الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: حديث "عذاب القبر ونعيمه
"
…
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "الأخروية
" من أحوال البرزخ، وأحوال يوم القيامة، والرد عليها.
المبحث الثانى: شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها.
المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "الأخروية"
من أحوال البرزخ وأحوال يوم القيامة والرد عليها
…
أحاديث الأمور الغيبية السمعية (الأخروية) من عذاب القبر ونعيمه، والحوض والميزان، والصراط
…
إلخ، طعن فيها المبتدعة من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة وتأولوها على حسب أصولهم.
وتغالى أذيال المبتدعة من دعاة اللادينية فى عصرنا الذى نحيا فيه. وزادوا على أسلافهم بالطعن فى الأحاديث التى تتحدث عن الحشر، والنشر، والنفخ فى الصور، وأوصاف نعيم الجنة، وأوصاف عذاب جهنم، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التى تتحدث عن أحوال يوم القيامة. وقد سبق قول جمال البنا فى ذلك، ومن قال بقوله (1) . كما سبق الرد على شبهتهم فى ذلك، وهى أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب" (2) .
ونزيد هنا فى الإجابة على شبهة الطاعنين فى أحاديث السمعيات:
أنه لا حجة للمبتدعة قديماً وحديثاً فى إنكارهم للأمور السمعية؛ سوى عبادتهم لهوى عقولهم، وقياسهم عالم ما وراء الطبيعة على العالم المحسوس.
يقول الإمام الشاطبى فى كتابه الاعتصام باب بيان معنى الصراط المستقيم، الذى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان قال: "لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم فى رد الأحاديث مع تواترها، فقالوا: لا يجوز أن يرى الله فى الآخرة لأنه تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) .
(1) راجع: ص 793.
(2)
راجع: ص 793-796.
(3)
الآية 103 من سورة الأنعام.
.. فردوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم يوم القيامة"(1) . وتأولوا قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) وقالوا: لا يجوز أن يسأل الميت فى قبره لقول الله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (3) فردوا الأحاديث المتواترة فى عذاب القبر وفتنته (4) ، وردوا الأحاديث فى الشفاعة على تواترها (5)، وقالوا: لن يخرج من النار من أدخل فيها، وقالوا: لا نعرف حوضاً (6) ولا ميزاناً (7) ، ولا نعقل ما هذا، وردوا السنن فى ذلك كله برأيهم، وقياسهم، مع تواتر الأحاديث فى ذلك – إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم فى صفة البارى" (8) وسبق تفصيل ذلك والرد عليه (9) .
…
والحقيقة: أن تحكيم الرأى أمر يسير لا عناء فيه ولا ينبغى لأهل الابتداع والإلحاد قديماً وحديثاً أن يفخروا، وإنما الفخر بإتباع الوحى وإن خفيت علينا حكمته، ولم نستطع إدراك حقيقته لا سيما فى الغيبيات؛ لأن العقل يقف عاجزاً عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة. وتحكيم العقل فى هذا العالم تجاوز لحدود العقل، وسفه من صاحبه، وتطاول على خالقه–والعياذ بالله–
(1) سبق تخريجه ص 762.
(2)
الآيتان 22، 23 من سورة القيامة. وقد سبق تفصيل ذلك والرد عليه ص 755-766.
(3)
جزء من الآية 11 من سورة غافر.
(4)
سيأتى بيان تواتره فى الرد على منكريه فى المبحث التالى ص 817.
(5)
سبق الدفاع عنه ص 785، 786.
(6)
انظر: فى تواتره الأزهار المتناثرة ص 74 رقم 108، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 226.
(7)
انظر: فى تواتره إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 225.
(8)
الاعتصام 2/573، 574 بتصرف يسير، وانظر: أصول الدين للبغدادى ص 245، 246.
(9)
راجع: إن شئت ص 246-248.
ونقتصر هنا فى الرد إجمالاً (1) على من يحكمون عقولهم فى أحاديث أحوال يوم القيامة بكلمة جامعة للإمام ابن خلدون فى تقويم البحث فى المغيبات وتسفيه العقل فى ذلك. قال: "ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه فى ذلك، واعلم أن الوجود عند كل مدرك فى بادئ رأيه منحصر فى مداركه ولا يعدوها، والأمر فى نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه، ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده فى المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات، وكذلك الأعمى أيضاً يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة فى إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية، فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقاً من ذلك والله من ورائهم محيط، فاتهم إدراكك ومدركاتك فى الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك.
وليس بقادح فى العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية، لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع فى محال.
(1) راجع: ما سبق تفصيله فى بطلان قاعدة عرض السنة علىالعقل ص 244-248.