الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الأستاذ محمد أسد: "إذا كان مئات الصحابة قد حفظوا جميع القرآن الكريم غيباً بلفظه، وبما فيه من فروق ضئيلة فى الرسم (التهجئة) فلا ريب فى أنه كان ممكناً لهم، وللتابعين من بعدهم أن يحفظوا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم متفرقة كما حفظوا القرآن سواء بسواء، ولكن من غير أن يزيدوا على الأحاديث أو أن ينقصوا منها شيئاً. إن المحدثين يرون أن الحديث الصحيح ما رُوى واحداً فى معناه ولكن بأسانيد مختلفة مستقلة"(1) .
الاحتجاج بالسنة والاستشهاد بها فى قواعد النحو واللغة:
…
عرفنا فيما سبق أن الأصل فى رواية الحديث روايته بلفظه، وذلك منذ عصر النبوة المباركة، والصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى عصر التدوين الرسمى للسنة. والفرع هو الترخص فى روايته بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، كما عرفنا كيف كانوا يتشددون فى الرواية باللفظ والاعتراض على من يقدم ويؤخر فى اللفظ النبوى، أو يستبدل كلمة بمرادفها، بل كان سقوط أحدهم من السماء أحب إليه من أن يزيد فى الحديث واواً أو ألفاً أو دالاً، وبلغ من شدة المحافظة على اللفظ النبوى أن بعضهم يأبى تبديل حرف مشددَّ بمخفف أو العكس، بل ويأبى بعضهم تغيير اللحن الوارد فى كلام شيخه ما دام سمعه منه، حتى إذا شك الراوى فى لفظين أوردهما جميعاً متشككاً كما جاء فى الحديث:"وهل يكُبُّ النَّاسَ فى النَّارِ على وُجُوهِهِمْ أَوْ على مَنَاخِرِهِمْ إلا حَصَائِدُ أَلْسَنِتْهم"(2) .
وهكذا حافظ رواة السنة على لفظ النبى صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت إلينا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم سالمة من كل تحريف وتبديل.
(1) الإسلام على مفترق الطرق ص 96.
(2)
أخرجه الترمذى فى سنته كتاب الإيمان، باب ما جاء فى حرمة الصلاة 5/13 رقم 2616، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
.. نعم: وصلت إلينا السنة المطهرة بلفظ النبى صلى الله عليه وسلم، بلفظ أبلغ ما عرف فى لغة العرب، وعرف الدارسون من البيان البشرى، وفى ذلك يصف أبو حيان بلاغة السنة قائلاً:"والثانى: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها السبيل الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب والأمر المقصود، والغاية فى البيان والنهاية فى البرهان، والمفزع عند الخصام، والقدرة لجميع الأنام"(1) .
…
من أجل ذلك؛ فإن الاحتجاج بالحديث فى اللغة، والنحو أمر طبيعى، وما زعمه المانعون من عدم الاحتجاج به؛ لأنه روى بالمعنى، ولا نستطيع الجزم بأنه لفظ النبى صلى الله عليه وسلم (2) فهذا الزعم يسقط بما سبق ذكره، وتفصيله من أن الأصل فى رواية الحديث أن تكون باللفظ، والفرع هو الترخص فى روايتها بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، ولفظه فى هذه الحالة أيضاً حجة، ولِمَ لا، وعلماء اللغة عندما جمعوا اللغة العربية النقية البعيدة عن الخطأ واللحن كانوا يذهبون إلى البوادى ليستمعوا إلى اللغة من فصحاء العرب، ومن بلغاء البادية مختارين القبائل التى اشتهرت بفصحاتها، مثل قريش، وتميم، وهذيل وأسد وغيرهم.
(1) البصائر والذخائر 1/8، وانظر: ما قاله الجاحظ فى البيان والتبيين 2/17، 18، وانظر: بلاغة الرسول للدكتور على محمد العمارى، والحديث النبوى للدكتور محمد الصباغ ص 51.
(2)
انظر: الاقتراح فى علم أصول النحو للسيوطى ص 19، وقارن بكشف الظنون ص405-407، والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى للدكتور محمود فجال 1/20-24.
