الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: منكروا حجية خبر الواحد قديماً وحديثاً
استعراض شبههم والرد عليها
تمهيد:
…
إذا كان علماء الأمة من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، اصطلحوا على تقسيم السنة باعتبار عدد الرواة فى كل طبقة إلى متواتر وآحاد، أو إلى متواتر ومشهور وآحاد كما قسم الأحناف، فإن هذه التقسيمات لم تكن فى عصر الصحابة أو التابعين، وإنما دعت الحاجة إلى هذا التقسيم بعد شيوع الفتن وبدء تمحيص السنة وتحديد مراتبها، وكان لهذا التقسيم آثاره بين جمهور الفقهاء فى تخصيصهم لعموم الكتاب، وتقييدهم لمطلقه، وتوضيحهم لمشكله بخبر الآحاد، خلافاً للأحناف الذين اشترطوا فى أنواع البيان السابقة، أن يكون الخبر فيها مشهوراً، على ما سبق تفصيله عند التعريف بالآحاد.
…
وأهم أثر لتقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو فى أمر من رد الحديث، فمن أخذ باصطلاح المتواتر والآحاد - وهم أغلبية الفقهاء - لا يقولون بكفر من رد الأحاديث؛ لأنها ظنية الثبوت بينما يرون كفر من رد الأحاديث المتواترة.
…
ومن قال: "إن التواتر والآحاد قطعى الثبوت يقولون بكفر من رد شيئاً من الأحاديث سواء كانت بطريق التواتر أو الآحاد"(1) .
…
وقبل أن يصطلح علماء الأمة على التقسيم السابق، كان جميع أهل الإسلام على قبول خبر الواحد الثقة عن النبى صلى الله عليه وسلم، يجرى على ذلك كل فرقة فى علمها، كأهل السنة، والخوارج والشيعة، والقدرية (2) ، حتى بدأت فتنة التشكيك فى خبر الآحاد على أيدى متكلمى المعتزلة بعد القرن الثانى الهجرى، فعرفوا خبر الآحاد بأنه: ما لا يعلم كونه صدقاً ولا كذباً (3)
(1) السنة المفترى عليها للمستشار سالم البهنساوى ص 139، 140، وانظر: البحر المحيط 4/266، ودراسات أصولية فى السنة ص 181.
(2)
ورغم هذه الحقيقة يضلل أحمد حجازى، القارئ فى كتابه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى "بزعمه أن الصدر الأول للإسلام، وفيه كان الخوارج والشيعة
…
ولم تكن فيه سنة بأخبار آحاد!! " انظر: دفع الشبهات ص 64.
(3)
شرح الأصول الخمسة ص 769.
واشترطوا العدد فى الرواية كما فى الشهادة، فخالفوا الإجماع فى ذلك.
"وكان قصدهم من ذلك رد الأخبار وتعطيل الأحكام، وتلقف ما قالوه بعضُ الفقهاء الذين لم يكن لهم فى العلم قدمٌ ثابتة، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول" وبذلك صرح ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة (1) .
…
ويدل على كل ما سبق ما قاله ابن حزم فى الإحكام، قال: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبى صلى الله عليه وسلم، ويجرى على ذلك كل فرقة فى علمها، كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية، حتى حدَّث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع فى ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد (ت سنة 144هـ) يتدين بما يروى عن الحسن ويفتى به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم (2) .
…
ويقول الحافظ أبو بكر الحازمى: "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخرى المعتزلة، فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا فى الرواية ما اعتبروا فى الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الإحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان"(3) .
(1) مختصر الصواعق المرسلة 1/558، وما قاله ابن قيم الجوزية قاله شيخه ابن تيمية فى كتابه الفتاوى بمعناه قال:"كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا الذى ذكره المصنفون فى أصول الفقه من أصحاب أبى حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، إلا فرقه قليلة من المتأخرين، اتبعوا فى ذلك طائفة من أهل الكلام"، انظر: مجموع الفتاوى13/351،وانظر: السنة المفترى عليها ص 166.
(2)
الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/110، وحكاه الشاطبى عنهم فى الاعتصام 1/187.
(3)
شروط الأئمة الخمسة ص 47. وراجع موقف المعتزلة من السنة ص 114-117.
.. وطعن أيضاً فى خبر الواحد طوائف من الشيعة فذهبوا إلى أن خبر الواحد لا يكون حجة أصلاً فى الدين، فلا يوجب العلم ولا العمل، وينسب هذا الرأى إلى الشريف المرتضى (ت 436هـ) من الشيعة، فهو يقول: "لابد فى الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم
…
ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد، لأنها لا توجب علماً ولا عملاً، وأوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم، لأن راوى خبر الواحد إذا كان عدلاً فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذباً (1) .
(1) أصول الفقه للمظفر 1/70، نقلاً عن توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 90، وحكاه الرازى أيضاً عن المرتضى اختصاراً فى المحصول 2/188.
وحكى هذا الرأى أيضاً الإمام الغزالى فى المستصفى عن جماهير القدرية، ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاسانى حيث ذهبوا إلى تحريم العمل بخبر الواحد سمعاً (1) ، وحكاه أيضاً الآمدى (2) ، عن القاسانى (3) والرافضة وابن داود (4) .
وبالجملة من مآخذ أهل البدع بالاستدلال نفى أخبار الآحاد جملة. والاقتصار على ما استحسنته عقولهم فى فهم القرآن (5) .
…
وتابع هذه الفرق الضالة فى الطعن فى حجية خبر الآحاد من على شاكلتهم من أهل الزيغ والهوى فى عصرنا.
(1) المستصفى من علم الأصول 1/148.
(2)
الإحكام فى أصول الأحكام 1/48. وانظر البرهان فى أصول الفقه للجوينى 1/228، والتقرير والتحبير 2/272-275.
(3)
القاسانى هو: أبو بكر محمد بن إسحاق القاسانى: نسبة إلى "قاسان" بلدة قريبة من "أصبهان" غالب أهلها من الروافض، وعامة العلماء يقولون "القاشانى" بالشين بالمعجمة، والصواب ما أثبتناه كما ضبطه ابن حجر فى "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" وكان القاسانى أحد أعلام أهل الظاهر، تتلمذ علىداود الظاهرى، وخالفه فى كثير من المسائل الأصولية من مؤلفاته "كتاب الرد على الداود الظاهرى فى إبطال القياس" توفى بعد الثلاثمائة للهجرة. له ترجمة فى: طبقات الفقهاء للشيرازى ص 176، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه 3/1147، والفهرست ص 357.
(4)
ابن داود هو: محمد بن داود على بن خلف الظاهرى، كان فقيهاً، أديباً. مناظراً، شاعراً. له تصانيف كثيرة منها "الوصول إلى معرفة الأصول" واختلاف مسائل الصحابة و "الإنذار" و"الإعذار"توفى سنة 297هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد 5/256 رقم 2750، والنجوم الزاهرة 3/171،وطبقات الفقهاء للشيرازى ص175،وشذرات الذهب2/226،والفهرست ص364.
(5)
الاعتصام للشاطبى 1/187، وحكى ذلك أيضاً عنهم ابن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث ص 84 وما بعدها.