الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا ما فعله أيضاً الدكتور أحمد صبحى منصور فى كتابه "حد الردة" نقل كلام الحافظ بن حجر الذى نقلناه، وبتر منه لفظة النبى صلى الله عليه وسلم فصارت العبارة:"فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به"(1) أ. هـ.
…
وفى هذا الجواب الأخير تعلم الجواب عن باقى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة على الاكتفاء بالقرآن، وعدم حجية السنة، للاقتصار على ذكر القرآن فقط، والوصية به كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) . وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} (3) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} (4) . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} (5) وقوله تعالى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (6) . وأشباه هذه الآيات الكريمة التى ورد الاقتصار فيها على الوصية بكتاب الله عز وجل، وما ذلك إلا كما علمنا، أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه فى الشرائع والأحكام واتباعه، والعمل بما فيه عمل بالسنة النبوية المستمدة حجيتها ومصدرتيها التشريعية منه. فهى من الوحى الغير متلو، والوحى ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن فى قوله تعالى:{نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (7) وهذا ما أنكره أعداء السنة
…
فإلى بيان شبهتهم والرد عليها.
المطلب الثانى:شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها
(1) حد الردة ص 89.
(2)
جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
(3)
جزء من الآية 115 من سورة الأنعام.
(4)
جزء من الآية 170 من سورة الأعراف.
(5)
جزء من الآية 51 من سورة العنكبوت.
(6)
جزء من الآية 19 من سورة الأنعام.
(7)
الآية 9 من سورة الحجر.
.. زعم أعداء السنة المطهرة أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة، واحتجوا لذلك بقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وقالوا: لو كانت السنة حجة ووحياً مثل القرآن؛ لتكفل الله عز وجل بحفظها؛ كما تكفل بحفظ القرآن الكريم.
…
وممن ذهب إلى ذلك؛ الدكتور توفيق صدقى (2) ، وإسماعيل منصور (3) ، وأيدهما جمال البنا (4) ، وذهب إلى ذلك أيضاً فرقة (أهل القرآن) بالهند وباكستان (5) .
الجواب:
…
مما لا شك فيه أن منشأ هذه الشبهة فى كلمة (الذكر) حيث اقتصر فهم المنكرين لحجية السنة المطهرة على أن المراد بكلمة الذكر فى الآية هو "القرآن الكريم" وحده دون السنة، وأن الضمير فى قوله تعالى "له" عائد على القرآن، وأن الآية فيها حصر بتقديم الجار والمجرور وهذا الحصر يفيد عندهم قصر الحفظ على القرآن وحده دون ما عداه (6) .
…
ونقول رداً على ذلك: إن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل، والتاريخ (7) .
أولاً: أما الدليل من كتاب الله عز وجل على تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ كتابه الكريم:
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
مجلة المنار المجلد 9/911 - 913.
(3)
تبصير الأمة بحقيقة السنة 23.
(4)
السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 33 وما بعدها.
(5)
مقام الحديث ص 6-18 نقلاً عن دارسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى 1/32، وانظر القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش ص 99.
(6)
السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص25.
(7)
خلافاً لما زعمه الدكتور إسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 256.
1-
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1)، يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد السيد ندا فى الآية الكريمة إخبار من الله تعالى: بأن السنة مبينة للقرآن، وقد تكفل الله بحفظه فى قوله تعالى:{نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . فيلزم من هذا أن يكون قد تكفل أيضاً بحفظ السنة؛ لأن حفظ المبين يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.
(1) الآية 44 من سورة النحل.
(2)
الآية 9 من سورة الحجر.
2-
وقال تعالى: {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1) . فإنه نص صريح يدل على أن الله قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال لا على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن فى قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . أى بيان القرآن، والبيان كما يكون للنبى صلى الله عليه وسلم يكون لأمته من بعده. وهو يكون للنبى صلى الله عليه وسلم بالإيحاء به إليه ليبلغه للناس، وهو المراد فى الآية السابقة:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقوله تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل (بوحى غير متلو) وفى هذا رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور؛ بأن البيان للذكر لم ينزل مع الذكر (القرآن) وإلا لكان النص على نحو: "وأنزلنا إليك الذكر وبيانه"(4) . ويكون البيان للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم بحفظ السنة التى بلغهم النبى صلى الله عليه وسلم إياها.