.. وكانوا يتحرون فى اختيار الفصحاء، فلم يأخذوا إلا من الذى وثقوا فى فصاحته، ولم يشكوا فى مخالطته لغير العرب، وقد حدد العلماء بعض العصور التى أخذوا عنها اللغة؛ كالعصر الجاهلى، وصدر الإسلام، وبنى أمية، حتى القرن الثانى الهجرى، ولم يلتفتوا إلىما جاء بعد ذلك عن العرب من شعر ونثر، باعتبار أنه لا يحتج به (1) . وكل هذا ينطبق على رواة السنة والأحاديث المروية، لأن الرواية بالمعنى كانت فى القرن الأول قبل فساد اللسان العربى وعلى قلة وفى حدود ضيقة، هذا فى الوقت الذى كانت فيه كتابات عديدة للصحابة فى زمن النبوة وبعده، وكذلك كتابات التابعين فمن بعدهم حتى زمن التدوين الرسمى للسنة فى القرن الأول نفسه، مما يرجح أن الذى فى مدونات الطبقة الأولى لفظ النبى صلى الله عليه وسلم نفسه، فإن كان هناك إبدال لفظ بمرادفه فالذى أبدله عربى فصيح يحتج بكلامه العادى، حتى إذا دونت السنة المطهرة منع من الرواية بالمعنى وتغيير الفظ المدون بلا خلاف كما قال ابن الصلاح (2) .
…
ويقول الدكتور محمد الصباغ: "ومهما يكن من أمر الحديث فإنه أحسن حالاً بكثير من الأشعار والأبيات التى يلجأ إليها النحويون ويملؤون بها كتبهم، وبعضها منحول، والآخر مشكوك فيه، أو مجهول لا يعرف قائله (3) .
(1) دراسات فى تراث العرب اللغوى للأستاذ فتحى جمعة ص 14-16، وانظر: مجلة الوعى الإسلامى العدد 375 لسنة 1417 ص72.
(2)
علوم الحديث لابن الصلاح ص 136، وانظر: الحديث والمحدثون ص 218، 220، والحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 131، وعلوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص329، 330، والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى للدكتور محمود فجال 1/62 - 64.
(3)
الحديث النبوى للدكتور الصباغ 132.
.. ويقول الأستاذ سعيد الأفغانى: "إن ما فى روايات الحديث من ضبط ودقة وتحر لا يتحلى ببعضه كل ما يحتج به النحاة، واللغويون من كلام العرب (1) . ثم إن المطلوب فى نقل قواعد اللغة والنحو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غلبة الظن، والغالب على الظن أن الحديث لم يتغير لفظه (2) .
(1) أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغانى ص47 وانظر: علوم الحديث للدكتور الصباغ ص331،332
(2)
انظر: الاستشهاد والاحتجاج باللغة للأستاذ محمد عيد ص 109 - 112، والحديث والمحدثون للدكتور أبو زهو ص219، والحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص107،108.
أما ما زعموه من وقوع اللحن فى بعض الأحاديث بسبب عجمة بعض الرواة (1) ؛ فهو شئ –إن وقع- قليلٌ جداً، لا ينبنى عليه حكم، ولا يقوم بهذا الزعم حجة لأحد ولا يصح أن يمنع من أجله الاحتجاج بالحديث الصحيح (2) ، وهل يمنع عاقل الاحتجاج بالقرآن إذا لحن به بعض الناس؟!! 0 ثم إن اللحن كان موجوداً فى غير نصوص السنة من موارد اللغة التى اعتمد عليها النحاة من شعر ونثر، ورغم ذلك فقد قبلت؛ لأن العبرة بغلبة العصر لا بلحن الأفراد. ولم يقل أحد أنه لا يحتج بهما فى اللغة والنحو (3) . ثم إن ما ذكره هؤلاء من اللحن فى الأحاديث الصحيحة لم يكن لحناً وإنما هو لغة من لغات العرب - وسيأتى بعد قليل أمثلة على ذلك - وقد حذر العلماء من اللحن فى الحديث أشد التحذير، وعد بعضهم الحديث الملحون كذباً على النبى صلى الله عليه وسلم: قال الأصمعى (4)
(1) انظر: الاقتراح ص 21.
(2)
الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 132، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 122.
(3)
الاستشهاد والاحتجاج باللغة ص110 - 114 بتصرف، وانظر: السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث للدكتور فجال 1/102.
