الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفاسد يبكي لها الإِسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكُفّار للأصنام، وعَظُم ذلك، فظنّوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربّهم، وشدُّوا إِليها الرحال وتمسحوا واستغاثوا.
وبالجملة: إِنّهم لم يَدَعُوا شيئاً ممّا كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إِلا فعلوه! فإِنّا لله وإنا إِليه راجعون!
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع؛ لا نجد من يغضب لله، ويغار حميّة للدين الحنيف، لا عالماً ولا مُتعلماً، ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً، وقد توارد إِلينا من الأخبار ما لا يُشّك معه أنّ كثيراً من هؤلاء القُبوريين أو أكثرهم -إِذا توجّهت عليه يمين من جهة خصْمِه- حلف بالله فاجراً، فإِذا قيل له بعد ذلك: احلِف بشيخك ومعتقدك الوليّ الفلاني! تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحقّ!
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أنّ شركهم قد بلغ فوق شرك من قال:
إِنّه -تعالى- ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة
(1).
فيا عُلماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أيُّ رُزْءٍ للإِسلام أشدُّ من الكفر؟! وأيُّ بلاء لهذا الدين أضرُّ عليه من عبادة غير الله؟! وأيّ مصيبة يُصاب بها
(1) وهذا هو قول أهل السّنة والجماعة: أن المرء يكفُر بالفعل، وأنّ الفعل بذاته كُفر يدلّ على كُفر الباطن، لا كما تقوله المرجئة: أن الفعل ليس بكفر، لكنهَ يدلّ على كفر الباطن! وهذا من نقولات شيخنا رحمه الله القديمة التي تدلّ على نقضه عقيدة المرجئة وسائر العقائد الباطلة ونَصْرِه عقيدةَ السلف الصالح ومنهجهم، فرَحمه الله -تعالى- وجمعنا به مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأيّ منكرٍ يجب إِنكاره إِنْ لم يكن إِنكار هذا الشرك واجباً؟!
لقد أسمعتَ لو ناديت حيّاً
…
ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءَتْ
…
ولكن أنت تنفخ في رَمادِ".
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة فتُحرِقَ ثيابه، فتَخْلُصَ إِلى جلده: خير له من أن يجلس (وفي رواية: يطأ) على قبر"(1).
الخامس: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي (2): أحبُّ إِليّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السّوق (3) "(4).
السادس: عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إِليها"(5).
(1) أخرجه مسلم: 971، وغيره.
(2)
الخصف: الخرز، والمراد أنّه صعب شديد.
(3)
يريد أنهما في القبح سيّان، فمن أتى بأحدهما؛ فهو لا يبالي بأيهما أتى، قاله السندي في "شرح ابن ماجه"(1/ 474).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1273).
(5)
أخرجه مسلم: 972.
7 -
الصلاة إِلى القبور؛ للحديث المتقدّم آنفاً: "لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلّوا إِليها".
قال شيخنا رحمه الله (ص 269): "وفيه دليل على تحريم الصلاة إِلى القبر؛ لظاهر النهي". انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى"(24/ 321): "وأمّا التمسُّح بالقبر، أو الصلاة عنده، أو قصْده لأجل الدعاء عنده، مُعتقِداً أنّ الدعاء هناك من الدعاء في غيره، أو النذر له ونحو ذلك؛ فليس هذا من دين المسلمين؛ بل هو مما أُحدث من البدع القبيحة، التي هي من شُعب الشرك، والله أعلم وأحكم".
8 -
الصلاة عندها ولو بدون استقبال، وفيه أحاديث:
الأوّل: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلها مسجد؛ إِلا المقبرة والحمام" (1).
الثاني: عن أنس رضي الله عنه " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور"(2).
الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً"(3).
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(463)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي"(262)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(606).
(2)
أخرجه البزار وغيره، وقال الهيثمي في "المجمع":"ورجاله رجال الصحيح".
(3)
أخرجه البخاري: 432، ومسلم:777.
الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بُيوتكم مقابر؛ إِنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"(1).
قال شيخنا رحمه الله (ص 271): "وقد ترجم البخاري للحديث الثالث بقوله: "باب كراهية الصلاة في المقابر".
