الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأجيب:
بأن الخلاف ليس في لحوم الحمر الأهلية وإنما في أبدانها حال الحياة، الضمير في قوله:" فإنها رجس " عائد إلى اللحوم، وليس إلى الحمر، ونجاسة اللحوم لا يستلزم نجاسة الحيوان حال الحياة، لأن الحمار لا تحله التذكية، فإذا ذبح كان ميتة، ونجاسة الميتة معلوم من الشرع بالضرروة. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال لما قيل له: يا رسول الله أكلت الحمر، ولذلك أكفئت القدور بعد أن طبخت.
ويحتمل أن قوله: إنها رجس: أي حرام، فلم يتعرض الحديث للنجاسة، كما في قوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها رجس، أي حرام، وإلا فالميسر لا يقال: إنه نجس، وكذلك الأنصاب والأزلام، والجواب الأول أقوى؛ لأن الغالب في إطلاق لفظة " ركس " على الحيوان إنما يراد بها أنه نجس، وإن كانت تطلق على غير المأكول والمشروب ويراد بها الحرام أحياناً، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قالوا: إنه حيوان حرم أكله لا لحرمته، مع إمكان التحرز منه غالباً أشبه الكلب في النجاسة.
وأجيب:
بأن الكلب ورد فيه نص على نجاسة سؤره، ووجوب غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وحرم اقتناؤه إلا لحاجة، بخلاف الحمار فإنه يجوز اقتناؤه للزينة، ولم يرد نص في غسل الإناء من ولوغه، ولم نؤمر بغسل ما أصاب ثيابنا من عرقه ولعابه، فأين وجه الشبه بين المقيس والمقيس عليه.
وأما القول بأنه يمكن التحرز منه في الغالب ففيه نظر، إذ لا يمكن لراكبه التحرز من عرقه فبدنه يلامس بدن الراكب، فيعرق بدن الحمار خاصة في البلاد الحارة، فيصيب ثياب الراكب وبدنه ولا بد.
ذكر ما أوجب للحنفية التوقف في البغل والحمار:
حيث كان التوقف في المسألة لا يعتبر دليلاً، لم أقدم ذكر أدلة الحنفية كالعادة حين ذكر الأدلة؛ لأن التوقف ليس من أدلة الشرع، والمتوقف هو ملتبس عليه الأمر، فلم يحرر في المسألة قولاً فضلاً أن يحرر دليلاً، وما أوجب لهم التوقف هو تعارض الأدلة عندهم في طهارة سؤره، وفي حكم لحمه، فجاء عندهم ما يقتضي نجاسة سؤره، وما يقتضي طهارته، وجاء عندهم ما يقتضي تحريم لحمه، وما يقتضي إباحة أكلها، فلما تعارضت الأدلة توقفوا، وجعلوا سؤرهما مشكوكاً فيه:
يقول السرخسي: " أما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي رحمه الله تعالى، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن، فسؤره طاهر.
وعندنا مشكوك فيه غير متيقن بطهارته، ولا بنجاسته؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: إنه رجس، فيتعارض قوله وقول ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك الأخبار تعارضت في أكل لحمه فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر "
وروي أن أبجر بن غالب رضي الله عنه قال: لم يبق لي من مالي إلا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام " كل من سمين مالك "
(1)
، وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته، واعتباره بلبنه يدل على نجاسته، ولأن الأصل
(1)
سيأتي تخريجه قريباً إن شاء الله تعالى.
الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة موجود في الحمار; لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول بنجاسته، ولكون البلوى فيه متقاعداً لا نقول بطهارته فيبقى مشكوكاً فيه، وأدلة الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض، والحكم فيها الوقف
(1)
.
وهذه الأدلة التي ساقها السرخسي ليست متكافئة، حتى يقال: بالتعارض، فأثر ابن عباس لم يعارض الحديث المرفوع في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، فإننا نقول بطهارة سؤرها، وتحريم لحمها، ولا تعارض.
وأما الأحاديث التي ساقها، فيقال: الحديث الضعيف لا يعارض به الحديث المتفق على صحته، فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث متفق على صحته، كما خرجته في أدلة القول الأول.
وحديث " كل من سمين مالك " حديث مضطرب، لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1509 - 37) فقد رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن عبيد بن الحسن، قال: سمعت عبد الله بن معقل يحدث عن عبد الله بن بسر،
عن ناس من مزينة الظاهرة، أن أبجر - أو ابن أبجر - سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لم يبق لي مال إلا حمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لهم جوال
(2)
القرية
(3)
.
[الحديث فيه اضطراب كثير]
(4)
.
(1)
المبسوط (1/ 49).
(2)
الجوال: جمع جالة، والجلالة من الحيوان هي التي تأكل العذرة.
(3)
مسند أبي داود الطيالسي (1305).
(4)
في إسناده اختلاف كثير، فمن ذلك إسناد أبي داود الطيالسي، اختلف فيه على شعبة: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فرواه أبو داود الطيالسي كما في إسناد الباب، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1134) عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن بسر، عن ناس من مزينة أن أبجر أو ابن أبجر.
