الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من جراءة الصحابة فى حفظ الشريعة:
1-
فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه الذى تهابه أعتى الإمبراطوريات ويخاف سطوته العادلة أشجع الرجال، تقف فى وجهه امرأة لتقول له: لا، وذلك حين دعا إلى أمر رأت فيه هذه المرأة مخالفة لتعاليم القرآن، فقد خطب الناس يوماً فقال:"أيها الناس لا تغالوا فى مهور النساء لو كان ذلك مكرمة عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتتصدى له امرأة على مسمع من الصحابة فتقول له: "يا أمير المؤمنين! كتاب الله عز وجل أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذلك؟ قالت نهيت الناس آنفاً أن يغالوا فى صدق النساء والله عز وجل يقول فى كتابه العزيز:{وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1) فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثاً ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إنى نهيتكم أن تغالوا فى صدق النساء ألا فليفعل كل رجل فى ماله ما بدا له (2)
(1) جزء من الآية 20 من سورة النساء.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه باب ما جاء فى الصداق 1/166، 167 رقم 598 وأخرجه أبو يعلى فى مسنده وفيه "كل الناس أفقه من عمر"، قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 4/284: فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق.
2-
ويذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى محاربة الممتنعين عن أداء الزكاة فيعارضه عمر طالما أن نصاً نبوياً يمنع دماء من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه حق" (1) .
3-
وهذا على بن أبى طالب رضي الله عنه يعارض عمر رضي الله عنه فى همه برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال له علىّ: ليس ذاك لك: إن الله عز وجل يقول فى كتابه {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (2) فقد يكون فى البطن ستة أشهر، والرضاع أربعة وعشرين شهراً فذلك تمام ما قال الله: ثلاثون شهراً، فخلى عنها عمر" (3) .
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب استتابة المرتدين، باب قتل من أبى قبول الفرائض 12/288 رقم 6924، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/232 رقم 32، واللفظ له.
(2)
جزء من الآية 15 من سورة الأحقاف.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه، باب المرأة تلد لستة أشهر 2/66 رقم 2074.
4-
وهذا أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه ينكر على مروان من الحكم والى المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد مبيناً أنه عمل مخالف للسنة النبوية (1) .
5-
وها هو ابن عمر-كما يروى لنا الذهبى فى "تذكرة الحفاظ" يقوم-والحجاج (2) يخطب فيقول: أى ابن عمر متكلماً عن الحجاج: عدو الله استحل حرم الله وخرب بيت الله وقتل
(1) قصة الحديث أخرجها (بشرح فتح البارى) كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر 2/520 رقم 956، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان 1/296 رقمى 78، 79، وانظر: إنكار كعب بن عجرة رضي الله عنه على عبد الرحمن ابن أم الحكم خطبته يوم الجمعة قاعداً قائلاً: "انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقال الله تعالى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" أ. هـ. الآية 11 من سورة الجمعة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة باب قوله تعالى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" 3/416 رقم 864.
(2)
الحجاج: هو الحجاج ابن يوسف بن أبى عقيل الثقفى، الأمير، المشهور، الظالم، المبير، وقع ذكره وكلامه فى الصحيحين وغيرهما، وليس بأهل بأن يروى عنه، ولى إمرة العراق عشرين سنة، مات سنة 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/190 رقم 1144، ووفيات الأعيان 2/29 رقم 149، والجرح والتعديل 3/168 رقم 717، والكاشف 1/313 رقم 946، وسير أعلام النبلاء 4/343 رقم 117، ولسان الميزان 2/333 رقم 2351.
أولياء الله، وروى الذهبى أن الحجاج خطب فقال: إن ابن الزبير بدل كلام الله، فقال ابن عمر: كذبت لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت، قال الحجاج: إنك شيخ قد خرفت اقعد. قال ابن عمر: أما إنك لو عدت عدت) (1) .
…
مثل هذه الأخبار، ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهى تدل دلالة قاطعة على ما كان عليه الصحابة من الشجاعة، والأمانة، والجرأة فى الحق، والتفانى فى الدفاع عنه، بحيث يستحيل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى أو رغبة فى دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكنوا عمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر. وهذا غاية ما يكون بينهم من خلاف فقهى لا يتعدى اختلاف وجهات النظر فى أمر دينى وكل منهم يطلب الحق وينشده (2) .
وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام.
(1) تذكرة الحفاظ 1/37، 39.
(2)
السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 76 - 78 بتصرف.
.. والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة، ولا ممن دونهم، وقد جاءت كلمة "الكذب" فى أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ، من ذلك: قول النبى صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال ذلك"(1) فى الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع (2) : "قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود وقوله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل (3) ، ليس كما قال، قد حللت فانكحى". وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعة بنت الحارث (4) ، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام: إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب أبو السنابل، ليس كما قال" (5) .
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 6/404 رقم 1802، وباب غزوة ذى قرر وغيرها 6/419 رقم 1807.
(2)
عامر بن الأكوع: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/785 رقم 1317، واسد الغابة 3/114 رقم 2680، وتجريد أسماء الصحابة 1/283، والإصابة 3/350 رقمى 364، 393.
(3)
أبو السنابل: هو حَبَّةُ بن بَعْكَكٍ، صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 1/318 رقم 468، واسد الغابة 1/669 رقم 1030، وتاريخ الصحابة ص 77 رقم 299، ومشاهير علماء الأمصار ص 28 رقم 84، والإصابة 1/304 رقم 1565.
