الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكم ذلك:
وأريد أن أفرّق بين حُكم المبيت بالمزدلفة -وهو واجب على الراجح من أقوال العلماء؛ ومن العلماء من يرى الركنية-؛ وبين حُكم صلاة الفجر -والذي نحن بصدده-.
فأقول -وبالله تعالى أستعين-:
جاء في "زاد المعاد"(2/ 253) في ذِكر من يرى ركنية المبيت في المزدلفة: " .. وهو مذهب اثنين من الصحابة، ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهم. وإِليه ذهب إِبراهيم النّخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، وهو مذهب الأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان (1)، وداود الظاهري، وأبي عُبيد القاسم بن سلاّم، واختاره المحمّدان: ابن جرير وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية (2). انتهى.
وكذا ابن العربي المالكي (3).
ويرى ابن حزم رحمه الله ركنية صلاة الفجر.
وقال لي شيخنا رحمه الله في بعض الإِجابات:
"نحن لا نقول بركنية المبيت، نحن نقول بركنية صلاة الفجر ووجوب
(1) وذكر الحافظ ابن العربي المالكي رحمه الله: الثورىَّ في "عارضة الأحوذي"(4/ 118).
(2)
منهم القفّال. قاله ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة البقرة الآية (198).
(3)
انظر "عارضة الأحوذي"(4/ 118).
المبيت، يجب التفريق بين الأمرين، والحديث الواضح الصريح: أنّه مَن صلّى صلاتنا هذه" معنا في جمع، وكان قد وقف على عرفة ساعةً من الليل أو النهار؛ فقد تمّ حجُّه وقضى تَفَثَهُ"(1). فجعل صلاة الصبح في مزدلفة والوقوف في عرفة أوّلاً شيئاً واحداً؛ ثمّ رتَّب على مجموع الأمرين بأنّه قد تمّ حَجُّهُ.
ومعنى ذلك: أنّه إِذا أخلّ بأحد الأمرين المذكورين في هذا الحديث الصحيح؛ فحجّه لم يتمّ". انتهى.
أقول: صلاة الفجر في المزدلفة لغير النساء والضعفة رُكن على الراجح، والله أعلم، وذلك لقول الله تعالى:{فاذكروا الله عند المشعر الحرام} ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم"(2).
ولحديث عروة بن مضرِّس رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف -يعني: الجمع- قلت: يا رسول الله! من جبل طَيءٍ، أكللت مَطِيَّتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حَبْل (3) إِلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو
(1) ذكر شيخنا رحمه الله حديث عروة بن المضرِّس بمعناه، وسيأتي في الصفحة الآتية إِن شاء الله تعالى.
(2)
تقدّم تخريجه.
(3)
حَبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه. وقيل: الحبال في الرمل؛ كالجبال في غير الرمل". "النهاية". وفي بعض النسخ (جبل) بالجيم.
نهاراً؛ فقد تمّ حجُّه، وقضى تفَثه (1) " (2).
وفي لفظ: "من أدرك جمْعاً مع الإِمام والناس حتى يُفيض منها؛ فقد أدرك الحج، ومن لم يُدرك مع الناس والإِمام؛ فلم يُدرك"(3).
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(2/ 253) -بعد حديث عروة بن المضرّس رضي الله عنه: "وبهذا احتجّ من ذهب إِلى أنّ الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة
…
" ثمّ ذكر من يرى هذا من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وقال: ولهم ثلاث حجج، هذه إحداها.
والثانية: قوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (4).
والثالثة: فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرَج مخرج البيان لهذا الذّكر المأمور به.
حُجج من يرد على الركنية:
*1 - احتج بعضهم بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".
ويرد عليهم:
(1) التفَث: هو ما يفعله المحرم بالحج إِذا حلّ؛ كقص الشارب، والأظفار، ونتْف الإِبط، وحلق العانة. وقيل: هو إِذهاب الشعَث والدَّرَن والوسخ مطلقاً. "النهاية".
