الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم
قال الدكتور محمد الصباغ: إن دراسة الحديث أمر ضرورى لطالب العلم سواء أكان متخصصاً فى الشريعة أم فى العربية أم فى التاريخ أم فى غير ذلك من العلوم أما ضرورته للتخصص فى الشريعة فواضحة.
الحديث واللغة العربية:
وأما بالنسبة لطالب العربية فنستطيع أن نجعل الدواعى لدراسته فيما يأتى:
أولاً: لأن تأثير الحديث النبوى على ثقافتنا العربية يفوق كل تصور، فلقد صبغت طريقته كل فنون ثقافتنا ومعارفنا، وإنك تجد طريقة السند عمت كل أنواع الكتب فى مكتبتنا من أدبية وتاريخية وغيرهما إذ تعتمد السند فى إيراد أخبارها مثل كتاب "الأغانى" لأبى فرج الأصفهانى، و "الأمالى" لأبى على القالى، و"تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبرى، بل إن كثيراً من العلوم ما كان ليوجد لولا الحديث؛ فطبقات الرجال، وكتب التواريخ، وكتب التراجم والسيرة، كل هذا ثمرة من ثمرات الحديث النبوى.
يقول الدكتور شوقى ضيف: "فالحديث هو الذى فتح باب الكتابة التاريخية، وهيأ لظهور كتب الطبقات فى كل فن، وهذا غير ما نشأ عنه من علوم الحديث وغير مشاركته فى علوم التفسير والفقه، مما بعث على نهضة علمية رائعة". وقال الدكتور أحمد أمين: "كان جمع الحديث أساساً لكل العلوم الدينية تفرع عنه التفسير والفقه وتاريخ السيرة وتاريخ الفتوح والطبقات
…
إلخ (1) .
ثانياً: لأن الحديث النبوى من بليغ ما أثر فى لغتنا، ومن أرفع النصوص الأدبية بياناً وإشراقاً بعد القرآن الكريم، والدراسة المفيدة المجدية للغة العربية هى الدراسة التى تجعل الطالب يتخرج بالنصوص الجميلة وتصله بها، حتى يتأثر بأساليبها وطريقتها فى القول....
(1) ضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين 3 /362.
ثالثاً: لأن علوم العربية وآدابها إنما كانت من أجل خدمة القرآن والحديث، بل إننا لنستطيع أن نقول: إن كل ما فى ثقافتنا من تنوع وتعدد وتلون فى العلوم والفنون والمعارف؛ إنما كان لخدمة القرآن والسنة وفى ذلك يقول الإمام عبد القادر البغدادى (1) : اعلم أنه لا خصلة من الخصال التى تعد فى المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم، وأنواع الاجتهادات، إلا ولأهل السنة فى ميدانها القدح المعلمى، والسهم الأوفر (2) .
رابعاً: لأن هناك التحاماً وثيقاً بين العربية والعلوم الإسلامية، وكل دارس للعربية لا يعد واقفاً على أسرارها ما لم يشارك فى العلوم الإسلامية الأخرى.
خامساً: لأن الحديث النبوى من الأصول التى يستشهد بها على قواعد اللغة (3) .
سادساً: لأن قواعد علم المصطلح التى وضعها أجدادنا المسلمون تعلم المنهجية فى الحكم على الأخبار دون أن يكون تأثر بأى اعتبار آخر غير تطبيق تلك القواعد.
قلت: وهو علم تفتخر به هذه الأمة على البشرية جمعاء فهو من خصوصيتها، وسيأتى تفصيل ذلك فى مبحث (أهمية الإسناد فى الدين، واختصاص الأمة الإسلامية عن سائر الأمم)(4) .
الحديث والتاريخ:
وأما طالب التاريخ فيكفينا للدلالة على أهمية دراسة الحديث بالنسبة له أن نورد قول الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ فى الجامعة اللبنانية (5)، قال: وأول من نظم نقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامى، فإنهم اضطروا اضطراراً إلى الاعتناء بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم. وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل فقالوا: إن هو إلا وحى يوحى، ما تلى منه فهو القرآن، وما لم يتل فهو السنة. فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال فى أسسها وجوهرها محترمة فى الأوساط العلمية حتى يومنا هذا.
يقول الدكتور محمد الصباغ: "وقد وضع الأستاذ المذكور كتاباً بعنوان (مصطلح التاريخ) وقد اعتمد فيه على القواعد التى قررها علماء مصطلح الحديث.
