الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبطله أن المختلفين فى الخبر المذكور الذى أوردناه آنفاً كل منهما قرأ سورة الفرقان بحرفين مختلفين، كانا جميعاً بنى عم قرشيين، من قريش البطاح، من قبيلة واحدة، جاران ساكنان فى مدينة واحدة، وهى مكة، لغتهما واحدة، وهما عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قريط بن رزاح بن عدى بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب، ويجتمعان جميعاً فى كعب بن لؤى، بين كل واحد منهما، وبين كعب بن لؤى، ثمانية آباء فقط.
فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف، إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب. وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ" (1) أ. هـ.
المبحث الثانى: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف
…
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها.
وليس المراد أن كل كلمة أو جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات فى الكلمة الواحدة إلى سبعة.
فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على سبعة أوجه.
فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف فى كيفية الأداء كما فى المد والإمالة ونحوهما (2) .
…
قال الشيخ الزرقانى رحمه الله: "وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه: إذاً لقال صلى الله عليه وسلم "إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف" بحذف لفظ "على".
(1) الإحكام لابن حزم 5/571، 572.
(2)
فتح البارى 8/640 رقم 4991.
بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدد والتنوع فى أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات، وطرقها فى الكلمة الواحدة. فكلمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) التى ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة، وكلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (2) التى ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة، وكلمة {أُفٍّ} من قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (3) والتى أوصل الرمانى لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة. وكل أولئك وأشباه أولئك، لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة (4) .
…
وعلى هذا فالمراد بالأحرف فى الأحاديث السابقة وجوه فى الألفاظ وحدها لا محالة، بدليل أن الخلاف الذى صورته لنا الروايات المذكورة كان دائراً حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعانى، مثل قول عمر:"إذ هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حكم الرسول أن يقرأ كل منهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" وقوله: "أى ذلك قرأتم فقد أصبتم" ونحو ذلك، ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ، لا شرح المعانى (5) .
(1) الآية 4 من سورة الفاتحة.
(2)
جزء من الآية 60 من سورة المائدة.
(3)
جزء من الآية 23 من سورة الإسراء.
(4)
مناهل العرفان 1/156.
(5)
المصدر السابق 1/154 وانظر المراد بالوجوه السبعة التى لا تخرج عنها القراءات فى المصدر السابق 1/156، وفتح البارى 8/640.
.. إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون فيما يقرأون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه ويتلقون منه كل حرف يقرأون عليه، انظر قوله صلى الله عليه وسلم فى قراءة كل من المختلفين "هكذا أنزلت" وقول المخالف لصاحبه: "أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفة أو غير مرادفة، لبطلت قرآنية القرآن، وأنه كلام الله، ولذهب الإعجاز، ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
وهذا ما يهدف إليه دعاة اللادينية فى قولهم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى أنه أنزل على سبع لغات مختلفة فى لفظها ومادتها. يفسر ذلك القول ابن مسعود: "إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل"(2) .
ويجاب عن ذلك فضلاً عما سبق أن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) .
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
فى الأدب الجاهلى ص 95.
(3)
الآيتان 15، 16 من سورة يونس.
.. أما ما جاء فى حديث أبى الدرداء، وقراءته على قراءة ابن مسعود مرفوعاً:"والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى"(1) .
فأجاب عن ذلك الإمام المازرى (2) فقال: "يجب أن يعتقد فى هذا الخبر وما فى معناه أن ذلك كان قرآناً ثم نسخ، ولم يعلم من خالف النسخ فبقى على النسخ، ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان المجمع عليه، المحذوف منه كل منسوخ، وأما بعد ظهور مصحف عثمان فلا يظن بأحد منهم أنه خالف فيه (3) .
قال ابن حزم مؤيداً ذلك: "لأن قراءة عاصم المشهورة" المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبى الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعاً {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (4) فهى زيادة لا يجوز تركها" (5) أ. هـ.
