الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسائل والأحكام المستفادة من الحديث
مسألة [1]: حكم الكلب، ولعابه
.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
• المذهب الأول: نجاسة لعاب الكلب، وطهارة شعره، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية، ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، واستدلوا بأدلةٍ:
1) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديث الباب: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب
…
»، الحديث. قالوا: وكلمة: «طهور» لا تستعمل في الحقيقة الشرعية إلا ويراد بها رفع حدث، أو نجس، ولا حدث ههنا، فتعين النجس، وقد اعترض على هذا الاستدلال بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وبقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» .
(1)
وأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الاعتراض، فقال: والجواب أنَّ ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية، والشرعية، حُمِلَت على الشرعية؛ إلا إذا قام دليل.
2) واستدلوا كذلك بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «فليغسله سبعًا» ، فالأمر بغسله، والتغليظ فيه يدل على نجاسة لعاب الكلب.
(1)
سيأتي تخريجه إن شاء الله في [باب الوضوء].
3) استدلوا بزيادة: «فليرقه» ، ولولا أنه نجس؛ لكان فيه إسرافًا، وإضاعة للمال، وقد تقدم بيان أنَّ هذه الزيادة شاذة.
4) قال الحافظ رحمه الله في «الفتح» (172): وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأنَّ الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس. رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه.
• المذهب الثاني: نجاسة لعاب الكلب مع شعره، وسائر أجزائه، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنه، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي عبيد، ورواية عن مالك، وعزاه الصنعاني في «السُّبل» (1/ 52) للجمهور من أهل العلم، وكذلك الشوكاني (1/ 69)، واستدلوا على ذلك بأدلة المذهب الأول، وقاسوا بقية بدنه على لعابه، فقالوا:
إذا كان لعابه نجسًا، وهو عرق فمه، ففمه نجس، والعرق جزء متحلب من البدن؛ فجميع عرقه نجس؛ فجميع بدنه نجس؛ لأن العرق جزء من البدن.
واستدلوا أيضًا بحديث ميمونة في «مسلم» (2105)، أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخرج جرو كلب من بيته، ثم نضح مكانه بالماء.
• المذهب الثالث: طهارة لعابه، وشعره، وسائر جسده، وهو مذهب مالك في المشهور عنه، وداود، والزهري، وسفيان الثوري، وابن المنذر، وابن عبد البر، والبخاري، وهو رواية عن أحمد كما في «الإنصاف» ، واستدلوا بأدلة:
1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، «أنَّ رجلًا ممن كان قبلنا سقى الكلب بخُفِّهِ فغفر الله له» ، متفق عليه بمعناه.
(1)
قال الحافظ رحمه الله: واستدل به المصنف على طهارة سؤر الكلب؛ لأن ظاهره سقي الكلب فيه -أي: بِخُفِّهِ- ولم يؤمر بغسله سبعًا.
2) حديث ابن عمر رضي الله عنهما في «البخاري» (174)، قال: كانت الكلاب تبول، وتُقْبل، وتُدْبِر في المسجد في زمن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك.
3) حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في «الصحيحين»
(2)
، وفيه: إباحة صيد الكلب المعلم، وقبله قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
4) قالوا: والأمر بالغسل للتعبد، لا للنجاسة؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع.
وقد أُجيب عن هذه الأدلة بما يلي:
1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الحافظ رحمه الله في «الفتح» (172): وتعقب بأن الاستدلال به مبني على أنَّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، وفيه اختلافٌ، ولو قلنا به؛ لكان محله فيما لم ينسخ، ومع إرخاء العنان لا يتم الاستدلال به أيضًا؛ لاحتمال أن يكون صبه في شيء فسقاه، أو
(1)
أخرجه البخاري (173)، ومسلم (2244).
(2)
سيأتي تخريجه إن شاء الله في [كتاب الصيد والذبائح].
غسل خُفَّه بعد ذلك، أو لم يلبسه بعد ذلك.
قلتُ: ويجاب أيضًا بأنَّ المأمور بغسله هو الإناء؛ لاستخدامه في الأكل، والشرب، والطهارة، ونحو ذلك.
وأما النعل فليس مأمورًا بغسله، ولا هو في معنى ما ذُكر.
2) حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أجاب بعضهم عليه: بأنه قد أُجْمِع على أن أبوال الكلاب نجسة، قاله ابن المنير كما في «الفتح» (172)، والبيهقي كما في «شرح المهذب» (2/ 568)، والشوكاني في «النيل» (1/ 70).
لكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «الفتح» (172): وتعقب بأنَّ من يقول: إن الكلب يؤكل، وأنَّ بول ما يؤكل لحمه طاهر، يقدح في نقل الاتفاق؛ لاسيما وقد قال جمعٌ بأن أبوال الحيوانات كلها طاهرة إلا الآدمي، وممن قال به: ابن وهب، حكاه الإسماعيلي، وغيره عنه.
ثم قال الحافظ رحمه الله: والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد، وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها. انتهى.
وقال البيهقي رحمه الله في «الكبرى» (1/ 243): كأنَّ ذلك كان قبل أمره بقتل الكلاب، وغسل الإناء من ولوغه، أو كأنَّ عِلْمَ مكان بولها خفي عليهم، فمن
علمه وجب عليه غسله. اهـ
قال ابن التركُماني رحمه الله: وأظهر هذين التأويلين أنَّ الشمس كانت تجفف تلك الأبوال؛ فتطهر الأرض. اهـ، وهذا التأويل اختاره شيخ الإسلام، وصححه الإمام ابن عثيمين كما في «مجموع فتاواه» (11/ 247).
3) إباحة صيد الكلب المعلم.
أجاب عنه الشوكاني فقال: إنَّ إباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، وعدم الأمر؛ للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس من العموم، ولو سلم؛ فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه. اهـ «النيل» (1/ 69 - 70).
4) قولهم: إنَّ الأمر بالغسل للتعبد.
أجاب عنه الصنعاني رحمه الله في «سبل السلام» (1/ 52)، فقال: وأجيب عنه بأنَّ أصل الحكم الذي هو الأمر بالغسل معقول المعنى، ممكن التعليل، بأنه للنجاسة، والتعبد إنما هو في العدد فقط.
قال أبو عبد الله غفر الله لهُ: الثلاثة المذاهب قوية، وأقواها -والله أعلم- هو المذهب الأول.
وأما الرد على أدلة المذهب الثاني:
1) فقياسهم عَرَق البدن على عرق الفم وهو اللعاب لا يلزم منه نجاسة ظاهره، وهو الشعر، وإنما غاية ذلك أن يدل على نجاسة باطنه، وما ظهر من جلده إذا كان عليه رطوبة.