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(1718)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي"(707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2442)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"(2845).
(3)
أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي"(2846).
(4)
البقرة: 198.
أ- أنّ عندهم فرائض يبطل الحجّ بتركها سوى عرفة؛ كترك الإِحرام، وترك طواف الإِفاضة، وترك الصفا والمروة.
ب- ليس قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" بمانع من أن يكون غيرُ عرفة الحجَّ أيضاً، إِذا جاء بذلك نصّ، وقد قال تعالى:{ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إِليه سبيلاً} (1)؛ والبيت غير عرفة بلا شكّ.
.. وقد قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إِلى الناس يوم الحج الأكبر} (2).
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم النحر؛ ولا يكون يوم الحج الأكبر إِلا وغيره يوم الحج الأصغر، ومحال ممتنع أن يكون هو يوم الحج الأكبر ولا يكون فيه من فرائض الحج شيء، ويكون فرض الحج في غيره.
فصحّ أن جملة فرائض الحج الأكبر، وهي الوقوف بمزدلفة الذي لا يكون في غيره، ورمي الجمرة، والإفاضة؛ وقد يكونان فيما بعده كما عرفة فيما قبله* (3).
وذكر ابن حزم رحمه الله في "المحلّى"(7/ 170) بإِسناده إِلى ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: "من أفاض من عرفة؛ فلا حجّ له".
وقال (ص 171): "وقد ذكرنا عن ابن الزبير أنّه كان يقول في خطبته: ألا
(1) آل عمران: 97.
(2)
التوبة: 3.
(3)
ما بين نجمتين من "المحلّى"(7/ 169) بتصرّف.
لا صلاة إِلا بجمع! فإِذا أبطل الصلاة إِلا بمزدلفة؛ فقد جعَلها من فرائض الحج.
ومن طريق شعبة عن داود بن يزيد الأزدي عن أبي الضحى قال: سألت علقمة عمن لم يدرك عرفات أو جمعاً أو وقع بأهله يوم النحر قبل أن يزور؟ فقال: عليه الحج.
ومن طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إِبراهيم النخعي قال: كان يقال: من فاته جمع أو عرفة؛ فقد فاته الحج.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: من فاته عرفة أو جمع أو جامع قبل أن يزور؛ فقد فسد حجه.
ومن طريق سفيان الثوري أيضاً عن عبد الله بن أبي السَّفَرِ عن الشعبي أنه قال: من فاته جمع؛ جعلها عمرة.
وعن الحسن البصري: من لم يقف بجمع؛ لا حجّ له.
وعن حمّاد بن أبي سليمان قال: من فاته الإِفاضة من جمع؛ فقد فاته الحج؛ فليحلّ بعمرة ثمّ ليحج من قابل.
ومن طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، ألا ترى أنه إِذا فاته عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فاته الحج؟!
قال أبو محمد: صدق سعيد؛ لأنّ من فاتته عرفة يوم عرفة؛ لم يفته الحج؛ لأنّه يقف بعرفة ليلة النحر يوم النحر؛ وأمّا يوم النحر فإِنما سماه الله تعالى:
{يوم الحج الأكبر} (1)؛ لأنّ فيه فرائض ثلاثاً من فرائض الحج، وهو الوقوف بمزدلفة لا يكون جازئاً إِلا غداة يوم النحر، وجمرة العقبة وطواف الإِفاضة؛ ويجوز تأخيره؛ فصح أن مزدلفة أشد فروض الحج تأكيداً وأضيقها وقتاً؛ وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا.
2 -
واحتجّ بعضهم بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مدّ وقت الوقوف بعرفة إِلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أنّ من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان صحّ حجّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركناً؛ لم يصحّ حجّه (2).
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(2/ 254): "وأمّا توقيت الوقوف بعرفة إِلى الفجر؛ فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكون تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات (3)، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة".
