإمام مسلم رحمه الله فإنه فى صحيحه يميز اختلاف الرواة حتى فى حرف من المتن، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان فى بعضه اختلاف فى المعنى، ولكنه خفىٌ لا يفطن له، إلا من هو فى العلم بمكان، وكذا سلكه الإمامان البخارى، وأبو داود، وسبقهما لذلك شيخهما الإمام أحمد (5) .
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم 1/64 رقم 8، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام1/209رقم16 وانظر: الكفاية ص 271.
(2)
الكفاية ص 266.
(3)
المصدر السابق ص 274.
(4)
انظر: الكفاية ص 275، وانظر: تدريب الراوى 2/101، والإلماع ص 179.
(5)
فتح المغيث للسخاوى 2/211.
.. ومن أمثلة ذلك: ما روى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأسلم وغفار، وشئ من مزينة وجهينة، أو شئ من جهينة ومزينة، خير عند الله، قال: أحسبه قال يوم القيامة، من أسد، وغطفان، وهوازن وتميم"(1) وهناك من اشتد حرصه على لفظ سماعه فأبى تبديل حرف مشدد بمخفف، فعن أم كلثوم بنت عقبة (2) - رضى الله عنها - قالت: "ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً. قال حماد سمعت هذا الحديث من رجلين فقال أحدهما: نمى خيراً خفيفة، وقال الآخر: نمى خيراً مثقلة (3) .
…
وأشد من كل هذا تحرج بعضهم من تغيير اللحن الوارد فى كلام الراوى صحابياً كان أو تابعياً، لأنه سمعه هكذا، فلا ضير من استعمال (حوث) بدلاً من "حيث"(4) ، أو "لغيت" بدلاً من "لغوت"(5) ، و "عوثاء السفر"، بدلاً من "وعثائه"(6) ؛ ولذلك رووا عن محمد بن سيرين؛ أنه "كان يلحن كما يلحن الراوى"(7) .
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينه وجهينة وأشجع 6/627 رقم 3523، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة 8/314 رقم 2521 واللفظ له.
(2)
أم كلثوم بنت عقبة: صحابية جليلة لها ترجمة فى: الإصابة 4/491 رقم 12238، وتاريخ الصحابة لابن حبان ص 274 رقم 1546، والاستيعاب 4/1953 رقم 4203، واسد الغابة 7/376 رقم 7585.
(3)
أخرجه الخطيب فى الكفاية ص278، وابن عبد البر فى ترجمة أم كلثوم –رضى الله عنها- فى الاستيعاب 4/1953 رقم 4203.
(4)
انظر: الكفاية ص 280.
(5)
المصدر السابق ص 281.
(6)
المصدر نفسه ص 277.
(7)
الكفاية ص 285، وانظر: أثر عن أبى معمر فى سنن الدارمى المقدمة، باب من رخص فى الحديث إذا أصاب المعنى 1/106 رقم 320.
.. ثم رأى العلماء أن يميزوا فى هذا الموضوع بين لحن يحيل المعنى، وآخر لا يحيله، فرأوا أنه لابد من تغيير اللحن الذى يفسد المعنى، وقالوا بضرورة رد الحديث إلى الصواب إذا كان راويه قد خالف موجب الإعراب" (1) .
…
وبكل ذلك يسقط قول دعاة الفتنة وأدعياء العلم: "أن الرواية بالمعنى هى القاعدة الثابتة فى رواية الحديث (2) ، وأن الرواة تناقلوا الحديث بألفاظهم فى جميع العصور (3) .
(1) فتح المغيث للسخاوى 2/230، وللعراقى 3/55، والكفاية ص 297، والإلماع ص 185، وانظر: علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 83.
(2)
ممن صرح بذلك إسماعيل منصور فى كتابة تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 238، 239، وأيده جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد" ص 58، 61، 162، وانظر: السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى، فصل "الرواية بالمعنى مرتبطة بعصر التدوين" 1/48، والحديث النبوى فى النحو العربى ص 64-83.
(3)
الحديث والمحدثون ص 203.
"ومن أجل ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون: "إن الرواية بالمعنى لم يكن لها أثر فى ثبوت السنة وحجيتها ولم تفض إلى النتائج الخطيرة التى يزعمها دعاة الإلحاد، لأنها كانت قبل فساد اللسان العربى، من صحابة عايشوا الوحى، وتنزلاته، وخالطوا صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة كبار فى اللغة والشرع معاً، وكانوا يرونها رخصة عند الاضطرار (1) ، وكان نسيانهم قليلاً، بل نادراً، فإن كان ففى بعض حروف العطف، أو المفردات، أو بعض الجمل" (2) .
…
وكانوا يقيدون ذلك ببعض العبارات الدالة على الحيطة والورع فى روايتهم بالمعنى كقولهم: "أو كما قال"، "أو كما ورد""أو نحوه""أو شبهه"(3) .
(1) ولم يرخصوا بها فيما تضمنته بطون الكتب، لأن من ملك تغيير اللفظ، فلا يملك تغيير تصنيف غيره، وهذا بلا خلاف كما قال ابن الصلاح فى علوم الحديث 189 وانظر: الباعث الحثيث ص120، 121 هامش.
(2)
الحديث والمحدثون 207 بتصرف.
(3)
روى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة، باب التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/24 رقم 23. وقال البوصيرى فى مصباح الزجاجة 1/48 إسناده صحيح، احتج الشيخان بجميع رواته، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/193 رقم 376، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبى، وأخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط 1/97 رقم 281، وابن المبارك فى مسنده 140 رقمى2270، 228، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 1/79، والخطيب فى الكفاية ص 310، والقاضى عياض فى الإلماع ص 177.