الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يجوز لنا أن نخرج عن موضوعية البحث العلمي، أو أن يُفضي الأمر بنا إِلى الخصومة والعداء؛ فإِنّ المراد هو وجه الله -تعالى- عند القائلين بأيّ رأيٍ من الرأيَيْن، وهو بين الأجر والأجرين، فلا يجوز أن نتخطّى دائرة الأجر والأجرين إِلى الإِثم، أو ما يبلغنا إِليه! ونسأل الله الهدى والسداد.
ثمّ يأتي المشعر الحرام (وهو جبل في المزدلفة)، فيرقى عليه ويستقبل القبلة، فيحمد الله ويكبّره ويهلّله ويوحّده ويدعو، ولا يزال كذلك حتى يُسفر (1) جدّاً.
عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل: "أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثمّ اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإِقامة، ثمّ ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (2)، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبّره وهلله ووحدّه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدّاً، فدفع قبل أن تطلع الشمس"(3).
فضل الوقوف في المشعر الحرام:
روى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: "وقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بـ (عرفات) وقد كادت الشمس أن تؤوب؛ فقال: يا بلال! أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنصت الناس
(1) الإِسفار: إِضاءة الفجر إِضاءة تامّة.
(2)
جبل معروف في المزدلفة.
(3)
أخرجه مسلم: 1218، وتقدّم.
فقال: معاشر الناس. أتاني جبرائيل آنفاً، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إِنّ الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر ابن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إِلى يوم القيامة. فقال عمر بن الخطاب: كثُر خير الله وطاب" (1)!
هل التحصِيب (2) سُنّة؟
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "من السّنّة النزول بـ (الأبطح) (3) عشية النَّفْر"(4).
قال شيخنا رحمه الله في "الصحيحة" تحت الحديث (2675): ولقد بادرت إِلى تخريج هذا الحديث فور حصولي على نسخة مصوّرة من "المعجم الأوسط" لعزّته، وقلّة من أورده من المخرجين وغيرهم، ولكونه شاهداً قوياً لما
(1) انظر "صحيح الترغيب والترهيب"(1151)، وتقدّم.
(2)
التحصيب: النزول بـ (المحصَّب) وهو الشعب الذي مخرجه إِلى الأبطح بين مكة ومنى. وهو أيضاً (خيف بني كنانة). قاله شيخنا رحمه الله في "الصحيحة".
وقال الخطابي رحمه الله: التحصيب: هو أنّه إذا نفَر من منى إِلى مكة للتوديع؛ يقيم بالمحصّب حتى يهجع به ساعة ثم يدخل مكّة. "عمدة القارئ"(10/ 100).
وقال النووي رحمه الله: والمحصّب والحصْبة والأبطح والبطحاء وخَيْف بني كنانة اسم لشيء واحد.
(3)
الأبطح: يعني أبطح مكّة، وهو مسيل واديها، ويجمع على البطاح والأباطح، ومنه قيل: قريش البطاح، هم الذين ينزلون أباطح مكّة وبطحاءها. "النهاية".
(4)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وانظر "الصحيحة"(2675).
رواه مسلم (4/ 85) عن نافع أنّ ابن عمر كان يرى التحصيب سنّة.
فكأنّ ابن عمر تلقّى ذلك من أبيه رضي الله عنهما فتقوّى رأيه بهذا الشاهد الصحيح عن عمر.
وليس بخافٍ على أهل العلم أنّه أقوى في الدلالة على شرعية التحصيب من رأي ابنه؛ لما عُرف عن هذا من توسّعه في الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى في الأمور التي وقعت منه صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ذكر بعضها المنذري في أول "ترغيبه" بخلاف أبيه عمر كما يدلّ على ذلك نهيه عن اتباع الآثار، فإِذا هو جزم أنّ التحصيب سنّة؛ اطمأن القلب إِلى أنه يعني أنّها سنّة مقصودة أكثر من قول ابنه بذلك، لا سيّما ويؤيّده ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى: "نحن نازلون غداً بخيفٍ بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر".
وذلك أنّ قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلّموا إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني بذلك التحصيب. والسياق لمسلم. قال ابن القيم في "زاد المعاد": "فقصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إِظهار شعائر الإِسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله. وهذه كانت عادته -صلوات الله وسلامه عليه-: أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك كما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبني مسجد الطائف موضع اللات والعزّى".
وأما ما رواه مسلم عن عائشة أنّ نزول الأبطح ليس بسنّة، وعن ابن عباس
أنّه ليس بشيء (1)، فقد أجاب عنه المحقّقون بجوابين:
الأول: أنّ المثبت مقدّم على النافي.
والآخر: أنّه لا منافاة بينهما، وذلك أنّ النافي أراد أنّه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، والمثبت أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم، لا الإِلزام بذلك، قال الحافظ عقبه (3/ 471):
"ويستحب أن يصلّي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل كما دلّ عليه حديث أنس وابن عمر".
قلت -أي: شيخنا رحمه الله: وهما في "مختصري لصحيح البخاري"(كتاب الحج/83 - باب و 148 - باب). انتهى.
وجاء في "الفتح"(3/ 591): "وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان بن يسار. عن أبي رافع قال: "لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت فضربْتُ قبته فجاء فنزل".
لكن لما نزله النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحباً اتباعاً له لتقريره على ذلك، وقد فعَله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال:"كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح"، وسيأتي للمصنف في الباب الذي يليه (2) لكن ليس فيه ذكر أبي بكر، ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنّة، قال
(1) أي: ليس بنُسك من مناسك الحجّ كما قال عدد من العلماء.
(2)
أي: باب 148 - باب النزول بذي طوُى والنزول بالبطحاء
…