3 -
واحتجّ بعضهم بأنّه لو كان ركناً لاشترك فيه الرجال والنّساء، فلمّا قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل؛ عُلم أنه ليس بركن! فأقول:
(1) التوبة: 3.
(2)
قلت: وإذا قلنا بركنية صلاة الفجر دون ركنية المبيت لأهل القوّة؛ في حال يضيق عليه الوقت؛ فإِنه يتمكن من الجمع بين الوقوف في عرفة قبل الفجر وشهود صلاة الفجر بالمزدلفة. وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمْع؛ فقد تمّ حجّه". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(1717)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"(2822)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي"(705)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2441)، وانظر "الإِرواء"(1064).
(3)
يعني: كوقت آخر الظهر وأول العصر مثلاً.
أ- قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(2/ 254): "وفي [هذا] نظر؛ فإِنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إِنما قدّمهنّ بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة؛ والواجب هو ذلك".
ب- إِنما يكون الأمر بحسب القدرة؛ فعند الضعف يكون التخفيف أو رفع التكليف، فالقيام في الصلاة من أركانها؛ كما في قوله تعالى:{وقوموا لله قانتين} (1).
وفي الحديث: "صلِّ قائماً، فإِن لم تستطِع فقاعداً
…
" (2).
*4 - وأجابوا .. عن حديث عروة: بأنّ الإِتمام يكون على وجوه: تارة يكون إِتماماً لا يصح الشيء إِلا به، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء بدونه مع التحريم، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء به مع نفي التحريم، والمراد بالإِتمام في حديث عروة بالنسبة للمزدلفة: إِتمام الواجب الذي تصح العبادة بدونه، وهذا هو رأي الجمهور* (3).
فأقول:
1 -
ما هو الدليل على هذا الاختيار في تفسير مدلول الإِتمام؛ فإِن هذا يتقرّر من خلال مجموع أفراد المسائل الأُخرى! وقد بيّنت الردّ عليها.
2 -
إِن النّبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر كلّ أعمال الحج حتى يقال هذا القول فإِنّه لم
(1) البقرة: 238.
(2)
تقدّم تخريجه.
(3)
ما بين نجمتين عن كتاب "الشرح الممتع"(7/ 415) للشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.
يذكر إِلا شهود صلاة الفجر والوقوف بعرفة، فبهما يتمّ الحج ويُقضى التفث، والحاج مُعرَّض للتمام الذي يصحّ الحج به؛ سواءً أكان مع التحريم أو بدونه؛ بالأعمال التي تأتي بعد هذه العبارة.
ج- إِنّ الله -تعالى- قد أوجب على الرجال أموراً لم يوجبها على النساء؛ كصلاة الجمعة والجماعة
…
فإِن قالوا: لكن هناك البدل والمبدل منه.
قلنا: فالجهاد؟! وما الدليل على البدل والمبدل منه؟
فهذه أمور تُستقرأ من النصوص ولا تُؤصّل.
والحاصل أنّ هناك أموراً يسقط وجوبها بالكلية، وهناك من الأمور ما يكون فيه البدل منه.
أقول: إِنّ تقديم ما فيه الاختيار للركنية (1) وبراءة الذّمة أولى.
جاء في كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي رحمه الله (ص 37): "الوجه الرابع والأربعون في ترجيح أحد الحديثين على الآخر: أن يكون في أحدهما احتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين، ولا يكون في الآخر ذلك؛ فتقديم ما فيه الاحتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين أولى (2).
(1) أمّا مَن ترجح لديه الوجوب دون الركنية من خلال بحثه الموضوعي بتجرّد؛ فله عدم الأخذ بهذا الاحتياط.
وعلى أي حال: فثمرة هذا الحكم يتعلّق بأهل القوّة، فينبغي التأني في إِطلاق القول بالوجوب ارتجالاً.
(2)
وتقدّم.