الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ضرب أمثلة على تلك الأحاديث الموضوعة تعمد اختيارها من صحيح الإمام البخارى – رحمه الله – وذلك كأحاديث الرقية "اللهم، رب الناس مذهب الباس، اشف أنت الشافى، لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً". وحديث "علاج المبطون بالعسل". وحديث "لا عدوى ولا صفر". و "الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام". و"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". و"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وغير ذلك من الأحاديث التى نقلها من صحيح الإمام البخارى فى كتاب الطب" (1) .
وطعن كثير من دعاة الفتنة، وأدعياء العلم فى بعض الأحاديث الطبية، واتخذوا من تقسيم بعض علماء المسلمين "السنة تشريع، وغير تشريع" متكأً قوياً وهم يطعنون فى حجية السنة المطهرة، ورواتها الثقات الأعلام.
…
وإذا كنا قد بينا سابقاً بالبرهان الواضح أن السنة النبوية كلها وحى، وبينا بطلان تقسيم السنة الشريفة إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية بما يغنى عن إعادته هنا (2) .
فسوف نكتفى هنا فى
الدفاع عن أحاديث "الطب النبوى
" إجمالاً بالرد على ابن خلدون فيما ذهب إليه.
يقول الدكتور محمد أحمد السنهورى: أما قول ابن خلدون: "والطب المنقول فى الشرعيات ليس من الوحى فى شئ وأنه صلى الله عليه وسلم، لم يبعث لتعريف الطب".
هذا الكلام يناقض الواقع، والحقيقة؛ لأنه من المعلوم والبديهى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أمياً ولم يدرى ما الكتاب، والإيمان.
ومن أين له أن يعرف طبائع الدواء أو خصائصه سواء كان هذا الدواء نباتاً أو غذاء إلا إذا كان ربه قد أطلعه عليه؟!
(1) انظر: صحيح البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الطب 10/141 – 263، وانظر: دين السلطان لنيازى عز الدين ص 523-527.
(2)
راجع: إن شئت ص 452-468.
.. والله عز وجل يقول عن العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (1) ولم يبين فى القرآن الأمراض التى يشفيها هذا العسل.
ولكن الرسول عالج به المبطون أو صاحب الإسهال.
فما الذى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم، يحدد هذا الدواء بالذات لعلاج هذا المرض؟ وما الذى جعله يصر على أن يتناوله المبطون أكثر من مرة؟ لابد أن يكون هذا عن طريق الوحى.
ثم ما الذى جعل الرسول يفضل فى دواء الإمساك "السنا" على "الشُّبْرُمُ" وهما نباتان يستعملان لهذا الغرض (2) . وقد فضَّل الأطباء بعد ذلك ما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوا "الشُّبْرُمُ" وبينوا ضرره وقالوا أنه غير مأمون.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يملك معملاً للتحليلات؟ كلا إن هذا الأمر لابد أن يكون قد عرف خصائصه من الوحى.
ثم إن كل قانون طبى وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم وكل دواء نوه عليه لم يستطع طبيب إلى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يثبت عكس كلامه فيه. أو يخرم له قاعدة، بل كل يوم يظهر الطب، والعلم، صحة ما ذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصدق الله عز وجل إذ يقول:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) .
…
أما كون ابن خلدون يريد أن يقيس طب النبى صلى الله عليه وسلم، على قصة تأبير النخل، مدعياً أن طبه كان أمراً عادياً ورأياً شخصياً له.
فهذا قياس خاطئ ومن الواضح أن هناك فرقاً بين هذا وذاك. فلم يتكلم النبى صلى الله عليه وسلم، عن خصيصة دواء من الأدوية أو غذاء من الأغذية ورجع عنه، بخلاف الأشياء التى كانت اجتهاداً منه، والتى لا تخرج عن الوحى أيضاً، على ما سبق تفصيله (4) .
(1) جزء من الآية 69 من سورة النحل.
(2)
انظر: زاد المعاد 4/320، 328.
(3)
الآيتان 3،4 من سورة النجم.