…
ولو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب:"عَلَيْنَا بَيَانَهُ" متوجه إلى الله عز وجل فقط دون الأمة وإلا قال عز وجل:"عليكم بيانه" لما أمكنه هذا الشغب فى قوله عز وجل: {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ} فمن الذى جمع القرآن الكريم؟! الله عز وجل بذاته المقدسة؟ أم قيض لذلك رجالاً من خلقه وعلى رأسهم من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟!
(1) الآيات 17-19 من سورة القيامة.
(2)
الآية 44 من سورة النحل.
(3)
الآية 64 من سورة النحل.
(4)
تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 260.
فإن أجاب بالأولى، استغنى بجهله هذا عن مناظرته، وإن أجاب الثانية؛ بطل قوله بأن بيان الكتاب متوجه إلى الله عز وجل فى كتابه فقط وليس إلى نبيه صلى الله عليه وسلموإلى الأمة من بعده. وفى ذلك رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن حفظ الرجال للسنة يجعلهم يتساوون مع الله عز وجل فى القدرة بحفظه كتابه عز وجل، فتستوى بذلك قدرة الله وقدرة المخلوقين (1) .
…
يقول فضيلة الدكتور محمد السيد ندا: "فهذان دليلان على أن الله تكفل بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقاً لهذا الوعد الكريم من الله عز وجل هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها؛ فأثار فى نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها؛ فكانت موضع اهتمامهم ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (2) .
3-
ويذكر الإمام ابن حزم دليلاً ثالثاً من كتاب الله على تكفله جل علاه بحفظ السنة فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) .
(1) المصدر السابق ص 258، 288، 289.
(2)
المؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة 2/531، 532 بتصرف.
(3)
الآية 59 من سورة النساء.
.. يقول الإمام ابن حزم: "هذه الآية الكريمة جامعة لجميع الشرائع أولها عن آخرها، وذكرت أصولاً ثلاثة وهى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} . فهذا أصل وهو القرآن، ثم قال تعالى:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه، وصح لنا بنص القرآن، أن الأخبار هى أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . والبرهان على أن المراد بهذا الرد؛ إنما هو إلى القرآن، والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا، وإلى كل من يخلق ويركب روحه فى جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس؛ كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى لو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمكنه هذا الشغب فى الله عز وجل، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى؛ فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور فى الآية التى نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيلاً بعد جيل، وأيضاً فليس فى الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلاً، ولا دليل عليه، وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة؛ أن هذا الرد إنما هو تحكيم أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكلف تأويل ولا
مخالفة ظاهر.
…
والقرآن والخبر الصحيح بعض من بعض وهما شئ واحد فى أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد فى باب وجوب الطاعة لهما للآية المذكورة وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (1) .
…
وكلام النبى صلى الله عليه وسلم كله وحى لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . والوحى ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله فى الدين وحى من عند الله عز وجل؛ لا شك فى ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة فى أن كل وحى نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل. فالوحى كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرفٍ منه شئ، أبداً تحريفاً لا يتأتى البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك؛ لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً، وهذا لا يخطر ببال ذى مسكة عقل، فوجب أن الدين الذى أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولى الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتى أبداً إلى انقضاء الدنيا قال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) فإذا كان ذلك كذلك؛ فبالضرورى نتيقن أنه لا سبيل ألبته إلى ضياع شئ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عند أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك؛ لكان الذكر غير
(1) الآيتان 20، 21 من سورة الأنفال.
(2)
الآيتان 3، 4 من سورة النجم.
(3)
الآية 9 من سورة الحجر.
(4)
الآية 19 من سورة الأنعام.
محفوظ، ولكان قول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم
…
فإن قال قائل: "إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذى ضمن تعالى حفظه دون سائر الوحى الذى ليس قرآناً. قلنا له وبالله تعالى التوفيق: "هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) فصح أنه لا برهان له على دعواه، فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحياً يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) فصح أنه عليه الصلاة والسلام مأمور ببيان القرآن للناس.
…
وفى القرآن مجمل كثير؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، ولكن بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه – عليه الصلاة والسلام – لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه؛ فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا (4) .
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
الآية 111 من سورة البقرة.
(3)
الآية 44 من سورة النحل.
(4)
الأحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/96، 117، 118 بتصرف يسير.
4-
ويذكر الإمام ابن قيم الجوزية: دليلاً رابعاً من كتاب الله عز وجل على تكفله جل جلاله بحفظ السنة فى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) . وقال تعالى: {الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) .
