الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول جولدتسهير: "إنه من الخطأ اعتقاد أن مكانة هذين الكتابين مردها لعدم التشكيك فى أحاديثهما أو نتيجة لتحقيق علمى. وسلطان هذين الكتابين يرجع لأساس شعبى لا صلة له بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقى الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى المراتب، وبالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق وغير مسموح به، وبرغم التقدير العام للصحيحين فى الإسلام صنف الدارقطنى (ت 385هـ) كتابه "الاستدراكات والتتبع" فى تصنيف مائتى حديث مشتركة بينهما"(1) أ. هـ.
…
وهذه الاستدراكات من بعض الأئمة على الصحيحين اتكأ عليها جولدتسيهر، وغيره وهم يطعنون فى الصحيحين ومكانتهما، ولا حجة لهم فى ذلك، لما يلى فى المبحث الثانى.
المبحث الثانى: الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة على الصحيحين دليل على عدم صحتهما
إن صحيحى البخارى ومسلم لم يؤخذا قضية مسلمة أبعدت عنهما بحث النقاد وتوثيقهم لهما، وإنما الذى حدث هو العكس فقد درس الأئمة كلاً من الكتابين سنداً ومتناً، وعرضوهما على أدق المقاييس النقدية الصحيحة التى التزمها صاحبا الصحيحين فى كتابيهما، فنظر الأئمة فيما اشترطه كل منهما هل وفىَّ به أم أخلا؟
(1) دراسات محمدية ص 236 نقلاً عن ضوابط الرواية عند المحدثين ص 392، وممن قال به جمال البنا فى السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 25، 131، 159 وغيرهم ممن سبق ذكرهم.
فكانت النتيجة أن "استدرك جماعة من الحفاظ على البخارى ومسلم عدة أحاديث رأوا أنهما أخلا فيهما بشرطهما، وأنهما لا تبلغ فى صحتها مبلغ ما غلب عليهما إخراجه، وتكلموا فى هذه الأحاديث من جهة أسانيدها، ومن جهة متونها، ولا يصل استدراكهم أو تكلمهم فى هذه الأحاديث إلى حد النزول بها إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل. غاية ما هناك أنهم رأوا قصورها عن درجة ما دأب عليه الشيخان وما التزماه من إخراج أصح الصحيح"(1) .
يدل على ذلك ما قاله الحافظ العقيلى: "لما صنف البخارى كتاب الصحيح عرضه على ابن المدينى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم؛ فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث. قال العقيلى: والقول فيها قول البخارى وهى صحيحة (2) ".
…
قال الإمام النووى: "قد استدرك جماعة على البخارى ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه،
…
وقد ألف الإمام الحافظ الدارقطنى فى بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع، وذلك فى مائتى حديث مما فى الكتابين، ولأبى مسعود الدمشقى أيضاً عليهما استدراك، ولأبى الغسانى الجيانى فى كتابه تقييد المهمل فى جزء العلل منه، استدراك أكثره على الرواة عنهما، وفيه ما يلزمهما، وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره (3) ".
…
وإذا كان الإمام النووى فى شرحه على مسلم دفع ما أورد على الإمام مسلم، فقد جاء بعده الإمام الحافظ ابن حجر وتتبع المواضع المنتقدة على البخارى تفصيلاً فأجاد فى ذلك فى مقدمته "هدى السارى" مقدمة فتح البارى.
(1) انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد محرم 2/222.
(2)
هدى السارى ص 9، 514.
(3)
انظر: صحيح مسلم (بشرح النووى) مقدمة الشارح، فصل فى الأحاديث المستدركة على البخارى ومسلم 1/49.
والتى يقول العلماء فى شأنها: أنها لو كتبت بماء الذهب ما استوفيت حقها. ففيها فضلاً عن الرد على الطعون التى وجهت إلى صحيح البخارى، مجموعة من الفصول الهامة تتعلق بدراسة الصحيح، وصاحبه، وتراجمه، ومناسباته وغير ذلك من المباحث الهامة المتعلقة بالصحيح.
…
وقد مكث ابن حجر فى كتابتها أربع سنوات تقريباً، فهدى بها فعلاً كل من يريد أن يدرس صحيح الإمام البخارى. ويعرف مكانته بين كتب السنة حيث هو على رأسها.