(4)
راجع: ص456- 463.
.. وأما ادعاؤه بأن الطب النبوى لا يأتى بثمرة ولا نتيجة إلا إذا استعمل على جهة التبرك. ويستشهد على هذا بقصة دواء المبطون بالعسل.
فالرد على هذا بأن أى دواء يستلزم من المريض ثقة منه فى مفعوله، وثقة فى طبيبه الذى يداويه. وهذا الكلام معلوم عند الأطباء مسلمهم، وغير مسلمهم قديمهم وحديثهم؛ لأن القوى النفسية لها تأثير عجيب فى القوى الجسدية وهذا عام فى كل مريض وكل دواء (1) .
…
والقصة التى وردت عن الرجل الذى شرب العسل بعد أربع جرعات لم تبين لنا حال المريض، وإنما تكلمت عن أخيه الذى كان واسطة بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم، ولا نستطيع أن نحكم هل كان الرجل يشرب العسل تبركاً أو كان يشربه على أنه دواء، ولا مانع من البركة أيضاً.
…
وأيّاً ما كان هذا الأمر: فإن الرجل قد شفى على كل حال، ولو لم تكن فى العسل خاصية ضد مرض الرجل لما شفى من مرضه، وقد ثبت طبياً احتواء العسل على مواد قاتله للميكروبات، وثبت كونه دواء لهذا المرض.
هذا وقد تناول الرسول صلى الله عليه وسلم، فى طبه أدواء كثيرة، وبين خصائص كثير من الأدوية، النباتى منها وغير النباتى (2) .
…
يقول ابن قيم الجوزية مميزاً طبه صلى الله عليه وسلم، عن طب الأطباء:"وليس طبه صلى الله عليه وسلم، كطب الأطباء، فإن طبه صلى الله عليه وسلم، متيقن قطعى إلهى صادر عن الوحى، ومشكاة النبوة، وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب"(3) .
(1) انظر: زاد المعاد 4/71.
(2)
انظر: الطب فى السنة للدكتور محمد أحمد السنهورى ص 259 – 261.
(3)
زاد المعاد 4/11.
ويقول الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة – رحمه الله – فى معرض دفاعه عن حديث الذباب قال: "وقبل أن أذكر رأى الطب الحديث فى حديث الذباب أحب أن أقول: "إننى لست مع النابتة التى نبتت – وبعضهم من أهل العلم، فزعمت أن الطب النبوى، من قبيل الأمور الدنيوية التى يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم، فيها الخطأ، ويجعلونه من قبيل تأبير النخل، وقوله صلى الله عليه وسلم:" أنتم أعلم بأمور دنياكم"(1) .
…
ولا أدرى كيف يقال ذلك فى حديث الذباب مع قوله صلى الله عليه وسلم، فيه:"فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء"؟ وقد أتى رسول الله "بأن" التى هى للتأكيد!!
وكيف يكون هذا الأسلوب المؤكد من قبيل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟!
بل كيف يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"(2) من قبل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟! إن معظم أحاديث الطب–إن لم تكن كلها– إنما ساقها صلى الله عليه وسلم، مساق القطع واليقين مما يدل على أنها بوحى من الله – سبحانه وتعالى –0
والطب طبان: طب القلوب والأديان، وبه جاء الأنبياء والمرسلون – عليهم الصلاة والسلام – وطب الأبدان، وهذا نوعان: نوع روحانى كالرقى والدعوات، ونوع مادى جسمانى كالاستشفاء بالعسل، والتمر والحبة السوداء، والكمأة ونحو ذلك (3) .
(1) سبق تخريجه ص 452.
(2)
أخرجه البخارى"بشرح فتح البارى"كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر10/249رقم5768 5769، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة 7/250 رقم 2047، من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه واللفظ لمسلم.
(3)
انظر: الطب فى السنة للدكتور محمد السنهورى الفصل السادس (مشكلات أثيرت حول بعض الأحاديث والرد عليها) ص330-335.
