الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقض دليل تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وغير تشريعية
…
تحت هذا العنوان قال الدكتور فتحى عبد الكريم: "الدليل الأساسى الذى يستند إليه القائلون بتقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ففى رأى أنصار تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية أنه "لو لم يكن غير هذا الحديث الشريف فى تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعاً لازماً، وقانوناً دائماً لكفى. ففى نص عبارة الحديث - بمختلف رواياته - تبيين أن ما يلزم إتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو ما كان مستنداً إلى الوحى فحسب" (1) . ولقد كان يكفى ما سبق ذكره رداً على نقض هذا الدليل، لأن معنى كون السنة النبوية دليلاً شرعياً عند الأصوليين أنها تفيدنا حكماً من الأحكام الشرعية، أىَّ حكم كان: من وجوب، أو ندب، أو حرمة، أو كراهة، أو إباحة. كان يمكن أن نرد بذلك وينتهى الموضوع، لولا أن وجه الخطورة فى الأمر (2) : أن فئة ضالَّة أكثرت من الاستشهاد بهذا الحديث، وأرادت به عزل السنة، عن شئون الحياة العملية كلها!
…
فالعادات، والمعاملات، وشئون الاقتصاد، والسياسة، والإدارة، والحرب ونحوها، يجب أن تترك للناس ولا تدخل السنة فيها آمرة ولا ناهية ولا موجهة ولا هادية (3) . فهل يسندهم ذلك الحديث فى تلك الدعوى الخطيرة؟!.
(1) مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحى ص33 مقال الدكتور محمد العوا"السنة التشريعية وغير التشريعية"
(2)
السنة تشريع لازم ودائم ص 32، 33 بتصرف.
(3)
انظر: السنة مصدراً للمعرفة والحضارة للدكتور القرضاوى ص 20.
.. يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: فى ردِّه على الدكتور عبد المنعم النمر – رحمه الله تعالى – هذا الحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) هو عمدة أدلة الباحث فى بحثه: وهذه الجملة (أنتم أعلم بأمر دنياكم) تنقسم إلى ثلاثة مقاطع: "أنتم" والمراد من المخاطبين. و "أعلم" والمراد من المفضل عليه و "شئون دنياكم" وتحديد المراد منها. وبعبارة أخرى: من؟ أعلم من من؟ وبأى شئ هو أعلم؟
هناك احتمالات فى المراد بهذه الجملة لنتصورها ثم نختار منها ما يصلح لأن يكون مراد المشرع الحكيم:
الاحتمال الأول: أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل منى وممن لا علم له بالزراعة، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها، والتى لم تنجح فيها مشورتى، أعلم منى ومن مثلى، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً.
…
الاحتمال الثانى: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى. وممن ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها.
…
الاحتمال الثالث: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بما يصلح النخل منى ومن غيركم من زارعى النخل فى البلاد والأزمان المختلفة، وهذا الاحتمال واضح البطلان، ففى بعض البلاد، وفى بعض الأزمان، من هم أعلم منهم بذلك.
…
الاحتمال الرابع: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بالخبرات والصناعات المختلفة منى ومن غيرى، حتى من أهل الصناعات أنفسهم، على معنى أنتم أعلم بالطب مثلاً منى ومن الأطباء. وهذا الاحتمال واضح البطلان.