والإمام ابن حجر فى هدى السارى لم يدافع عن صحيح الإمام البخارى فقط. وإنما دافع عن الصحيحين معاً إجمالاً فقال:
"والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب فى تقديم البخارى ومسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن فى معرفة الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون فى أن على بن المدينى كان أعلم أقرانه بعلل الحديث وعنه أخذ البخارى ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسى عند أحد إلا عند على بن المدينى، ومع ذلك فكان على بن المدينى إذا بلغه ذلك عن البخارى يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلى أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهرى وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعاً. وروى الفربرى عن البخارى قال: "ما أدخلت فى الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته.
وقال مكى بن عبد الله سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابى هذا على أبى زرعة الرازى فكل ما أشار أن له عله تركته.
فإذا عرف أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضاً لتصحيحهما، ولا ريب فى تقديمهما فى ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة (1) .
(1) هدى السارى ص 364، 365.
ثم ذكر الحافظ رحمه الله المواضع المنتقدة وأجاب عنها من حيث التفصيل وأجاد فى ذلك (1) . وظهر له أن أكثر المواضع المنتقدة الجواب فيها قوى، وأن النادر اليسير هو ما تكلف فيه الجواب (2) .
ومن هنا قال الأستاذ الدكتور أبو شهبة رحمه الله: "ولعل من هذه الأحاديث التى وقع فيها التكلف فى الجواب والحق فيها مع الناقد "المنصف" حديث "شَرِيْكُ بنُ أبى نَمِر عن أنس فى الإسراء" وهو حديث طويل، فقد خالف فيه شريك أصحاب أنس فى إسناده ومتنه بالتقديم والتأخير، وزيادته المنكرة وأشد أوهامه قوله –شريك-: "إن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه" (3) ، وقد أنكرها الخطابى، وابن حزم، وعبد الحق، والقاضى عياض، والنووى وغيرهم، واعتبروا ذلك غلطاً من شريك، وشريك ليس بمتهم بالكذب، وقصارى أمره أنه غلط والتبس عليه الأمر (4) .
(1) المصدر السابق ص 266، 364-402، وانظر: تدريب الراوى 1/135-140.
(2)
انظر: هدى السارى ص 366، 402.
(3)
انظر: صحيح البخارى بشرح (فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:"وكلم الله موسى تكليماً" 13/486 رقم 7517 وأشار إليه مسلم فى صحيحه (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات1/488 رقم162.
(4)
انظر دفاع ابن حجر عنه فى فتح البارى 13/494 رقم 7517، وانظر: فى ترجمته: تقريب التهذيب 1/418 رقم 2796، والثقات للعجلى ص 217 رقم 663، والثقات لابن حبان 4/360، والكاشف 1/485 رقم 2277، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد للذهبى ص 116 رقم 155.
ومما يعتذر به عن البخارى، ويجعل النقد ليس ذا أثر أن البخارى أخرج الروايات الصحيحة فى الإسراء (1) ، وهو بصنيعه هذا ينبهنا من طرف خفى لا يخفى على اللبيب ما فى رواية شَرِيك من الأغلاط. فلله در البخارى فكم له من إشارات وتلميحات (2) .
يقول الدكتور رفعت فوزى وهو يدفع الطعون التى وجهت إلى أحاديث الإسراء والمعراج: "وأنه مما يستفاد فى نقد هذه الرواية، النقد العلمى البناء الذى يحرص على جلاء الحقيقة دون اعتبار لمكانة البخارى ومكانة كتابه، كما يتجلى كذلك أن نقادنا قديماً وحديثاً، لم يغفلوا -كما زعم بعض الجاهلين- تناول متن الحديث بالنقد والتمحيص، وعرضه على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة، حتى ينفوا عنه الدخيل والموضوع"(3) .
(1) الحديث اخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن من صحيحه منها كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة 6/348، 349 رقم 3207، وكتاب مناقب الأنصار، باب المعراج 7/241، 242 رقم 3887.
(2)
أعلام المحدثين ص 140، 141، وانظر: فى رحاب السنة الكتب الصحاح الستة ص 71، وانظر: فتح البارى 13/ 488، 489 رقم 7517، وانظر دفاع الدكتور رفعت فوزى فى كتابه "أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية" ورده على السيد صالح أبو بكر وغيره ممن حاولوا إنكار السنة جميعها من خلال الهجوم على أحاديث الإسراء والمعراج، وانظر: الإبهاج فى أحاديث المعراج للإمام ابن دحية تحقيق الدكتور رفعت فوزى، وانظر: الإسراء والمعراج للدكتور أبو شهبة.
(3)
أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية للدكتور رفعت فوزى ص 91، 92 بتصرف.