…
يقول ابن قيم الجوزية: فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ، وأنه يجوز فيه، التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطاً لا يتميز أبداً، أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا ديننا، ورضاه الإسلام لنا ديناً، ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام. أكل ذلك باق علينا ولنا وإلى يوم القيامة؟ أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط؟ أولا للصحابة ولا لنا؟ ولابد من أحد هذه الوجوه.
…
فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا؛ كان قائل هذا القول كافراً لتكذيبه الله جهاراً، وهذا لا يقوله مسلم. وإن قالوا: بل كل ذلك لنا وعلينا وإلى يوم القيامة؛ صاروا إلى قولنا ضرورةً، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة.
…
وهذا برهان ضرورى وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، وفى بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به ما ليس منه أبداً.
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2)
الآية 85 من سورة آل عمران.
(3)
الآية 19 من سورة آل عمران.
.. وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة فقط، قالوا: الباطل، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة، إذ خطابه تعالى بالآيات الكريمة التى ذكرها عموم لكل مسلم فى الأبد، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا، والله تعالى رضى لنا منه ما لم يحفظه علينا وألزمنا منه ما لا ندرى أين نجده، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة. ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيهم صلى الله عليه وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام، بل هو إبطال لدين الإسلام جهاراً، ولو كان هذا - ومعاذ الله أن يكون - لكان ديننا؛ كدين اليهود والنصارى الذين أخبر الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله.
…
ونحن قد أيقنا بأن الله تعالى هو الصادق فى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (1) وأنه تعالى قد هدانا للحق، فصح يقيناً أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هدانا الله تعالى له، وأنه حق مقطوع به حفظه الله تعالى، وقد قال تعالى:{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (2) .
(1) الآية 213 من سورة البقرة.
(2)
الآية 43 من سورة فاطر.
.. وقال تعالى: {تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (1) . فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه يمكن فى شئ منه التحويل أو التبديل؛ لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذباً، وهذا لا يجيزه مسلم أصلاً؛ فصح يقيناً لا شك فيه أن كل سنة سنها الله عز وجل لرسوله، وسنها رسوله لأمته، لا يمكن فى شئ منها تبديل ولا تحويل أبداً، وهذا يوجب أن نقل الثقات فى الدين؛ يوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله عز وجل (2) أ. هـ.
ثانياً: أما الدليل من السنة النبوية الصحيحة على تكفل الله عز وجل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(3) وقوله صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"(4) .
(1) الآية 64 من سورة يونس.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة 2/543، 544.
(3)
سبق تخريجه ص 38.
(4)
سبق تخريجه ص 196، كما سبق أن ذكرت أن ما ورد فى الصحيحين بالاقتصار على الوصية بالكتاب محمول كما قال الحافظ ابن حجر "لكونه أعظم وأهم واتباع الناس لما فيه عمل بكل ما أمرهم به النبى صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة.
.. ففى هذه الأحاديث وغيرها - مما سيأتى فى المبحث الثالث يخبر النبى صلى الله عليه وسلم؛ أن له سنة مطهرة تركها لأمته، وحثهم على التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ؛ ففى اتباعها الهداية، وفى تركها الغواية، فلو كانت سنته المطهرة غير محفوظة، أو يمكن أن يلحقها التحريف والتبديل؛ فلا يتميز صحيحها من سقيمها، ما طالب أمته بالتمسك بها من بعده، فيكون قوله مخالفٌ للواقع، وهذا محال فى حقه صلى الله عليه وسلم فأمره بالتمسك بها، يدل على أنها ستكون محفوظة تأكيداً لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . فدل ذلك على إخبار بالغيب صادق فى الواقع.
ثالثاً: الدليل العقلى على تكفل رب العزة بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
…
يقول الدكتور رءوف شلبى: "ليس بلازم فى الاحتمالات العقلية أن يكون المراد من الذكر القرآن الكريم وحده، لأمرين:
1-
أنه لو كان المراد من الذكر القرآن الكريم وحده؛ لصرح المولى عز وجل به باللفظ، كما صرح به فى كثير من الموضوعات كما فى قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) . وقوله تعالى: {هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} (4) .
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
الآية 9 من سورة الإسراء.
(3)
الآيتان 21، 22 من سورة البروج.
(4)
الآية 17 من سورة القمر.