ووظيفة النبى صلى الله عليه وسلم، أولاً وبالذات هو طب القلوب والأديان، ولكن شريعته وسنته قد اشتملت على الكثير من طب الأبدان سواء أكان روحانياً أم جسمانياً (1)، وليس أدل على ذلك من الآيات القرآنية العديدة التى تتحدث عن ذلك كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .
والآيات القرآنية التى تتحدث عن تطور الجنين فى بطن أمه فى سورة المؤمنون وغيرها (3) .
والآيات العديدة التى تتحدث عن الطهارة، وخطورة إتيان الرجل زوجته الحائض حتى تطهر. قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (4) .وقوله تعالى فى طب عسل النحل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (5)
(1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 341 – 343 بتصرف.
(2)
الآية 57 من سورة يونس.
(3)
انظر: الآيات 12-14 من سورة المؤمنون.
(4)
الآية 222 من سورة البقرة، وانظر: الطب فى السنة للدكتور محمد السنهورى فصل "القواعد الطبية العامة المستنبطة" ص 154 – 196، وفصل "الطب الوقائى فى السنة" ص 197، وفصل "سبق السنة إلى مفاهيم طبية سبقت بها العصر" ص 197 - 2500
(5)
جزء من الآية 69 من سورة النحل.
.. وبالجملة: فقد جمع رب العزة الطب كله فى نصف آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (1) وقال صلى الله عليه وسلم "ما ملأ آدمى وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه
…
" الحديث (2) وقال بعض الحكماء: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" (3) .
يقول الدكتور أبو شهبة: وليس أدل على اشتمال السنة المطهرة على طب الأبدان سواء كان روحانياً أم جسمانياً مما اشتمل عليه الصحيحان: صحيح البخارى، وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الصحاح، والسنن، والجوامع من "كتاب الطب" ضمن كتبها، وقد جمع بعض العلماء المحدثين فى ذلك كتباً مستقلة، ككتاب "الطب النبوى" لأبى نعيم، وكتاب "الطب النبوى" للسيوطى، وكتاب "الطب النبوى" لابن قيم الجوزية.
والذى يهمنى من كل هذا، أن أنزع من نفوس النابتة التى نبتت، فزعمت أن الطب النبوى من قبيل الأمور الدنيوية التى تحتمل الخطأ والصواب – هذا الزعم الباطل الذى لم يقم عليه دليل، بل قامت ضده كثير من الأدلة.
(1) جزء من الآية 31 من سورة الأعراف.
(2)
أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الزهد، باب ما جاء فى كراهية كثرة الأكل4/509،510 رقم2380 وقال حديث حسن صحيح.
(3)
انظر: الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية للأستاذ مختار سالم ص 36، والطب الوقائى فى الإسلام للعميد الصيدلى عمر محمود عبد الله، والطب الإسلامى للدكتور أحمد طه.
.. ففى حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: "أن رجلاً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "أخى يشتكى بطنه فقال: اسقه عسلاً، ثم أتى الثانية فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الرابعة، فقال فعلت – يعنى فلم يبرأ – فقال صلى الله عليه وسلم:"صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً فسقاه – يعنى فى المرة الرابعة – فبرأ"(1) .
(1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى "فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ"10/146 رقم 5684، ومسلم "بشرح النووى" كتاب السلام، باب التداوى بعسل النحل 7/460 رقم 2217، واللفظ للبخارى.
ويعجبنى فى هذا المقام ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية قال: "ونحن نقول: إن هاهنا أمراً آخر، نسبة طب الأطباء إليه؛ كنسبة طب الطرقية"(1) والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به بعض حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم، منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول: هو إلهامات ومنامات، وحدس صائب ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمة
…
إلى أن قال: وأين وقع هذا وأمثاله من الوحى الذى يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحى، كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليه عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، من قوة القلب والاعتماد على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانكسار بين يديه والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء (2) .
(1) يريد بعض المتصوفة الذين لا علم لهم بالطب.
(2)
زاد المعاد 4/11،12 بتصرف، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة341-345 بتصرف.