(4)
الأَصْمَعِىُّ: بفتح الألف، وسكون الصاد المهملة، وفتح الميم، وبالعين المهملة فى آخره. هذه النسبة إلى الجد، وهو الإمام المشهور أبو سعيد عبد الملك بن قُرَيْب بن أعصر الباهلى الأَصْمَعِىُّ، من أهل البصرة، أحد أئمة اللغة والنحو والغريب والأخبار، والملاحم والنوادر، أثنى عليه فى السنة، أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وقال ابن حجر فى التقريب: صدوق سنى. من مؤلفاته: اللغات، والنوادر، والنسب، وغريب الحديث، وغير ذلك، مات سنة 217هـ، وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: اللباب فى تهذيب الأنساب لابن الأثير 1/70، والفهرست لابن النديم ص 86، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير1/144 رقم 38، وتقريب التهذيب 1/618 رقم 4219، وتهذيب الأسماء واللغات للنووى 2/273، ونزهة الألباب فى طبقات الأدباء لابن الأنبارى ص112،وإنباه الرواه على أنباه النحاة للقفطى2/197،ولسان الميزان9/492 رقم 15492.
: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل فى جملة قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) . لأنه لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه (2) فقد كذبت عليه (3) .
أما ما زعموه من أن أحداً من أئمة النحو المتقدمين لم يحتج فى كتبه بالحديث (4) . فذلك إن صح كما يقول الدكتور محمود فجال: فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، فـ (سيبويه) مثلاً إذا ذهبنا نقرأ كتابة المسمى بـ (الكتاب) فلن نجد فيه كلاماً رفعه للنبى صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، وفى (الكتاب) نصوص كثيرة توافق الأحاديث النبوية
…
ولكن (سيبويه) لم يستشهد بها على أنها أحاديث من النبى صلى الله عليه وسلم بل على أنها من كلام العرب.
(1) سبق تخريجه ص 275.
(2)
المراد باللحن هنا: مخالفة صواب الإعراب، ويطلق أيضاً على النطق بكلمة على وجه لا يثبت عند العرب، وإن لم يكن خطأ فى الإعراب، واستعمله فى ذلك الفقهاء وأهل اللغة؛ كالنووى، والحريرى. أفاده فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه الله على هامش تحقيقه لتدريب الراوى 2/106.
(3)
رواه ابن الصلاح فى علوم الحديث ص110-114،والقاضى عياض فى الإلماع ص 183-184، وذكره العراقى فى فتح المغيث 3/53، والسخاوى فى فتح المغيث 2/224، والسيوطى فى التدريب 2/106، والصنعانى فى توضيح الأفكار 2/393 - 394 وقال عقبة:"قلت وإنما قال الأصمعى "أخاف" ولم يجزم، لأن من لم يعلم بالعربية، وإن لحن لم يكن متعمداً الكذب" انتهى. وانظر: بقية أقوال المحدثين فى التحذير من اللحن فى المصادر السابقة.
(4)
انظر: الاقتراح فى علم أصول النحو ص 21، والسير الحثيث للدكتور فجال 1/22.
.. قال (سيبويه) فى كتابة (1) : "وأما قولهم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه"(2) فانظر كيف جعله كلاماً صادراً من العرب الذين يحتج بكلامهم (3) .
…
يقول الدكتور محمود فجال: إن عدم استدلال بعضهم بالحديث على أنه مرفوع للنبى صلى الله عليه وسلم لا يعنى أنهم لا يجيزون الاستدلال به، وإنما يعنى عدم خبرتهم بهذا العلم الدقيق، وهو علم رواية الحديث ودرايته، لأن تحصيله بحاجة إلى فراغ، وطول زمان، كما يعنى عدم تعاطيهم إياه (4) .
…
أما (ابن مالك) فهو إمام فى الحديث بالإضافة إلى إمامته فى علم العربية، وهذا هو السبب الذى حدا به إلى الاستشهاد بالحديث.
…
قال (الصلاح الصفدى) : كان-ابن مالك-أمة فى الإطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهدٌ عَدَلَ إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهدٌ عَدَلَ إلى أشعار العرب (5) .
(1) انظر: الكتاب لسيبوبه 1/396.
(2)
الحديث بنحوه أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب ما قيل فى أولاد المشركين 3/290 رقم 1385، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كل مولود يولد على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين 8/458 رقم 2658.