وقال شيخنا رحمه الله (ص 274): " [و] كراهة الصلاة في المقبرة تشمل كلّ مكان منها؛ سواءً كان القبر أمام المُصلّي، أو خلفه، أو عن يمينه، أو عن يساره؛ لأنّ النهي مُطلق، ومن المقرّر في علم الأصول أن المطلق يجري على إِطلاقه حتى يأتي ما يُقيّده، ولم يَرِد هنا شيء من ذلك.
وقد صرح بما ذكرنا بعض فقهاء الحنفية وغيرهم كما يأتي، فقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص 25): "ولا تصحُّ الصلاة في المقبرة ولا إِليها، والنهي عن ذلك إِنما هو سدّ لذريعة الشّرك، وذكر طائفة من أصحابنا أنّ القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنّه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً!
وليس في كلام أحمد وعامّة أصحابه هذا الفرق؛ بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كلّ ما قُبر فيه، لا أنّه جمع قبر.
وقال أصحابنا: وكلُّ ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يُصلّى فيه، فهذا يعيَّن أنّ المنع يكون مُتناولاً لحرمة القبر المنفرد وفِنائه المضاف إِليه.
وذكر الآمديّ وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه -أي: المسجد الذي قبلته إِلى
(1) أخرجه مسلم: 780، وتقدّم.
القبر- حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد".
9 -
بناء المساجد عليها؛ وفيه أحاديث:
الأوّل: عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: "لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طفِق (1) يَطرَحُ خَمِيصةً (2) على وجهه، فإِذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذّرُ ما صنعوا"(3).
الثاني: عن عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً؟ قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره؛ غير أنّي أخشى أنْ يُتَّخَذَ مسجداً"(4).
الثالث: عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثَناً، لعَن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(5).
الرابع: عن عائشة رضي الله عنها: أنّ أمّ حبيبة وأمّ سَلَمة ذكرتا كنيسةً
(1) طَفِق -بكسر الفاء وفتحها-؛ أي: جعل، والكسر أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن. "شرح النووي".
(2)
الخميصة: كساء له أعلام.
(3)
أخرجه البخاري: 3453، 3454، ومسلم:531.
(4)
أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 929، وتقدّم بعضه غير بعيد.
(5)
أخرجه أحمد، وابن سعد في "الطبقات"، وأبو يعلى، والحميدي، وأبو نعيم في "الحلية" بإِسناد صحيح.
رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إِنّ أولئك إِذا كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصّور، فأولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة"(1).
قال شيخنا رحمه الله (ص 279): "وهي تدلّ دلالة قاطعة على أنّ اتّخاذ القبور مساجد حرام؛ لما فيها من لعن المتّخذين، ولذلك قال الفقيه الهيتمي في "الزواجر" (1/ 120 - 121): "الكبيرة الثالثة والتّسعون: اتخاذ القبور مساجد"؛ ثمّ ساق بعض الأحاديث المتقدّمة -وغيرها مما ليس على شرطنا- ثمّ قال: "وعدُّ هذه من الكبائر؛ وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنّه أخذ ذلك ممّا ذكره من هذه الأحاديث، ووجهه واضح؛ لأنّه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صُلحائه شرّ الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية:"يحذّر ما صنعوا"، أي: يُحذّر أمّته -بقوله لهم ذلك- من أنْ يصنعوا كصنع أولئك، فيُلعَنُوا كما لُعِنُوا ..
قال بعض الحنابلة: قَصْدُ الرّجل الصلاةَ عند القبر متبركاً بها: عين المُحادَّة لله ورسوله، وإيداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها، ثمّ إِجماعاً؛ فإِنّ أعظم المحرمات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتّخاذها مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إِذ لا يظنُّ بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إِذ هي أضر من مسجد الضّرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه نهى عن ذلك، وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إِزالة كلّ قنديل أو
(1) أخرجه البخاري: 427، ومسلم:528.
سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره". انتهى كلام شيخنا رحمه الله.
وجاء في "مجموع الفتاوى"(17/ 463): " .. كذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قُبِر في مسجدٍ وقد طال مكثه؛ سُوَّيَ القبر حتى لا تظهر صورته؛ فإِن الشرك إِنما يحصل إِذا ظهرت صورته، ولهذا كان مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أولا مقبرة للمشركين، وفيها نخل وخَرِبٌ، فأمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطع، وبالخرب فسويت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجداً".
قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "هذا .. والاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدّمة يشمل عدّة أمور:
الأول: الصلاة إِلى القبور مُستقبلاً لها.
الثاني: السّجود على القبور.
الثالث: بناء المساجد عليها.
والمعنى الثاني ظاهر من الاتّخاذ، والآخران -مع دخولهما فيه- فقد جاء النصُّ عليهما في بعض الأحاديث المتقدّمة".
10 -
اتخاذها عيداً، تُقصد في أوقات معينة، ومواسم معروفة للتعبد عندها أو لغيرها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قُبوراً، وحيثما كنتم فصلّوا عليّ؛ فإِنّ صلاتكم تبلغني"(1).
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(1796)، وأحمد بإسناد حسن، وهو على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز"(ص 280).
قال شيخنا رحمه الله (ص 284): "وممّا يدخل في ذلك دخولاً أوّلياً: ما هو مشاهد اليوم في الدينة [النبوية]، من قصد الناس -دُبُرَ كلّ صلاة مكتوبة- قبر- النّبيّ صلى الله عليه وسلم للسلام عليه والدُّعاء عنده وبه، ويرفعون أصواتهم لديه، حتى ليضجّ المسجد بهم، ولا سيّما في موسم الحجّ، حتى لكأنّ ذلك من سنن الصلاة! بل إِنهم يحافظون عليه أكثر من محافظتهم على السّنن! وكلّ ذلك يقع على مرأىً ومسمعٍ من ولاة الأمر، ولا أحد منهم يُنكر، فإِنّا لله وإنّا إِليه راجعون! وأسفاً على غُربة الدين وأهله، وفي مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي أن يكون أبعد المساجد -بعد المسجد الحرام- عمّا يخالف شريعته عليه الصلاة والسلام".
وقال شيخنا رحمه الله (ص 285): "ويجوز لمن بالمدينة إِتيان القبر الشريف للسلام عليه صلى الله عليه وسلم أحياناً؛ لأنّ ذلك ليس من اتخاذه عيداً؛ كما هو ظاهر.
والسلام عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهما مشروع بالأدلة العامة، فلا يجوز نفي المشروعية مطلقاً لنهيه صلى الله عليه وسلم عن اتّخاذ قبره عيداً؛ لإِمكان الجمع بملاحظة الشّرط الذي ذكَرْنا.
ولا يَخْدِجُ عليه أننا لا نعلم أنّ أحداً من السلف كان يفعل ذلك؛ لأنّ عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما يقول العلماء، ففي مثل هذا؛ يكفي لإِثبات مشروعيته الأدلة العامّة؛ ما دام أنّه لا يثبت ما يُعارضها فيما نحن فيه.
على أنّ شيخ الإِسلام قد ذكر في "القاعدة الجليلة"(ص 80 - طبع المنار) عن نافع أنه قال: كان ابن عمر يُسلم على القبر، رأيته -مائة مرة أو أكثر-
يجيء إِلى القبر فيقول: السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثمّ ينصرف؛ فإِنّ ظاهره أنّه كان يفعل ذلك في حالة الإِقامة لا السفر؛ لأنّ قوله:"مائة مرة"؛ ممّا يُبعد حمل هذا الأثر على حالة السفر".
11 -
السفر إِليها؛ وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشدّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"(1).
الثاني: عن أبي بَصْرَةَ الغِفَاري: أنه لقي أبا هريرة وهو جاءٍ من الطُّور، فقال: من أين أقبلْتَ؟ قال: أقبلت من الطُّور، صلّيت فيه.
قال: أما إِنّي لو أدركتك لم تذهب إِنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُشدُّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"(2).
قال شيخنا رحمه الله: "ومّما يَحْسُنُ التنبيه عليه
…
أنّه لا يدخل في النهي السّفر للتجارة وطلب العلم؛ فإِنّ السّفر إِنّما هو لطلب تلك الحاجة حيث كانت، لا لخُصوص المكان، وكذلك السّفر لزيارة الأخ في الله؛ فإِنّه ليس هو المقصود، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى"(2/ 186) ".
12 -
إِيقاد السُّرُجِ عندها؛ والدليل على ذلك عدّة أمور:
أولاً: كونه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل
(1) أخرجه البخاري: 1189.
(2)
أخرجه الطيالسي، وأحمد، -والسياق له- وغيرهما، وإسناده صحيح.
بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار" (1).
