الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلتُ: الثابت عن الصحابة رضوان الله عليهم، أنه لا يؤكل منها إلا إن تخللت بنفسها؛ فقد أخرج أبو عبيد في الأموال (311) قال: حدثني يحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أسلم، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تأكل خلا من خمر أفسدت، حتى يبدأ الله بفسادها، وذلك حين طاب الخل، ولا بأس على امرئ أصاب خلا من أهل الكتاب أن يبتاعه، ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها.
وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 14) عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، بإسناده، قال: لا بأس بخل وجدته مع أهل الكتاب؛ ما لم تعلم أنهم تعمدوا إفسادها بعد ما صارت خمرًا.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وأخرج ابن أبي شيبة (8/ 12) عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، قال: اختلف رجلان من أصحاب معاذ في خل الخمر، فسألا أبا الدرداء؟ فقال: لا بأس به. وإسناده صحيح أيضًا.
قلتُ: ولكن تقدم أنَّ الخمر طاهرة، ولا يحكم عليها بالنجاسة، فَتَنَبَّه.
(1)
مسألة [5]: استحالة النجاسة
.
• ذهب جمهور أهل العلم إلى أن استحالة النجاسة لا يطهرها، كالعذرة إذا صارت ترابًا، أو جلود الميتة إذا أُحرِقت، وصارت رمادًا، أو وقعت ميتة في
(1)
انظر: «تفسير القرطبي» (6/ 290)، و «الشرح الممتع» (1/ 368)«الاستذكار» (23/ 313 - ).
مملحة فصارت ملحًا، وقالوا: إنَّ هذه المادة هي أصلها تلك المادة النجسة.
• وذهب أبو حنيفة، وأهل الظاهر إلى أن النجاسات تطهر بالاستحالات، وهذا القول هو رواية عن أحمد، انتصر لها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في «مجموع الفتاوى» (21/ 70 - 71): وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا، وَلَا مَعْنًى، فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَلَا فِي مَعْنَى الْمُحَرَّمِ، فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهَا، بَلْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ الْحِلِّ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا اُتُّفِقَ عَلَى حِلِّهِ، فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْلِيلَهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أنَّ الْخَمْرَ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ الله تَعَالَى، صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَاسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ، وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا: الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ، بِخِلَافِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نَجُسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ؛ فَإِنَّ الدَّمَ مُسْتَحِيلٌ عَنْ أَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَذِرَةُ، وَالْبَوْلُ، وَالْحَيَوَانُ النَّجِسُ، مُسْتَحِيلٌ عَنْ مَادَّةٍ طَاهِرَةٍ مَخْلُوقَةٍ. انتهى.
(1)
وقال ابن القيم رحمه الله في «أعلام الموقعين» (1/ 394): وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ تَعْدِيَةُ ذَلِكَ إلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ إذَا اسْتَحَالَتْ، وَقَدْ نَبَشَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُبُورَ
(1)
وانظر: (21/ 479).
الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ التُّرَابَ، وَقَدْ أَخْبَرَ الله سُبْحَانَهُ عَنْ اللَّبَنِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا عُلِفَتْ بِالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ حُبِسَتْ وَعُلِفَتْ بِالطَّاهِرَاتِ حَلَّ لَبَنُهَا وَلَحْمُهَا، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ إذَا سُقِيَتْ بِالْمَاءِ النَّجَسِ، ثُمَّ سُقِيَتْ بِالطَّاهِرِ حَلَّتْ لِاسْتِحَالَةِ وَصْفِ الْخُبْثِ وَتَبَدُّلِهِ بِالطَّيِّبِ، وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ الطَّيِّبَ إذَا اسْتَحَالَ خَبِيثًا صَارَ نَجَسًا كَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ إذَا اسْتَحَالَ بَوْلًا وَعَذِرَةً، فَكَيْفَ أَثَّرَتْ الِاسْتِحَالَةُ فِي انْقِلَابِ الطَّيِّبِ خَبِيثًا، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي انْقِلَابِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا؟
إلى أن قال: وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لِلِاسْمِ وَالْوَصْفُ دَائِرٌ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا. انتهى.
(1)
وقال ابن حزم رحمه الله في «المحلَّى» (132): وَإِذَا أُحْرِقَتْ الْعَذِرَةُ، أوِ المَيْتَةُ، أو تَغَيَّرَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أو تُرَابًا، فَكُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ، وَيُتَيَمَّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ، بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الأَحْكَامَ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَا حَكَمَ الله تَعَالَى بِهَا فِيهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الاِسْمُ الَّذِي بِهِ خَاطَبَنَا الله عَزَّوَجَلَّ، فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ الاِسْمُ فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي حَكَمَ الله تَعَالَى فِيهِ. وَالْعَذِرَةُ غَيْرُ التُّرَابِ وَغَيْرُ الرَّمَادِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ غَيْرُ الْخَلِّ، وَالإِنْسَانُ غَيْرُ الدَّمِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ، وَالمَيْتَةُ غَيْرُ التُّرَابِ. اهـ
وقد رجَّح هذا القول الشوكاني في «الدراري» ، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، كما في «توضيح الأحكام» (1/ 172)، وهو الراجح، والله أعلم.
(2)
(1)
وانظر: «بدائع الفوائد» (3/ 119 - 120).
(2)
وانظر: «شرح المهذب» (2/ 579)، «المغني» (1/ 97).