(3)
فهارس كتاب سيبويه للأستاذ محمد عبد الخالق ص 762، وانظر: الحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص 109.
(4)
الحديث النبوى فى النحو العربى ص 110، 126.
(5)
بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة للسيوطى 1/134، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص110، 126.
.. والقدامى لم يثيروا هذه القضية، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، وبالتالى لم يصرحوا برفض الاستشهاد به، وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا - خطأ - أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به ثم حاولوا تعلل ذلك. إذاً فقد كان المتأخرون مخطئين فيما أدعوه من رفض النحاة القدامى الاستشهاد بالحديث وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضاً برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما ينهجون نهجهم. ونحن نحمل (ابن الضائع) و "أبا حيان" تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة فهما أول من روج لها، ونادى بها، وعنهما أخذها العلماء، دون تمحيص أو تحقيق ثقة فى حكمهما
…
ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة، هو أن القدماء سكتوا عن الاستشهاد بالحديث، واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة (نصوص فصحاء العرب) ثم حين جاء من بعدهم ودونوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث النبوى بنص مستقل، فلما جاء (ابن الضائع) و (أبو حيان) وغيرهما ولم يجدوا نصاً مستقلاً يعد الحديث من مصادر الاحتجاج، ظنوا أن القدماء لم يكونوا يستشهدون به، وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة، وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص، وتابعوهم من غير بحث.
…
ويؤيد هذا الافتراض أن (السيوطى) استنبط من قول صاحب (ثمار الصناعة) : (النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله تعالى - وكلام فصحاء العرب) أن النحاة لم يكونوا يستشهدون بالحديث، فعقب على ذلك بقوله:"فقصره عليهما، ولم يذكر الحديث"(1)
(1) الاقتراح للسيوطى 1/134، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 111.
.. يقول الدكتور محمود فجال:"وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك فى صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع-إن لم يكن يقطع فعلاً - أنهم كانوا يستشهدون به، ويبنون عليه قواعدهم، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معاً. ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون. وسنده فى ذلك ما يأتى:
أولاً: أن الأحاديث أصح سنداً من كثير مما ينقل من أشعار العرب، ولهذا قال (الفيومى) بعد أن استشهد بحديث:"فأثنوا عليه شراً" على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر (1) قال: "قد نقل هذا العدل الضابط، عن العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة؛ فإنهم يكتفون فى النقل عن واحد ولا يعرفون حاله (2) .
ثانياً: أن المحدثين الذين ذهبوا إلى جواز الرواية بالمعنى شرطوا فى الراوى أن يكون محيطاً بجميع دقائق اللغة، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى.على أن المجيزين الرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هى الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون فى الكتب وفى حالة الضرورة فقط (3) .وقد ثبت أن كثيراً من الرواة فى الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية، ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف.
ثالثاً: أن كثيراً من الأحاديث دون فى الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدى رجال يحتج بأقوالهم فى العربية، فالتبديل على فرض ثبوته، إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه. فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك (4) .
(1) لسان العرب 14/124، والقاموس المحيط 4/304.
(2)
انظر: مجلة مجمع اللغة العربية 3/201.
(3)
مجلة المجمع 3/204.
(4)
انظر: خزانة الأدب ولب لباب العرب لعبد القادر البغدادى 1/6.
رابعاً: أن اللغويين احتجوا بالحديث فى اللغة، لأجل الاستدلال على معانى الكلمات العربية، وهو ما دفع (السهيلى) إلى أن يقول: "لا نعلم أحداً من علماء العربية خالف فى هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان فى شرح التسهيل، وأبو الحسن بن الضائع فى شرح الجمل، وتابعهما على ذلك الإمام السيوطى (1) أ. هـ.
…
ويقول الدكتور صبحى الصالح معللاً عدم احتجاج أئمة النحو المتقدمين بالحديث قال: "فذلك إن صح – عائد إلى أن كتب الحديث لم تكن متوفرة لغير ذوى الاختصاص فى ذلك الحين، ولولا ذلك لاقتصروا على الاستشهاد بها دون الأشعار، وقد تلافى المتأخرون هذا، فكانوا يحتجون دائماً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى معجماتهم التى اشتملت على أنقى الألفاظ وأفصحها مصحوبة بشروحها وشواهدها، كما فى "تهذيب" الأزهرى، و (صحاح) الجوهرى و (مقاييس) ابن فارس، و (فائق) الزمخشرى وغيرهم (2) .