2-
لو كان المراد بالذكر القرآن لعبر عنه بالضمير {إنا نحن نزلناه} إذ افتتاح السورة فيه نص وذكر للقرآن {تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ} (1) والتعبير بالضمير فى نظر اللغة أجود؛ لأن العلم فى المرتبة الثانية من الضمير، إذ هو أعرف المعارف، وهو عمل يتفق مع منزلة القرآن، وتعتمده الصناعة الإعرابية.
…
وإذن: فليس بالحتم أمام فهم العقل أن يكون المراد من الذكر هو القرآن فقط دون غيره، بل إن تفسير الذكر بالقرآن فقط احتمال بعيد فى نظر العقل؛ لعدم وجود مرشح لهذا التفسير يقوى على مواجهة الأمرين السالفين اللذين يقويان بالمنزلة والعرف النحوى.
وإنه لأقرب من هذا التفسير أحد الاحتمالين:
الأول: أن يكون المراد من الذكر الرسالة والشرف الذى استحقه الرسول صلى الله عليه وسلم واتصف به بنزول النبوة والقرآن عليه، ويقوى عندنا هذا الاحتمال أمام نظر العقل افتتاحة سورة "الحجر" حيث صورت مقالات الكافرين المعتدين على النبوة بأوصاف مفتراه ذكرها رب العزة فى كتابه حكاية على لسانهم {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
…
فالآيتان الأوليان تصوران اتهامات الكافرين الكاذبة، والآيتان التاليتان ترد على هذه الاتهامات، وتعد بحفظ الرسالة والشرف الذى نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) الآيات الأولى من سورة الحجر، وانظر: شفاء الصدور فى تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد محمد نوح 1/80.
(2)
الآيات 6 -9 من سورة الحجر.
.. ويرشح لهذا الاحتمال قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1) فعود الضمير فى الآية "إنه" على ما ذكر قبلاً فى قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} (2) دليل على أن التصريح به مراد الشرف، لا سيما ومن قبل ذلك قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (3) . فذكر القرآن بالنص أولاً، وذكره بالوحى ثانياً، ووصف ذلك بأنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم ولقومه، مما يقوى الاحتمال العقلى، أن المراد من الذكر فى سورة الحجر هو الرسالة والشرف.
الثانى: أن يكون المراد من الذكر الشريعة مطلقاً، ويرشح لهذا الاحتمال ما تناولته السورة بعد الآية التى معنا فى ذكر موقف الأمم السابقة مع رسلهم، يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (4) .
…
والأنبياء يكلفون الأمم بالشرائع، والشريعة: كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والذى يستعرض حالات الأمم مع الأنبياء يقف أن محاجاة الكافرين مع الرسل، تدور كلها حول التكليف الذى مصدره ما ينزله الله بالوحى المعبر عنهما بالكتاب والسنة؛ فالسنة ليست من المسائل الخاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم، كما سنبينه فى المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.
(1) الآية 44 من سورة الزخرف.
(2)
الآية 43 من سورة الزخرف.
(3)
الآية 31 من سورة الزخرف.
(4)
الآيات 10-13 من سورة الحجر.
.. وتكون الآية التى معنا قد نبهت على أمر خطير: هو أنه إذا كان الأمر فى الأمم السالفة ينتهى إلى إلغاء الشريعة بعد معارك عنيفة بين الرسل وأممهم؛ فإن هذه الشريعة قرآناً وسنة سيحفظها رب العزة إلى قيام الساعة من كيد أعدائه وأعداء دينه كما وعد فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
…
وعلى ذلك فإن الذكر فى الآية مراد به الشريعة، ويكون الضمير فى قوله "له" عائد على الشريعة بمصدريها الأساسين القرآن الكريم، والسنة المطهرة (2) .
قلت: ومما يرشح لهذا الاحتمال الثانى: تفسير الإمام الشاطبى للحفظ المضمون فى الآية الكريمة؛ بأنه حفظ أصول الشريعة وفروعها فيقول: "من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه. فهذه ثلاثة أقسام:
…
القسم الأول: هو الأصل والمعتمد، والذى عليه مدار الطلب، وإليه تنتهى مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطيعاً أو راجعاً إلى أصل قطعى. والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة فى أصولها وفروعها؛ كما قال الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) ؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التى بها يكون صلاح الدارين: وهى الضروريات والحاجيات، والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها وهى أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعى على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال فى أنها علم أصل، راسخ الأساس، ثابت الأركان (4) .