(4)
سبيعة بنت الحارث: صحابية جليلة لها ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص130 رقم 630، والاستيعاب 4/1859 رقم 3370، واسد الغابة 7/138 رقم 6979، والإصابة 4/326 رقم 11278.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 1/350 رقمى 1506، 1508.
.. وعلى نحو هذا الاستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها، كقول ابن عباس - رضى الله عنهما - عن نوف البكالى (1) :"كذب نَوْف" عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العباد، ومقصود ابن عباس: اخطأ نوف (2) .
(1) نَوْف البكالى: هو نَوْف، بفتح النون وسكون الواو، ابن فَضَالة، بفتح الفاء والمعجمة، البكالى، بكسر الموحدة وتخفيف الكاف، ابن امرأة كعب، شامى مستور، وإنما كذب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب، مات سنة بعد التسعين من الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/255 رقم 7239، والجرح والتعديل 8/505 رقم 2311.
(2)
انظر: الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 52.
.. ومنه قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "كذب أبو محمد" حيث قال: "الوتر واجب" ومنه قول عائشة - رضى الله عنها - لما بلغها أن أبا هريرة يحدث بأنه "لا شؤم إلا فى ثلاث" قالت: "كذب - والذى أنزل على أبى القاسم - من يقول: "لا شؤم إلا فى ثلاث - ثم ذكرت الحديث" (1) . "واسْتَمَعَ الزبير بن العوام رضي الله عنه، إلى أبى هريرة يحدث، فجعل يقول كلما سمع حديثاً: كذب
…
صدق
…
كذب، فسأله عروة ابنه: يا أبت ما قولك: صدق
…
كذب. قال: يا بنى: أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه" (2) . فعائشة والزبير-رضى الله عنهما - لا يريدان بقولهما - كذب أى اختلق - حاشاهم من ذلك - وإنما المراد اخطأ فى فهم بعض الأحاديث ووضعها فى غير محل الاستشهاد بها، كما صرح الزبير بن العوام رضي الله عنه، فعدالة أبى هريرة بين الصحابة أعظم من أن تمس بجرح، وما اتهم به كذباً من أعداء الإسلام تصدى للرد عليه رهط من علماء الإسلام (3) .
(1) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر 2/62 رقم 1420، والنسائى فى سننه كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس والمحافظة عليها 1/230 رقم 461، والموطأ كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر 1/120 رقم 13.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 8/ 112، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 34.
(3)
انظر بعض من تصدى للدفاع عنه فى "مبحث أبو هريرة راوية الإسلام رغم آنف الحاقدين" ص638
.. فهذا كله من الكذب الخطأ، ومعناه "اخطأ قائل ذلك". وسمى كذباً، لأنه يشبهه؛ لأنه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد (1) وما استدرك به بعض الصحابة بعضاً فى الرواية لا يعد كذباً، كيف لا والصحابة يتفاوتون فى روايتهم عن النبى صلى الله عليه وسلم بين مكثر ومقل، يحضر بعضهم مجلساً للرسول صلى الله عليه وسلم يغيب عنه آخرون، فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه المتخلفون، حتى يبلغوا به فيما بعد. ومن هذا القبيل كتاب "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للإمام بدر الدين الزركشى. كما وقع لجماعة من الصحابة غيرها، استدركوا على مثيلهم، ونفوا ما رواه وخطؤوه فيه.
…
ويدل على ما سبق ما رواه الحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه: "ليس كلنا كان يسمع حديث النبى صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب"(2) .
(1) انظر: لسان العرب 1/704، وانظر: فتح البارى 1/242، والمكانة العلمية لعبد الرزاق الصنعانى فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار مبحث (مراجعة الصحابة بعضهم لبعض فى ضبط ما يروونه لا تعنى الاتهام) 1/295.
(2)
سبق تخريجه ص 336.
.. وعن القاسم بن محمد (1) قال: "لما بلغ عائشة قول عمرو بن عمر مرفوعاً: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه قَالَتْ إِنَّكُم لَتُحَدِّثُونِّىٍ عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلَا مُكَذَّبَيِنْ وَلِكَنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ (2) ، وفى رواية قالت: "يغفر الله لأبى عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى
أو اخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية تبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب فى قبرها" (3) .
…
كل ذلك وغيره الكثير، يدل على ثقة الصحابة بعضهم ببعض، ثقة لا يشوبها شك ولا ريبة، لما يؤمنون به من تدينهم بالصدق، وأنه عندهم رأس الفضائل، وبه قام الإسلام، وساد أولئك الصفوة المختارة من أهله الأولين وصدقت عائشة - رضى الله عنهما - ما كَانَ خُلُق أَبْغضَ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب (4) .
(1) القاسم بن محمد: هو القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، روى عن عائشة، وأبى هريرة، وفاطمة بنت قيس، وعنه الزهرى، وأبو الزناد. مات سنة 106هـ على الصحيح. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/23 رقم 5506 والكاشف 2/130 رقم 4528 والثقات للعجلى ص387 رقم 1370، وتذكرة الحفاظ 1/96 رقم 88، والثقات لابن حبان 5/302، ومشاهير علماء الأمصار ص 82 رقم 427.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه3/501رقم929
(3)
أخرجه مسلم فى الموضع السابق 3/503 رقم 932، وانظر: فتح البارى 3/184 حيث نقل عن القرطبى قوله: "إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفى مع إمكان حمله على محمل صحيح.. إلخ".
(4)
سبق تخريجه ص 337.