(1) أصول التفكير النحوى للدكتور على أبى المكارم ص 136-141، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 112، 113
(2)
علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 332.
.. وفاقهم فى ذلك كله (ابن مالك) وبلغ الذروة فى كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" فقد عقده للأحاديث التى يشكل أعرابها، وذكر لها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربى الصحيح (1) . بل إن (ابن الضائع) و (أبا حيان) وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من بعض الأحاديث وقد فطن إلى هذا (ابن الطيب الفاسى) فقال:"بل رأيت الاستشهاد بالحديث فى كلام أبى حيان نفسه مرات، ولا سيما فى مسائل الصرف، إلا أنه لا يقر له عماد، فهو فى كل حين فى اجتهاد"(2) .
…
ويقول الأستاذ سعيد الأفغانى: "وأغلب الظن أن من لم يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر به الزمن إلى العهد الذى راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه بعد القرآن الكريم، ولما التفتوا قط إلى الأشعار والأخبار التى لا تلبث أن يطوقها الشك إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة (3) .
(1) انظر: الدراسة النحوية للأحاديث الواردة فى أكثر شروح ألفية ابن مالك للدكتور محمود فجال فى كتابة الحديث النبوى فى النحو العربى ص138-315،وانظر: دراسة نحوية للأحاديث الواردة فى شرح الكافى للرضى للدكتور محمود فجال فى كتابه السير الحثيث1/119-324، 2/325-543.
(2)
تحرير الرواية فى تقرير الكفاية لأبى الطيب الفاسى ص96، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 106.
(3)
أصول النحو ص 49 وقارن بالحديث النبوى للدكتور فجال ص123، والسنة النبوية فى مواجهة التحدى للدكتور أحمد عمر هاشم ص 122-123.
.. ويمكننا أن نعد قرار مجمع اللغة العربية فى مصر قولاً معتمداً فى موضوع الاحتجاج بالحديث فى اللغة والنحو. وهذا القرار هو: "إن العرب الذين يوثق بعربيتهم، ويستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثانى وأهل البدو من جزيرة العرب إلى آخر القرن الرابع"(1) .
…
كما رأى المجمع الاحتجاج بأنواع من الأحاديث لا ينبغى الاختلاف بالاحتجاج بها فى اللغة، وهى: الأحاديث المدونة فى الصدر الأول، ككتب الأصول الستة فما قبلها، على أن يحتج بها على الوجه التالى:
أ- الأحاديث المتواترة والمشهورة.
ب- الأحاديث التى تستعمل ألفاظها فى العبادات.
ج- الأحاديث التى تعد من جوامع الكلم.
د- كتب النبى صلى الله عليه وسلم ومعاهداته.
هـ- الأحاديث المروية لبيان أنه كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم.
و الأحاديث التى دونها من نشأ بين العرب الفصحاء (2) .
ن- الأحاديث التى عرف من رجال روايتها أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى، مثل القاسم بن محمد ورجاء بن حيوة، وابن سيرين.
ج- الأحاديث المروية من طرق متعددة، وألفاظها واحدة (3) .
(1) نقل هذا القرار الأستاذ عباس حسن فى كتابه (اللغة والنحو بين القديم والحديث) ص 24، وانظر: الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 130، والحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص 127-132.
(2)
كالأئمة مالك والشافعى، ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل فى الشافعى:"إن كلامة فى اللغة حجة" انظر: الاقتراح للسيوطى ص 24.
(3)
مجمع اللغة العربية، مجموعة القرارات العلمية فى خمسين عاماً أخرجها وراجعها محمد شوقى أمين، وإبراهيم الترزى ص 5، وانظر: أمثلة على كل ما سبق فى الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص133 - 135.
.. يقول الأستاذ جواد رياض بعد أن نقل قرار مجمع اللغة السابق: "ومن هنا؛ فإننا نستطيع أن نعتمد على الأحاديث الصحيحة اعتماداً كلياً فى تأييد بعض قواعد النحو التى نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتى توافق لغة من لغات العرب، حتى ولو خالفت رأى جمهور النحاة، لأن قول الرسول حجة فى تصحيح أقوالنا كما هو حجة فى تصحيح أعمالنا، وما ذكره هؤلاء من اللحن فى الأحاديث الصحيحة لم يكن لحناً وإنما هو لغة من لغات العرب. مثل ما روى عن أنس رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُل قائماً، قال قَتَادَةُ فَقُلْنَا فالأَكْلُ فقال: "ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ" (1) .