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2)
السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص25-29 بتصرف.
(3)
الآية 9 من سورة الحجر.
(4)
الموافقات للشاطبى 1/32، 70، 2/368 - 371.
.. يقول الدكتور رءوف شلبى: "لكن بقى أن يقال: كيف يعود الضمير على القرآن والسنة معاً، ولم يذكر إلا القرآن وحده؟ ولكننا نجد فى القرآن الكريم نفسه استعمالاً للضمير استناداً على ما يفهم من السياق، ومدلولات الحديث، يشهد لهذا قوله تعالى:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} (1) . فتلك صفات الحور العين مع أنه لم يجر لهم ذكر فى قسم أصحاب اليمين فى سورة الواقعة، ولكن السياق العام للسورة وما ذكر فى الأقسام السابقة يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على أمر مفهوم الفحوى والسياق والأسلوب.
…
كذلك يقوى هذه الشهادة فى استعمال القرآن الضمير على ما يستند على الأسلوب النحوى، قوله تعالى:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (2) . ففى قوله: "توارت" ضمير فاعل يعود على الشمس مع أنه لم يجر لها ذكر فى السورة بالنص، ولكن السياق العام يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على الشمس. وما معنا فى آية الحجر من هذا القبيل والكل استعمال قرآنى تزكيه اللغة، ويقويه الإعراب القرآنى، فليس هناك وجه للاعتراض، وعليه يسلم تفسير الذكر بالشريعة قرآناً وسنة (3) .
(1) الآيات 35 - 37 من سورة الواقعة.
(2)
الآية 32 من سورة ص.
(3)
السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 29، 30.
.. قلت: وفيما سبق رد على ما زعمه كذباً الدكتور إسماعيل منصور بأنه: "لو كانت السنة من الذكر الذى نزله الله تعالى؛ للزم بيان ذلك الحكم صراحة، ولما صح إبهامه حتى يأتى من باب التأويل "الفاسد" الذى لا يصح بأى حال! فضلاً عن أن الذكر قد ورد صراحة فى القرآن الكريم، ليدل على أنه القرآن الكريم وحده دون منازع - كما فى قوله تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (1) . وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (2) وغير ذلك من الآيات التى استدل بها على أن الذكر هو القرآن الكريم وحده (3) .
ونسلم لكم أيها المعاندون لحجية السنة أن المراد بالذكر؛ هو القرآن الكريم وحده، وأن الضمير فى قوله تعالى:"له" عائد على القرآن المراد منه الذكر، ولكن الحصر الذى تستدلون به على أن السنة النبوية لم تدخل فى دائرة الحفظ لقصره على القرآن فقط، وترتبون على هذا الحصر عدم صحة الاحتجاج بالسنة، وأنها ليست مصدراً من مصادر التشريع.
…
هذا الحصر ليس حصراً حقيقياً؛ بل هو حصر إدعائى، والدليل على ذلك؛ أن رب العزة قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه منها:
1-
حفظه جل جلاله للسماوات والأرض أن تزولا كما قال عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (4) .
(1) الآية 50 من سورة الأنبياء.
(2)
الآية 58 من سورة آل عمران.
(3)
انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 23 - 25، 256 وما بعدها.
(4)
الآية 41 من سورة فاطر.
2-
حفظه جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم من القتل كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) . وإذا فسدت حقيقة القصر؛ فقد فسد المترتب عليها: وهو عدم الاعتراف بحجية السنة المطهرة (2) .
…
يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق (3) : "والحصر الإضافى بالنسبة إلى شئ مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشئ المخصوص، ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها.
…
فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآى. بل: لو كان فى الآية حصر إضافى بالنسبة إلى شئ مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشئ هو السنة؛ لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين؛ تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره، وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إ ياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما يمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم. فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له.
…
ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها - ولله الحمد - شئ على الأمة؛ وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة" (4) .
رابعاً: الدليل التاريخى على تكفله جل جلاله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن الكريم:
(1) جزء من الآية 67 من سورة المائدة.
(2)
السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص30،31 بتصرف.
(3)
عبد الغنى: هو عبد الله الغنى محمد عبد الخالق، نشأ فى أسرة علمية عرفت بالعلم والدين والفضل، ولها نصيب من النسب الشريف، تخرج من كلية الشريعة عام 1935، وحصل على درجة العالمية (الدكتوراه) فى أصول الفقه سنة 1940م، وقد تخرج على يديه أجيال من العلماء الأجلاء. من مؤلفاته: حجية السنة، مات سنة 1983. انظر: ترجمته فى كتابه حجية السنة ص 5-18 بقلم الدكتور طه العلوانى.