(1) عبد القادر البغدادى: هو عبد القادر بن طاهر بن محمد التميمى، الأستاذ أبو منصور البغدادى، الفقيه الشافعى الأصولى النحوى المتكلم، صاحب المؤلفات الكثيرة النافعة، منها "تفسير القرآن" و"فضائح المعتزلة" و"التحصيل فى أصول الفقه" و"الفرق بين الفرق" توفى سنة 429هـ له ترجمة فى إنباه الرواة للقفطى 2 /185، وبغية الوعاة 2 /105، ووفيات الأعيان 2 /372، وهداية العارفين 5 /606، وطبقات الشافعية لابن السبكى 5/136، وطبقات المفسرين للداودى 1 /332 رقم 294، وفوات الوفيات لابن شاكر 1 /613، والبداية والنهاية لابن كثير 12 /44، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1 /393 رقم 17.
(2)
الفرق بين الفرق ص 321.
(3)
سيأتى تفصيل ذلك فى الجواب عن شبهة رواية الحديث بالمعنى ص 386-395.
(4)
انظر: ج2 ص148.
(5)
وقال الدكتور السباعى فى كتابه السنة ومكانتها ص 108 هو أستاذ التاريخ فى الجامعة الأمريكية فى بيروت سابقاً وهو مسيحى تفرغ أخيراً لأخبار الكنيسة الأرثوذكسية.
ووصف كتابه بأنه بحث فى نقد الأصول، وتحرى الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفيما يقابل ذلك من علم الحديث يقول:"وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا فى الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به من هذا القبيل نشأ وترعرع فى بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه والعمل بأسسه وقواعده (1) ".
يقول الدكتور السباعى: "وقد اعترف المؤلف فى كتابه بأن قواعد مصطلح الحديث أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وقد قال فى الباب السادس (العدالة والضبط) بعد أن ذكر وجوب التحقيق من عدالة الراوى، والأمانة فى خبره: "ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين فى هذا الباب. وإليك بعض ما جاء فى مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمى، واعترافاً بفضلهم على التاريخ
…
ثم أخذ فى نقل نصوص عن الأئمة مالك ومسلم والغزالى والقاضى عياض وأبى عمرو بن الصلاح (2) .
(1) انظر: الحديث النبوى للدكتور محمد الصباغ ص 16: 18 بتصرف.
(2)
السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور السباعى ص 108 بتصرف يسير.
وتأتى أهمية الحديث النبوى فى غير ذلك من العلوم بأنه مصدرٌ لكل معرفة فقد بين النبى صلى الله عليه وسلم. من خلال حديثه الشريف جميع أحكام الحياة والموت كما قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله "وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما طائر يقلب جناحيه فى السماء إلا ذُكر للأمة منه علماً، وعلمهم كل شئ حتى آداب التخلى، وآداب الجماع، والنوم، والقيام، والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسى والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأى عين، وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبى لأمته قبله، وعرفهم صلى الله عليه وسلم. من أحوال الموت وما يكون بعده فى البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبى غيره، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفى عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبداً، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من مكايد إبليس وطرقه التى يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه؛ وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.
وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم الله عز وجل إلى أحد سواه (1) . فكيف يظن بعد كل ذلك أن يكون للإسلام وللمسلمين دين وعلم وحضارة بدون السنة النبوية المطهرة؟
ومن هنا كان التشكيك فى الأحاديث النبوية تشكيكاً فى الإسلام، وفى جميع العلوم والمعارف كما قال الدكتور محمد أبو زهو - رحمه الله تعالى - (ولو أننا ذهبنا نستمع إلى من فى قلوبهم مرض، من دعاة الإلحاد، وخصوم الإسلام، وصرنا إلى ما صاروا إليه من الشبهات، المؤسسة على شفا جرف هار، لذهبت ثقتنا بجميع العلوم، ذلك؛ لأن علمائها لم يبذلوا فيها، من الدرس والتمحيص، والدقة والتحرى، عشر معشار ما بذله علماء الحديث، فى حفظ السنة ورعايتها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة أحوال رواتها على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، فإذا انهار حصن السنة الحصين، بعد تلك العناية البالغة، التى يشهد بها التاريخ والواقع، لم يبق هناك علم نرجع إليه أو نثق به، وكفى بذلك حمقاً وجهلاً)(2) .
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين 4/375، 376.
(2)
الحديث والمحدثون ص 210، 211. انظر: السنة فى مواجهة أعدائها للدكتور طه حبيشى مبحث (إنكار السنة اعتداء على المناهج العلمية) ص 161.