ثانياً: أنّ فيه إِضاعة للمال، وهو منهيٌّ عنه، كما في حديث المغيرة بن شعبة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"(2).
ثالثاً: أنّ فيه تشبهاً بالمجوس عُبّاد النار، قال ابن حجر الفقيه في "الزواجر" (1/ 134):"صرّح أصحابُنا بحرمة السّراج على القبر وإِنْ قلّ؛ حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعلّلوه بالإِسراف، وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس، فلا يبعد في هذا أن يكون كبيرة".
قال شيخنا رحمه الله (ص 294): "ولم يورد -بالإِضافة إِلى ما ذكر من التعليل- دليلنا الأوّل، مع أنه دليل وارد، بل لعلّه أقوى الأدلة؛ لأنّ الذين يوقدون السّرج على القبور إِنما يقصدون بذلك التقرّب إِلى الله -تعالى زعموا! - ولا يقصدون الإِنارة على المقيم، بدليل إِيقادهم إِياها والشمس طالعة في رابعة النهار! فكان من أجل ذلك بدعة ضلالة".
13 -
كسر عظامها:
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حيّاً"(3).
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي"(1487)، وابن خزيمة في "صحيحه" بسند صحيح، وتقدّم.
(2)
أخرجه البخاري: 1477، ومسلم: 1715، وتقدّم.
(3)
أخرجه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2746)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1310)، وغيرهم وتقدّم.
قال شيخنا رحمه الله (ص 296): "والحديت دليل على تحريم كسر عظم الميت المؤمن، ولهذا جاء في كتب الحنابلة: "ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإِتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به". كذا في "كشّاف القناع" (2/ 127). ونحو ذلك في سائر المذاهب، بل جزم ابن حجر الفقيه في "الزّواجر" (1/ 134) بأنّه من الكبائر، قال: "لما علمت من الحديث أنه ككسر عظم الحيّ".
قال شيخنا رحمه الله (ص 297): ويستفاد من الحديث السابق شيئان: الأول: حُرمة نبش قبر المسلم؛ لما فيه من تعريض عظامه للكسر، ولذلك كان بعض السلف يتحرّج من أن يُحفر له في مقبرة يكثر الدفن فيها، قال الإِمام الشافعي في "الأم" (1/ 245):"أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما أُحبُّ أن أُدفن بالبقيع! لأنْ أُدفن في غيره أحبُّ إِليّ؛ إِنّما هو أحد رجلين: إِمّا ظالم؛ فلا أُحبُّ أن أكون في جواره، وأمّا صالح؛ فلا أُحبُّ أن ينبش في عظامه، قال: وإِنْ أُخرجت عظام ميّت أحببت أن تعاد فتدفن".
وقال النووي في "المجموع"(5/ 303) ما مختصره: "ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق (في المسألة: 109)، ومختصره: "أنه يجوز نبش القبر إِذا بلي الميت وصار تُراباً، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كلّه إِذا لم يَبْقَ للميت أثر من عظم وغيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأرض، ويعتمد فيه قول
أهل الخبرة بها".
قلت [أي: شيخنا رحمه الله]: ومنه تعلم تحريم ما ترتكبه بعض الحكومات الإِسلامية من درس بعض المقابر الإِسلامية ونبشها؛ من أجل التنظيم العمراني، دون أي مبالاة بحرمتها، أو اهتمام بالنهي عن وطئها وكسر عظامها ونحو ذلك!
ولا يتوهّمنّ أحد أنّ التنظيم المشار إِليه يُسوغّ مثل هذه المُخالفات! كلا؛ فإِنّه ليس من الضّروريّات، وإنما من الكماليات التي لا يجوز بمثلها الاعتداء على الأموات، فعلى الأحياء أن يُنظِّموا أمورهم، دون أن يؤذوا موتاهم.
ومن العجائب التي تلفت النّظر: أن ترى هذه الحكومات تحترم الأحجار والأبنية القائمة على بعض الموتى أكثر من احترامها للأموات أنفسهم؛ فإِنّه لو وقف في طريق التنظيم المزعوم بعض هذه الأبنية -من القباب أو الكنائس ونحوها-؛ تركتها على حالها، وعدّلت من أجلها خارطة التنظيم؛ إِبقاءً عليها؛ لأنّهم يعتبرونها من الآثار القديمة!