(4)
حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 390، 391.
أنه لو تتبع أعداء الإسلام الحوادث والتاريخ، وتتبعوا السيرة النبوية العطرة؛ لظهر لهم بكل جلاء ووضوح وبما لا يدع مجالاً للشك؛ أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نالت من العناية والاهتمام لدى المسلمين ما لم تنله سيرة أى عظيم من العظماء، ولا بطل من الأبطال، ولا رئيس من الرؤساء، ولا ملك من الملوك. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واقع الأمر ليس إنساناً عادياً، ولا رسولاً عادياً، ولا قائداً يشبه فى أخلاقه وصفاته الإنسانية أحداً، "فهو أفق وحده لا يدانيه أفق" ولذلك كان هو الأسوة، وهو النبراس المضئ.
…
أدرك هذه الحقيقة أصحابه وتابعوهم، والمسلمون من بعدهم فعكفوا على نقل، وتدوين وحفظ، وتطبيق كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، حتى الحركات والسكنات، وبالجملة. نقلت حياته برمتها وكلياتها وجزئياتها فى عباداته ومعاملاته، فى سلمه وحربه، وفى نومه ويقظته، فى أدق الأمور، وفيما نعده من أسرار حياتنا كمعاشرته، إلى غير ذلك بصورة لم تحظ بها سيرة أحد غيره من البشر.
…
وهذا يمثل إشارة قوية إلى أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذه السنة بما هيأ لها من رجال أفنوا أعمارهم فى ضبطها والسهر عليها، وتدوينها، وحفظها، وشرحها، وتمييز صحيحها من سقيمها؛ فنقشوها فى صفحات قلوبهم الأمينة، وفى كتبهم الواعية، فكان تكفله عز وجل بحفظ كتابه فى قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . يشمل السنة النبوية حيث قيض الله لها من الرواة الثقات والأئمة الأعلام، ما قيض لكتابه العزيز من ثقات كل قرن، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
.. ولولا إرادة المولى عز وجل بحفظها، لاندثرت مع تعاقب الدهور لكثرة ما وجه إليها من طعون، ولكثرة ما صادفت من أعداء أضمروا لها شراً، وأرادوا بها سوءاً، فجعلهم الله الأخسرين بما قيض لها من الرجال الأوفياء فى كل عصر، وفى كل جيل، وفى كل مكان (1) .
…
وأخيراً فإننا لا نستطيع إلا أن نرتاب فى أمر هؤلاء الناس الذين قرروا إطلاق أنفسهم من ربقة القرآن الكريم وأحكامه، قبل أن يقرروا إطلاقها من مقتضيات السنة وأحكامها. ولكن شق عليهم أن يواجهوا الناس بخروجهم على القرآن الكريم وتعليماته، فأضافوا إلى القرآن الكريم ما لا مضمون له إلا ما تهواه أنفسهم ويتفق مع رغائبهم وأغراضهم
…
وكان غرضهم الوحيد من ذلك هو أن يبعدوا السنة عن طريقهم ويقطعوا ما بينها وبين القرآن الكريم من علاقة التفسير والتكامل والبيان.
…
وقد سبقهم إلى ذلك - فى عصور سالفة - بعض الزنادقة والمارقين. فما كان حالهم فى الظهور والافتضاح إلا شراً ممن جاهروا بالكفر والعصيان ومحاربة كتاب الله عز وجل وغدت الأمة الإسلامية تتقى شرهم أكثر مما تتقى مجاهرة الكافر بكفره، والفاسق بفسقه (2) .
…
"نعم" إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم، خارجين عن الطريقة المثلى، وخارجين عن السنة المطهرة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله فضلوا وأضلوا" (3) أ. هـ.
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
(1) انظر: مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة بحث الشيخ عز الدين الخطيب وتعقيب فضيلة الأستاذ للدكتور/ أحمد عمر هاشم 2/58 - 560، 602 بتصرف، وراجع: هنا مبحث "الحديث النبوى تاريخ الإسلام" ص 50.
(2)
مؤتمر السنة ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة بحث الدكتور محمد البوطى 2/462.
(3)
الموافقات للإمام الشاطبى 4/401، 432 بتصرف.