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يتعلق بالقراءات 3/370 رقم 824.
(2)
المازرى هو: الإمام العلامة محمد بن على بن عمر التميمى المازرى، أبو عبد الله، من فقهاء المالكية، كان محدثاً، فقهياً، أصولياً، أديباً، وله دراية بالطب، من مصنفاته المعلم بفوائد شرح مسلم، وإيضاح المحصول من برهان الأصول.وغير ذلك توفى عام536هـ. له ترجمة فى: الديباج المذهب ص374 رقم 508، وسير أعلام النبلاء 12/169، ووفيات الأعيان 1/486، وشذرات الذهب 4/114، والوافى بالوفيات 4/151، وشجرة النور الزكية 1/127 رقم 371.
(3)
المنهاج شرح مسلم للنووى 3/371.
(4)
الآية 3 من سورة الليل.
(5)
الإحكام لابن حزم 5/573.
وأما ابن مسعود رضي الله عنه فرويت عنه روايات كثيرة منها ما ليس بثابت عند أهل النقل، وما ثبت منها مخالفاً لما قلناه، فهو محمول على أنه كان يكتب فى مصحفه بعض الأحكام والتفاسير مما يعتقد أنه ليس من القرآن، وكان لا يعتقد تحريم ذلك، وكان يراه، كصحيفة يثبت فيها ما يشاء، وكان رأى عثمان والجماعة، منع ذلك لئلا يتطاول الزمان ويظن ذلك قرآناً.
قال المازرى: فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية، وهى أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير فى أثناء الصحف؟ قال: ويحتمل ما روى من إسقاط المعوذتين من مصحف ابن مسعود أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن، وكتب ما سواهما وتركهما لشهرتهما عنده وعند الناس" (1) أ. هـ.
…
يقول ابن حزم: "ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم مالك بن أنس أنه قال: اقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} (2) فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود طعام الفاجر. قال ابن وهب قلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟ قال نعم أرى ذلك واسعاً، فقيل لمالك: أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله؟ قال مالك: ذلك جائز
…
إلخ.
(1) المنهاج شرح مسلم 3/371 وانظر: الإتقان1/213، 214، وتأويل مشكل القرآن ص47-49، وبحوث فى القرآن والسنة للأستاذ عبد الله كنون ص 94 –96.
(2)
الآيتان 43، 44 من سورة الدخان.
.. قال ابن حزم: "فكيف يقولون مثل هذا؟ أيجيزون القراءة هكذا! فلعمرى لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة فى القرآن، أو يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم فى أعظم الأشياء، وهذا إسناد عنه فى غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصداً إلى الخير، ولو أن امرأً ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه فى ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافراً، ونعوذ بالله من الضلال (1) أ. هـ.
…
وهاك برهانٌ آخر ذكره صاحب التبيان فى آداب حملة القرآن–على فساد مزاعم أعداء الإسلام من المستشرقين وأذيالهم من جواز "قراءة القرآن بالمعنى".
يقول الإمام النووى: "إن النبى صلى الله عليه وسلم علم البراء بن عازب دعاء فيه هذه الكلمة "ونبيك الذى أرسلت" فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ورسولك الذى أرسلت" فلم يوافقه النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل قال له: "لا. ونبيك الذى أرسلت" (2) . وهكذا نهاه عليه الصلاة والسلام أن يضع لفظة "رسول"، موضع لفظة "نبى" مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو صلى الله عليه وسلم رسولٌ ونبى معاً.
ثم قال: فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا: إنه صلى الله عليه وسلم كان يجيز أن يوضع فى القرآن الكريم مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم. وهو يمنع من ذلك فى دعاء ليس قرآناً، والله يقول مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (3) ، ولا تبديل أكثر من وضع كلمة، مكان أخرى" (4) أ. هـ.
(1) الإحكام لابن حزم 5/574.
(2)
سبق تخريجه ص 361.
(3)
الآية 15 من سورة يونس.
(4)
انظر: مناهل العرفان 1/191.