وأمّا قبور الموتى أنفسهم؛ فلا تستحق عندهم ذلك التعديل! بل إِنّ بعض تلك الحكومات لتسعى -فيما علمنا- إِلى جعل القبور خارج البلدة، والمنع من الدفن في القبور القديمة؛ وهذه مخالفة أخرى في نظري؛ لأنها تُفوِّت على المسلمين سُنّة زيارة القبور؛ لأنّه ليس من السّهل على عامّة الناس أن يقطع المسافات الطويلة حتى يتمكن من الوصول إِليها، ويقوم بزيارتها والدّعاء لها!
والحامل على هذه المُخالفات -فيما أعتقد-: إِنّما هو التقليد الأعمى لأوروبّا الماديّة الكافرة، التي تريد أن تقضي على كلّ مظهر من مظاهر الإِيمان
بالآخرة، وكلّ ما يذكّر بها، وليس هو مراعاةَ القواعد الصِّحّيّة كما يزعمون! ولو كان ذلك صحيحاً؛ لبادروا إِلى مُحاربة الأسباب التي لا يشكُّ عاقل في ضررها، مثل بيع الخمور وشربها، والفسق والفجور؛ على اختلاف أشكاله وأسمائه، فعدم اهتمامهم بالقضاء على هذه المفاسد الظاهرة، وسعيُهم إِلى إِزالة كلّ ما يُذكّر بالآخرة وإِبعادها عن أعينهم: أكبر دليل على أنّ القصد خلاف ما يزعمون ويعلنون، وما تُكنّه صدورهم أكبر.
الثاني: أنه لا حرمة لعظام غير المؤمنين؛ لإِضافة العظم إِلى المؤمن في قوله: "عظم المؤمن"، فأفاد أنّ عظم الكافر ليس كذلك، وقد أشار إِلى هذا المعنى الحافظ في "الفتح" بقوله:"يُستفاد منه أنّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته".
ومن ذلك يُعرف الجواب عن السؤال الذي يتردّد على ألسنة كثيرٍ من الطُّلاّب في كلّيّات الطب، وهو: هل يجوز كسر العظام لفحصها وإِجراء التحرّيات الطبية فيها؟
والجواب: لا يجوز ذلك في عظام المؤمن، ويجوز في غيرها. ويؤيده ما يأتي في المسألة التالية:
يجوز نبش قُبور الكفار؛ لأنّه لا حرمة لها؛ كما دلَّ عليه مفهوم الحديث السابق، ويشهد له حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل أعلى المدينة في حيّ -يقال لهم: بنو عمرو بن عوف- فأقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثمّ أَرسل إِلى بني النجّار، فجاءوا متقلّدي السيوف، كأنّي أنظر إِلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رِدْفَهُ وملأُ بني النجار
حوله، حتى ألقى (1) بفِناء (2) أبي أيوب، وكان يُحبّ أن يصلّي حيث أدركته الصلاة، ويُصلّي في مرابض الغنم (3)، وإنّه أمر ببناء المسجد، فأرسل إِلى ملإٍ من بني النجار: ثامنوني (4) بحائطكم هذا. قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إِلا إِلى الله.
فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب (5)، وفيه نخل، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبِشَتْ، ثمّ بالخَرب فسُوِّيَتْ، وبالنخل فقُطِع، فصفّوا النخل قِبلة المسجد، وجعلوا عِضادتيه (6) الحجارة، وجعلوا ينقلون الصّخر وهم يرتجزون، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول:
اللهم لا خيرَ إِلا خيرُ الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجِرَة" (7).
عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كسر عظم الميت
(1) أي: ألقى رحله.
(2)
هو الناحية المتسعة أمام الدار.
(3)
مرابض الغنم: هي مباركها ومواضع مبيتها ووضْعها أجسادها على الأرض للاستراحة، وتقدّم معناها في "كتاب الطهارة".
(4)
ثامنوني؛ أي: اذكروا لي ثمنه؛ لأذكر لكم الثمن الذي أختاره، قال ذلك على سبيل المساومة. "فتح".
(5)
خَرِب؛ قال القاضي: رُوِّيناه هكذا؛ ورويناه بكسر الخاء وفتح الراء، وكلاهما صحيح، وهو ما تخرّب من البناء. "شرح النووي".
(6)
العِضادة -بكسر العين-: هي جانب الباب.
(7)
أخرجه البخاري: 428، ومسلم:524.