…
وفى حديث آخر قال: "
…
فوالَّذى نَفْسِى بِيَده إِنَّهُمْ لأَخْيَرُ مِنْهُمْ" (2) . وطبقاً لما هو معروف عند أهل اللغة، فإنهم ينكرون لفظ "أَشَرَّ" و "أَخْيَرُ" ويقولون الصواب (خير) و (شر) بدون ألف كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (3) وقال تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (4) . ولكن لا يقبل إنكارهم فإن لفظ "أشر" و "أخير"
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائماً 7/213 رقم 2024
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينه 8/315 رقم 2522.
(3)
الآية 24 من سورة الفرقان.
(4)
الآية 34 من سورة الفرقان.
صحيح أيضاً، وهو عربى فصيح، وهو لغة من لغات العرب، وإن كانت قليلة الاستعمال، وبالتالى فلا يقبل إنكار هذه اللغة أو ردها ما دامت قد تكررت فى الأحاديث الصحيحة، ويوجد لها نظائر مما لم يكن معروفاً عند اللغويين وجارياً على قواعدهم، لأن النحويين كما قال الإمام النووى لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما ينقله غيره من العرب كما هو معروف (1) .
ومن هنا يتبين أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أَشَرَّ) و (أَخْيَرُ) صحيح حتى ولو كان مخالفاً لرأى جمهور النحاة، فالاحتجاج بالحديث الصحيح هو الأولى (2) .
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم 7/217 رقم 2024، 8/313 رقم 2522 وانظر: مجلة الوعى الإسلامى، العدد 375 لسنة 1417هـ، ص 73.
(2)
مجلة الوعى العدد السابق نفس الصفحة.
وأخيراً: (لا نملك إلا أن نرد قضية الاحتجاج إلى معيار لا يخطئ أبداً، وهو معيار الفصاحة والصفاء والسلامة من الفساد، فلا يحتج فى الحديث، ولا فى غيره، بمن لابس الضعف لغته، وخالطت العجمة كلامه، وتسربت الركة إلى لفظه مهما يَسمُو مقامه. وكان هذا المعيار الدقيق كفيلاً - لو عرفه اللغويون المتقدمون فى وقت مبكر - بإرساء قواعد اللغة وأصول النحو على دعائم ثابتة قوية، وبقطف ثمار تلك الأصول فى نتاج نحوى غنى بالشواهد كنتاج ابن مالك، وابن هشام، من رجال النحو المتأخرين وأئمته الأعلام" (1) . ومذهبهم هو الأصل السديد الصحيح، وهو الذى أخذ به جمهور علماء اللغة الذين امتلأت معجماتهم التى تركوها بالحديث، وكذلك كتب أئمة النحو المتقدمين؛ كابن فارس، وابن جنى، وابن برى، والسهيلى، حتى قال ابن الطيب: "لا نعلم أحد من علماء اللغة خالف هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان (745هـ) فى شرح التسهيل، وأبو الحسن بن الضائع (680) فى شرح الجمل، وتابعهما فى ذلك الإمام السيوطى (2) أ. هـ.
…
والحق ما قاله الإمام مالك لا ما قاله أبو حيان، وكلام ابن الضائع كلام ضائع (3) . وما احتجوا به على منعهم للاحتجاج ظهر لك ضعفه، لأن ما تعللوا به ورد بصورة أدق وأضبط من الذى احتجوا به هم أنفسهم من شعر ونثر (4) . أ. هـ. والله أعلم.
(1) علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 333.
(2)
أصول التفكير النحوى 136 - 141، وانظر: الحديث النبوى للدكتورالصباغ ص 130، 131.
(3)
تحرير الرواية فى تقرير الكفاية ص 101، وانظر: الحديث النبوى للدكتور محمود فجال ص 108، 109. وللاستزادة فى هذا الموضوع، انظر: موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث للدكتورة خديجة الحديثى.
(4)
راجع أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغانى ص 41.