الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوب الإيمان بقدر الله تعالى والجواب عن شبه المعتزلة
ومن قال بقولهم أو تأثر بهم
…
الإيمان بقدر الله واجب، وهو أحد أركان الإيمان الستة؛ التى لا يتصف المؤمن بالإيمان إلا بتحقيقها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الإيمان أن تؤمن بالله، ملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"(1) . ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والعقل على إثبات قدر الله تعالى، وهى تؤيد ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من ذلك: قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (2) وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (4) .
…
وسئل ابن عمر – رضى الله عنهما – عن أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (أى يبحثون عن غامضه وخفاياه) وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف (أى مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلم بعد وقوعه) ؟ فيجيب ابن عمر–رضى الله عنهما – فيقول للسائل: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برئ منم وأنهم براء منى، والذى يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قُبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (5) ، ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه السابق.
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله عز وجل 1/177 رقم 8 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
الآية 2 من سورة الفرقان.
(3)
الآية 49 من سورة القمر.
(4)
الآية 38 من سورة الأحزاب.
(5)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله عز وجل 1/178 رقم 8.
وعن طاووس قال: "أدركت ثلثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: كل شئ بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شئ بقدر حتى العجز والكيس" (1)، والأحاديث فى إثبات القدر كثيرة جداً فى الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة (2) والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله عالم بكل ما يكون جملة وتفصيلاً بعلم سابق لقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) .
الثانى: إن الله كتب فى اللوح المحفوظ مقادير كل شئ لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء"(5) .
(1) الكَيس "بفتح الكاف" ضد العجز، ومعناه الحذق فى الأمور ومعناه: أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه أ. هـ. المنهاج شرح مسلم8/456، وفتح البارى 11/487، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كل شئ بقدر 8/455،456رقم2655
(2)
انظر: كتاب القدر فى الصحيحين، البخارى (بشرح فتح البارى) 11/486 – 524 أرقام 6594 – 6620، ومسلم (بشرح النووى) 8/440 – 468 أرقام 2643 – 2663.
(3)
الآية 70 من سورة الحج.
(4)
الآية 22 من سورة الحديد.
(5)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 8/452 رقم 2653 من حديث ابن عمرو –رضى الله عنهما-.
الثالث: إنه لا يكون شئ فى السماوات والأرض إلا بإرادة الله ومشيئته، الدائرة بين الرحمة والحكمة، يهدى من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، وسلطانه، وهم يسألون، وما وقع من ذلك فهو مطابق لعلم الله السابق ولما كتبه فى اللوح المحفوظ لقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (2) " فأثبت جل جلاله وقوع الهداية والضلال بإرادته.
الرابع: إن كل شئ فى السماوات والأرض مخلوق لله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، لقوله تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) وقال على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (4) .
…
ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل: أن الملك إذا جرى فى ملكه ما لا يريد، دل ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، والله تعالى موصوف بصفات الكمال، لا يجوز عليه فى ملكه نقص، ولا ضعف، ولا عجز، فكيف يكون فى ملكه ما لا يريده، ويريده أضعف خلقه فيكون.كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون فى ملكه إلا ما يشاء
ونقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة الذى ندين لله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع، ولا يعصى عاص، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى؛ إلا بإرادة الله تعالى، وقضائه ومشيئته. وقد دل على صحة ذلك الكتاب، والسنة، والعقل، وإجماع الأمة (5) .
(1) الآية 49 من سورة القمر.
(2)
الآية 125 من سورة الأنعام.
(3)
الآية 2 من سورة الفرقان.
(4)
الآية 96 من سورة الصافات، وانظر: فتح البارى 1/145 رقم 50.
(5)
الإنصاف للباقلانى ص 157، 158، 161، 162 بتقديم وتأخير.
.. وقد تناول العلماء من أهل السنة شبه المعتزلة فى موضوع القدر، وأفعال العباد ففندوها وأوضحوا بطلانها؛ لأنها لم تبن على نصوص الشرع، وإنما بنيت على العقول القاصرة العاجزة، فجاءت مخالفة للنصوص مناهضة لها.
…
وصفوة القول فى الرد على المعتزلة: "إن المعتزلة لما خاضوا بعقولهم فى شرع الله تعالى بعيداً عن هدى النصوص، قذفت لهم تلك العقول بما يسمى بالتحسين والتقبيح العقلى، ووجوب الأصلح على الله؛ الذى كان علته وسببه قياسهم لأفعال الله سبحانه على أفعال العباد، فحسنوا منه ما يحسن منهم، وقبحوا منه ما يقبح منهم، وأوجبوا عليه ما يجب عليهم، وحرموا عليه ما يحرم عليهم، وسموا ذلك عدلاً، وما ذلك إلا تشبيه لله بخلقه فى أفعاله فهم فى الحقيقة مشبهة الأفعال. والله سبحانه لا يقاس بنا فى أفعاله، فليس ما وجب أو حرم علينا، يجب ويحرم عليه، وليس ما حسن أو قبح منا يحسن أو يقبح منه (1) .
…
فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح، لا يفعل السوء والسيئات، مع أنه سبحانه خالق كل شئ، أفعال العباد وغيرها.
