الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الرابع
أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح
اختلف العلماء في تطهير الماء عن طريق نزح النجاسة أو نزح بعض الماء حتى يزول التغير، فهل مثل هذا النزح يطهر الماء أو لا؟.
فالحنفية يفرقون بين هذه المسألة وبين المسائل التي قبلها، وذلك لأن النزح غالباً ما يكون لماء البئر، ومسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور يطردون قواعدهم السابقة بين الماء الكثير والماء القليل، وحين كان التفصيل في مذهب الحنفية متشعباً أحببت أن أفصل كل مذهب وأدلته قبل الانتقال إلى القول الثاني، وهكذا.
القول الأول: مذهب الحنفية:
يختلف الحكم عند الحنفية باختلاف البئر، وباختلاف حجم الحيوان، وهل أخرج الحيوان من البئر ميتاً أو حياً، فيمكن لنا نقسيم البئر إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون البئر ليس معيناً - أي ليس في داخلها عين تنبع - والحيوان قد مات في البئر أو وقع فيه ميتاً، وكان الحيوان لم ينتفخ ولم يتفسخ، فالحكم على النحو التالي:
الأول: أن يكون الحيوان بحجم الفأرة والعصفور، فينزح منه عشرون دلواً.
ويستدلون لذلك بما يروى عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر، وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلواً.
[ولم أقف عليه]
(1)
.
(1)
نقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 128)، وقال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي.
الثاني: - أن يكون الحيوان بحجم الدجاجة والسنور، فينزح منها أربعون دلواً إلى خمسين.
(1723 - 251) ويستدلون لذلك بما يروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلواً.
[ولم أقف عليه]
(1)
.
الثالث: أن تكون النجاسة بحجم الشاة، أو تكون آدمياً، أو كلباً، فإنه ينزح ماء البئر كله.
ويستدلون بأدلة منها:
(1724 - 252) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور،
عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم
(2)
.
[إسناده صحيح]
(3)
.
الدليل الثالث:
(1725 - 253) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،
(1)
نقله الزيلعي في نصب الراية (1/ 128)، وقال مثل ما قال عن أثر أنس، قال: قال شيخنا علاء الدين: رواه الطحاوي من طرق، قال الزيلعي: ولم أجده في شرح معاني الآثار للطحاوي.
(2)
المصنف (1/ 150) رقم: 1721.
(3)
سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.
عن ابن عباس أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة
(1)
.
[قتادة لم يسمع من ابن عباس]
(2)
.
الدليل الرابع:
(1726 - 254) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها
(3)
.
[إسناده ضعيف جداً]
(4)
.
الحالة الثانية:
أن يكون البئر ليس مَعِيناً، والنجاسة لا جرم لها، كالبول وكالدابة تتفسخ بعد سقوطها، فهذا يجب نزح البئر كله.
الحالة الثالثة:
أن يخرج الحيوان حياً، وليس ميتاً، فينظر:
فإن كان الحيوان خنزيراً فإن البئر تنزح كلها قولاً واحداً في مذهب الحنفية.
(1)
المصنف (1/ 150) رقم: 1722.
(2)
سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.
(3)
شرح معاني الآثار (1/ 17).
(4)
سبق تخريجه في حكم ميتة الآدمي.
وإن كان الحيوان كلباً، ففيه خلاف مبني على اختلافهم في نجاسة عين الكلب، وقد تقدم تحرير مذهبهم.
وإن كان الحيوان غيرهما، فإن النزح يتوقف على حكم سؤره، فإن كان سؤره نجساً كالسباع، فإن البئر تنزح كلها، وإن كان سؤره مكروهاً استحب النزح، ويلحق به ما كان سؤره مشكوكاً فيه.
على خلاف بينهم في القدر المستحب نزحه، فمن قائل باستحباب نزح البئر كلها، ومنهم من قدره بعدد من الدلاء.
وأما الحيوانات التي سؤرها ليس بنجس، فإن كان عليها نجاسة حقيقية نزح البئر كله، وأما إن كان الحيوان ليس بنجس فلا ينزح البئر، إلا أنه يستحب أن ينزح من وقوع البقر والغنم؛ لعدم خلو أفخاذها وأرجلها من النجاسة.
الحالة الرابعة:
أن يكون البئر معيناً، كلما نزح منها دلو جاء مكانه آخر، فإذا وقعت فيه نجاسة فقد اختلفوا في مقدار ما ينزح منه،
فقيل: ينزح منها مائتا دلو، وهو رواية عن محمد بن الحسن.
وقيل: ينزح منها مائة دلو، وهو رواية عن أبي حنيفة.
وقيل: ينزح منها حتى يغلبهم الماء، ولم يقدِّر حداً للغلبة.
وأجيب عن هذا بعدة أجوبة.
الجواب الأول:
هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب الشافعي وسفيان بن عيينة رحمه الله والنووي وغيرهم.
فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم
(1)
.
قال النووي: فهذا سفيان كبير أهل مكة، قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم ، فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة، ولا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة؟
(2)
.
وقال أيضاً: إن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له ، قال الشافعي: لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا، فقالوا: ما سمعنا هذا
(3)
.
ورد هذا الاعتراض:
بأنه لا يلزم من عدم سماع سفيان لهذا الخبر عدم وقوعه، ثم إن الرواي مثبت، وسفيان نافٍ، والمثبت مقدَّم على النافي، خاصة إذا كان النافي لم يشهد الأمر الذي نفاه، ولم يعاصره، ولا يشترط لقبول الحديث أن يكون راويه من أهل مكة، وقد انتشر الصحابة في الأمصار، فما يبعد أن ينفرد أهل الكوفة أو غيرهم عن مدني أو مكي، والله أعلم.
الجواب الثاني:
هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف السنة المرفوعة،
(1)
المعرفة (1/ 95).
(2)
المجموع (1/ 167).
(3)
المجموع (1/ 167).
(1727 - 255) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج -
عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء
(1)
.
[حديث صحيح بشواهده]
(2)
(1728 - 256) وروى أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء "
(3)
.
[سبق تخريجه]
(4)
.
الجواب الثالث:
أن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه،
(1729 - 257) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء،
عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً
(5)
.
(1)
المسند (3/ 31).
(2)
انظر حديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.
(3)
المسند (1/ 308).
(4)
انظر الحديث رقم (8) من كتاب أحكام الطهارة.
(5)
المصنف (2/ 469)، وسبق تخريجه، انظر في أحكام الميتة: حكم ميتة الآدمي.
وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن سقوطه في البئر سبباً في تنجيس البئر.
الجواب الرابع:
ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، فقد يكون دمه غلب على الماء، فغير لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك.
(1730 - 258) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس،
عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم
(1)
.
فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة.
الجواب الخامس:
أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع، فما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل.
وقد نقل الحنفية عن محمد قوله: " اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الماء الجاري؛ لأنه ينبع من أسفله، ويؤخذ من أعلاه، فلا ينجس
(1)
صحيح البخاري (235).