الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبهذه الأقوال يتبين لنا أن الأقوال كالتالي.
الأول: أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة، واختلفوا هل تسقط مع الجهل والنسيان أو لا تسقط على قولين.
الثاني: أنها سنة، ويستحب له أن يعيد الصلاة ما دام في الوقت.
الثالث: أن الطهارة واجبة للصلاة، وتصح الصلاة بدونها مع الإثم.
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة
.
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {وثيابك فطهر}
(1)
.
أمر الله سبحانه وتعالى بطهارة الثياب، والمقصود فيه في الصلاة، لأن طهارتها خارج الصلاة ليست واجبة إجماعاً.
وأجيب بجوابين:
الأول: أن المراد بالثياب غير اللباس، وإنما المقصود بالثياب القلب، وتطهيره من الشرك، خاصة أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، فهي قد نزلت قبل الأمر بالصلاة والوضوء.
ولو حملنا الآية على طهارة الثياب الظاهرة، فإن الآية فيها الأمر بتطهير الثياب، وهو مطلق، ليس فيه أن ذلك خاص بالصلاة، فهل تقولون بوجوب طهارة الثياب من النجاسة مطلقاً ولو خارج الصلاة؟ فإن قلتم ذلك، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجب على الإنسان الطهارة من الخبث إلا حال
(1)
المدثر: 4.
الصلاة
(1)
، وإن قلتم إن الآية مقيدة بالصلاة فقط، قلنا: لكم، إن الصلاة وقت نزول الآية لم تكن معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما علمه جبريل كيفية الصلاة بعد أن فرضها الله عليه ليلة الإسراء.
وقد جاء في اللغة ما يدل على إطلاق الثياب على غير اللباس:
يقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق
قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية.
وقوله تعالى: {وثيابك فطهر}
(2)
، معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
…
ليس الكريم على القنا بمحرم
أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك.
وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب.
وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة.
وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل:{وثيابك فطهر}
(3)
، يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان:
(1)
نقل الإجماع ابن حزم في المحلى (3/ 203) مسألة: 343.
(2)
المدثر: 4.
(3)
المدثر: 4.
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا
(1)
.
واللفظ إذا منع مانع من حمله على ظاهره، وكان للتأويل وجه في اللغة العربية لم يمنع من حمله عليه، فالأصل في لفظ " الثياب " هو إطلاقها على اللباس الظاهر، لكن منع من ذلك ما سبق أن ذكرناه من كون الآية نزلت قبل فرض الصلاة والوضوء.
الوجه الثاني: سلمنا أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي، وهو اللباس الظاهر، فإن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية؛ لأن كون الشيء شرطاً: حكمٌ شرعيٌ وضعيٌ، لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أوبنفي الفعل بدونه نفياً متوجهاً إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به.
فلم يأت من الشارع قوله: لا صلاة إلا بالطهارة من الخبث، أو من لم يتطهر من الخبث فلا صلاة له. أو لا يقبل الله صلاة أحدكم إلا بالتطهر من الخبث، كما قال في الطهارة من الحدث:" لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "
(2)
، وما دام أنه لم يأت ما يفيد الشرطية فلا يصح القول بالشرطية.
ورد هذا الوجه:
بأن قولكم: إن الآية نزلت قبل الأمر بالصلاة، وفي هذا دليل على أن المراد القلب، فغير صحيح، لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خص بذلك في أول
(1)
لسان العرب (4/ 504 - 505)، القاموس المحيط (ص: 554) العين (4/ 18، 19)، مختار الصحاح (2/ 379)، وانظر أنيس الفقهاء (ص:46).
(2)
البخاري (135)، ومسلم (225).
الإسلام، وفرض عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته.
وجواب ثان: وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فأوجب ذلك اتباعهم، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت. اهـ
والذي يرجح أن المراد بالثياب اللباس الظاهر أننا لو حملنا الثياب على ترك المعاصي لكان في سياق الآيات تكرار، فإن قوله: وثيابك فطهر والرجز فاهجر؛ فإن هجر الرجز من معانيه هجر المعاصي، فتكون هذه قرينة على أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي المتبادر إلى الذهن، وهو طهارة اللباس الظاهر.
وهذا الكلام جيد، إلا أن التعميم بعد التخصيص، والتخصيص بعد التعميم كلاهما وارد في كتاب الله،
فمن الأول قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
(1)
.
فإن جبريل من الملائكة، فذكر الله سبحانه وتعالى عموم الملائكة بعد تخصيص جبريل بالذكر، وهذا منه.
ومثال التخصيص بعد التعميم، قوله تعالى:{من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}
(2)
.
فهنا ذكر الملائكة على سبيل العموم ثم خص بالذكر جبريل وميكال،
ومثله قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}
(3)
،
(1)
التحريم: 4.
(2)
البقرة: 98.
(3)
البقرة: 238.
وليس هذا على وجه التكرار، بل لمزيد عناية واهتمام.
والقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فنكون مخاطبين بطهارة الثياب من النجاسة، هذا القول بعيد عن الصواب، فإن الصحابة لم ينقل عنهم أنهم كانوا يصلون على طريقة أهل الكتاب، ولم يكلفوا بالصلاة إلا بعد الإسراء، وهل يقول أحد: بأن أول الإسلام كان المسلمون مخاطبين في تعلم ديانة أهل الكتاب أو غيرها من الديانات؛ لأن شرع من قبلهم شرع لهم، ما دام أنه لم يأت في شرعهم ما ينفيه، وأن الإنسان لو لم يقم بمثل هذا لكان مفرطاً، أو نقول: إن الأصل براءة الذمة حتى يأتي الخطاب المكلف من الشارع، كما قال سبحانه {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس}
(1)
،
ولم يعمل بقوله تعالى {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم}
(2)
الآية.
وأما قولكم: إنه يجوز أن يكون الرسول قد خص بالتكليف في الطهارة من الثياب وفي الصلاة، فإن كان الأمر من باب التجويز العقلي فهذا جائز، وإن كان من باب الدعوى فأين الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كلف بالصلاة دون سائر أمته في أول الإسلام؟ والله أعلم.
(1)
الأنعام: 145.
(2)
الأنعام: 146.