.. هذه الاحتمالات الأربعة مبنية على أن المراد من شئون الدنيا الصناعات والمهارات والخبرات، فإذا أردنا من شئون الدنيا مصالح كل فرد أو مصالح كل مجموعة من مباحات الدنيا؛ كالمقارنة بين شراء بيت أو شراء سيارة كان الاحتمال الآتى:
…
الاحتمال الخامس: أنتم الذين تلقحون النخل بالمدينة، ومثلكم جميع الناس، أعلم بشئون دنياكم، وما يصلح لكم من غيركم، والكلام على قاعدة: مقابلة الجمع بالجمع، تقتضى القسمة آحاداً، تقول: أعطيت الطلاب كتباً على معنى أعطيت كل طالب كتاباً، فيصبح المعنى كل واحد أعلم من غيره بشئون ومصالح نفسه، وهذا الاحتمال إن صح فى المباحات، لا يصح فى الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها المصلحة (1) ، بناء على
سبق علم الله الذى خلق. ثم إن هذا الاحتمال لا يتناسب مع قصة الحديث، ومما هو واضح أن الاحتمال الثانى هو المراد، ثم يليه الأول، وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات؛ لأن الحديث - كما رأينا - تطرق إليه أكثر من احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
احتمال دخول المعاملات مستبعد:
(1) راجع: ما سبق ذكره من كلام الإمام الشاطبى وغيره فى الجواب عن شبهه عرض السنة ص244
.. مع أن احتمال دخول المعاملات فى الحديث كأحد الاحتمالات مستبعد أصالة وابتداء (1) ؛ لأن المعاملات كما يفهم من معناها علاقة الأفراد والجماعات بعضهم ببعض فيما يتعلق بمعاشهم، وهذه العلاقة تحكمها دائماً قواعد وأصول وضوابط، لئلا يحيف بعض الأطراف على بعض، والأمم غير الإسلامية وضعت لذلك قوانين، والإسلام وضع لها أرقى أنواع التشريع وليس من المعقول أن الله عز وجل الذى أنزل أطول آياته فى القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا
(1) يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "إدخال المعاملات الممنوعة شرعاً تحت هذا الحديث، هو الذى لم نسمع به من قبل، ولم يسبق به الدكتور عبد المنعم النمر على مدى علمى، وأرجو ألا يتبعه فى ذلك أحد أ. هـ. انظر: السنة والتشريع ص 34.
إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) وحدد فيها كتابة الدين، ومواصفات الكاتب وواجباته، وحق المدين فى الإملاء، وإملاء وليه فى حالة عدم صلاحيته، وصفات الشهود، وشروطهم، وواجباتهم، وقال تعالى:"ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ". ليس من المعقول أن الله الذى اهتم بالدَّين هذا الاهتمام يترك البيع والشراء وتفصيل الربا، والرهن، والشركة وغيرها من المعاملات دون تشريع.
…
هل يعقل أن يترك البشرية هَمَلاً يأكل بعضهم مال بعض ظلماً وعدواناً تحت عنوان "أنتم أعلم بشئون دنياكم"؟
…
هل يعقل مسلم أن يترك الله تعالى هذه القوانين لمحمد صلى الله عليه وسلم دون رقابة أو تصحيح؟ فيخطئ، فتعمل الأمة مجتمعة بالخطأ أربعة عشر قرناً حتى يبعث الله لها من يرعى مصالحها، ويخالف حكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أظن أن العقل المسلم يستبعد ذلك كل الاستبعاد.
…
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "بقى فى نفسى تساؤل بخصوص حديث تأبير النخل ربما يثور فى نفوس البعض، هو: لماذا ألهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم؟
ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعروفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟
…
ولماذا لم يتدارك الله هذه المشورة بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟؟.
…
وسنحاول تلمس حكمة لهذه الحادثة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلَاّ فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير. ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور:
(1) الآية 282 من سورة البقرة.
أولاً: صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقوا شوكتهم بعد. ألم يكن من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول محمد صلى الله عليه وسلم فيها؟ فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون؟ احتمال.
ثانياً: تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة.
ثالثاً: اختبارهم فى صدق إيمانهم، فهذه الحادثة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضوان الله عليهم فى هذا الاختبار القاسى - وهم فى أول الإيمان، نجاحاً باهراً، فقد استمروا فى طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين (1) . ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه الحادثة. والله أعلم بحكمته.
…
وبعد: إذا كانت عصمة النبى صلى الله عليه وسلم دليل على حجية الكتاب، والسنة معاً، فلننتقل إلى الدليل الثانى من أدلة حجية السنة، وهو القرآن الكريم.
(1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 32 - 47 بتصرف، وانظر: مزيد من بيان المراد بهذا الحديث فى الأنوار الكاشفة لعبد الرحمن اليمانى ص 27-40، والسنة تشريع لازم ودائم ص 33 وما بعدها، والسنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص 14-17.