(1) انظر: المنتقى من منهاج الاعتدال ص 48، ومفتاح دار السعادة ص 49-52.
والعبد إذا فعل القبيح المنهى عنه كان قد فعل سوءاً، وظلماً، وقبيحاً وشراً، والرب قد جعله فاعلاً لذلك، وذلك منه سبحانه عدل، وحكمة، وصواب، ووضع للأشياء فى مواضعها، فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التى خلقه لها هو محمود عليه، وهو منه عدل، وحكمة، وصواب، وإن كان فى المخلوق عيباً، ومثل ذلك فى المخلوقين، فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الردئ، واللبنة الناقصة، فوضعها فى موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلاً، واستقامة وصواباً وهو محمود، وإن كان فى تلك عوج وعيب هى به مذمومة، ومن أخذ الخبائث فوضعها فى المحل الذى يليق بها كان ذلك حكمة وعدلاً، وإنما السفه والظلم أن يضعها فى غير موضعها، فهو سبحانه لا يضع شيئاً إلا فى موضعه، فلا يكون إلا عدلاً، ولا يفعل إلا خيراً، فلا يكون إلا محسناً جواداً رحيماً، وهو سبحانه له الخلق والأمر (1) .
…
والله يختص بحكمة لا يشاركه فيها غيره، ولهذا يحسن منه ما يقبح من المخلوقين لانتفاء تلك الحكمة فى حقهم، مثال لذلك يحسن منه مدح نفسه والثناء عليها، ويقبح من أكثر خلقه ذلك. كما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المحن، ويقبح ذلك من الخلق، فليس بين الله وخلقه جامع يوجب أن يحسن منه، ما يحسن منهم، ويقبح منه ما قبح منهم (2) .
(1) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/299 – 300.
(2)
لوامع الأنوار البهية للسفارينى 1/333.
.. وكون الله سبحانه خالقاً لأفعال العباد، لا ينفى ذلك أن يكونوا فاعلين لها حقيقة، فقد أخبر سبحانه أن العباد يفعلون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويصدقون ويكذبون فى مواضع جمة. فأفعالهم مستندة إليهم، وهم الفاعلون لها حقيقة، وأنها تنسب إليهم وتضاف لهم وهى مفعولة لله حقيقة ومخلوقة له، وليست فعلاً له، ولا يتصف بأنه فاعلها؛ لأن هنالك فرقاً بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فهى فعل العباد ومفعوله له سبحانه (1) .
وإلى هذا أشار الإمام الطحاوى (2) – رحمه الله – بقوله: "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد"(3) .
(1) المنتقى من منهاج الاعتدال ص 142، 143، 153، وشفاء العليل فى مسائل القدر ص 115، وشرح الطحاوية 2/188.
(2)
الطحاوى هو: أبو جعفر، أحمد بن محمد الأزدى المصرى الطحاوى الحنفى. كان ثقة، ثبتاً، فقيهاً، لم يخلف بعده مثله، انتهت إليه رياسة أصحاب أبى حنيفة بمصر من مصنفاته (شرح معانى الآثار) و "أحكام القرآن" و "العقيدة" مات سنة 321هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص339 رقم 767، وتذكرة الحفاظ 3/808 رقم 797، وطبقات المفسرين للداودى 1/74 رقم 69، والبداية والنهاية 11/ 132، والتقييد لمعرفة رواة السنن لابن نقطة ص 174 رقم 195، ولسان الميزان 1/415 رقم 845.
(3)
شرح الطحاوية 2/179.
.. وأما إيجاب شئ على الله أو تحريمه عليه، فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنه سبحانه إنما أمر عباده بما فيه صلاحهم، ونهاهم وحذرهم عما فيه فسادهم، وأرسل لهم الرسل للمصلحة العامة، وإن كان فى إرسالهم ضرر على بعض الناس، ففيه حكم، وإن كان فى بعض ما يخلقه ضرر كالذنوب، فلابد من وجود الحكمة فى ذلك، والمصلحة التى لأجلها خلقه سبحانه (1)، والله سبحانه قد يوجب على نفسه ويحرم بعض الأمور كقوله سبحانه:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (2) وفى الحديث:"يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى"(3) وهو لا يخل بما أوجبه أو حرمه على نفسه.
أما أن يوجب أو يحرم عليه الخلق بعقولهم فلا (4) .
إن قول المعتزلة يجب على الله فعل الصلاح والأصلح لعباده يلزم منه لوازم فاسدة مثل: عدم خلق إبليس وجنوده، فعدم خلقه وجنوده أصلح للخلق وانفع، وقد خلقه البارى! والأمثلة على ذلك كثيرة (5) .
(1) المنتقى من منهاج الاعتدال ص 53.
(2)
الآية 54 من سورة الأنعام.
(3)
جزء من حديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم 8/375 رقم 2577 من حديث أبى ذر رضي الله عنه.
(4)
المنتقى من منهاج الاعتدال ص49، 50، وشرح الطحاوية 2/193 – 195.
(5)
انظر: لوامع الأنوار البهية 1/329 – 332. وللاستزادة من الرد على شبهات المعتزلة فى عقيدة القدر، انظر: الإنصاف للباقلانى ص157-168، والشريعة للآجرى ص 149-250، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/285 –243.