وقوله (ناس من مزينة) مبهمون لا يعرف من هم.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203) من طريق روح بن عبادة، ثنا شعبة به، وفيه: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مزينة حدثوا، عن سيد مزينة الأبجر أو ابن الأبجر، فإن كان محفوظاً فإبهامهم لا يضر إذا ثبتت صحبتهم.
ورواه ابن أبي شيبة (5/ 123) رقم: 24340، وعنه ابن أبي عاصم (1131) عن وكيع، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة، عن غالب بن أبجر. ولم يذكر عبد الله بن بسر.
ورواه مسعر بن كدام، واختلف عليه فيه أيضاً:
فرواه أبو داود (3810)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 203)، والطبراني (18/ 266) رقم 666 من طريق أبي نعيم، عن مسعر، عن عبيد، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة، أحدهما عن الآخر: أحدهما عبد الله بن عمرو بن عويم، والآخر غالب بن الأبجر. قال مسعر: أرى غالباً الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8728) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1133) عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، أن رجلين من مزينة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم
…
وذكر الحديث.
وأخرجه الطبراني في الكبير (18/ 267) من طريق سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن رجل، عن رجلين من مزينة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه الطبراني (18/ 266) رقم 665 من طريق وكيع، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن أناس من مزينة الظاهرة، عن غالب بن الأبجر.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 123) رقم 24338، وابن أبي عاصم (1132)، والطبراني في الكبير (18/ 267) رقم 670، من طريق شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب. =
وذكر الطحاوي عن بعضهم جواباً عن هذا الحديث، فقال:
= وهذا الإسناد يرويه عبيد بن الحسن عن غالب دون واسطة.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (18/ 265) من طريق حفص بن غياث، عن أبي عميس، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن غالب بن أبجر.
قال أبو زرعة: الصحيح حديث شعبة، انظر العلل (2/ 7).
قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 197): وفي إسناده اختلاف كثير: فمنهم من يقول: عن عبيد أبي الحسن. ومنهم من يقول: عبيد بن الحسن. ومنهم من يقول: عن عبد الله بن معقل. ومنهم من يقول: عبد الرحمن بن معقل. ومنهم من يقول: عن ابن معقل وغالب بن أبجر ويقال أبجر بن غالب. ومنهم من يقول: غالب بن ذريح. ومنهم من يقول: غالب بن ذيخ ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة عن غالب بن أبجر. ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يقول: إن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الاختلافات بعضها في معجم الطبراني، وبعضها في مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وبعضها في مسند البزار وقال البزار: ولا يعلم لغالب بن أبجر إلا هذا الحديث وقد اختلف فيه، ثم ذكر الاختلاف على ما تقدم. ثم قال: قال البيهقي في المعرفة: حديث غالب بن أبجر إسناده مضطرب وإن صح فإنما رخص له ثم الضرورة حيث تباح الميتة كما في لفظه انتهى.
وذكر ابن حزم هذا الحديث وقال: هذا كله باطل؛ لأنها من طريق عبد الرحمن بن بشر وهو مجهول، والآخر من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن لويم، وهو مجهول، أو من طريق شريك وهو ضعيف، عن أبي الحسن ولا يدرى من هو، عن غالب بن ديج ولا يدرى من هو، ومن طريق سلمى بنت النضر الخضرية ولا يدرى من هي. اهـ
انظر تحفة الأشراف (11018)، إتحاف المهرة (4، 16241)، وقد نسبه الحافظ فيه إلى المسند، وقد قال محققه: ولم أجده في مسند أحمد مع شدة تتبعي له، وفحصي فيه خاصة، ولا في ترتيبه (الفتح الرباني) ولم يذكره المصنف في أطراف المسند، لا في أبجر بن غالب، ولا غالب بن أبجر، ولا ابن أبجر، ولا عزاه إلى المسند في ترجمته لأبجر في الإصابة أو التهذيب
…
وعزاه ابن كثير في جامع السنن والمسانيد إلى المسند، فالله أعلم.
قد يجوز أن يكون الحمر التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم أكلها في هذا الحديث كانت وحشية، ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنما كرهت لكم جوال القرية على الأهلية
(1)
.
وجواباً آخر: أنه جاء في الحديث قيل للنبي: صلى الله عليه وسلم: إنه قد أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمير، فقال: كلوا من سمين مالكم، فأخبر أن ما كان أباح لهم من ذلك كان في عام سنة فيكون إنما أباحه لهم في حال الضرورة وقد تحل في حال الضرورة الميتة، فليس في هذا الحديث دليل على حكم لحوم الحمر الأهلية في غير حال الضرورة، وقد جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا متواترا في نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية
(2)
.
وهذا جواب قوي لو كان حديث ابن الأبجر صحيحاً، أما إذا كان ضعفه بيناً فلا حاجة لتلمس الجواب عن دليل لا يقوم بنفسه لضعفه، والله أعلم.
(1)
وهذا جواب ضعيف، حيث إن ذكر الحمر جاء في الحديث المذكور مطلقاً، فينصرف غالباً إلى الحمر الأهلية المعتادة، ولو أراد الوحشية لقيده، كما هو المعروف عن الشارع أنه متى أراد غير المعهود قيده بوصفه، والله أعلم.
(2)
شرح معاني الآثار (4/ 203) بتصرف يسير جداً.