الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيّ أنواع النُّسك أفضل
؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب، والراجح فيها نسك التمتع، كما هو مذهب الإِمام أحمد وغيره، بل ذهب بعض العلماء المحققين إِلى وجوبه إِذا لم يَسق معه الهدي، منهم ابن حزم وابن القيم؛ تبعاً لابن عباس وغيره من السلف (1).
قال شيخنا رحمه الله في "حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 11): "لا شّك أنّ الحجّ كان -في أول استئنافه صلى الله عليه وسلم إِياه- جائزاً بأنواعه الثلاثة المتقدّمة، وكذلك كان أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم خيّرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهلّ بحجّ وعُمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهلّ
…
" الحديث؛ رواه مسلم (2).
وكان هذا التخيير في أول إِحرامهم عند الشجرة (3)؛ كما في رواية لأحمد (6/ 245)، ولكن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستمر على هذا التخيير، بل نَقَلهم إِلى ما هو أفضل؛ وهو التمتع، دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به، وذلك في مناسبات شتّى في طريقهم إِلى مكة.
فمن ذلك: حينما وصلوا إِلى (سَرِف)، وهو موضع قريب من التنعيم، وهو من مكة على نحو عشرة أميال، فقالت عائشة رضي الله عنها في رواية
(1) انظر "حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 10) بتصرّف.
(2)
برقم: 1211.
(3)
أي: عند ذي الحليفة.
عنها:
" .. فنزلنا سَرِف، قالت: فخرج إِلى أصحابه فقال: من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا. قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي]
…
" الحديث؛ متفق عليه، والزيادة لمسلم.
ومن ذلك لما وصل صلى الله عليه وسلم إِلى (ذي طُوى)، وهو موضع قريب من مكة، وبات بها، فلمّا صلّى الصّبح قال لهم:"من شاء أن يجعلها عمرة؛ فليجعلها عمرة" أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس.
ولكنّا رأيناه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكّة وطاف هو وأصحابه طواف القدوم؛ لم يدَعْهم على الحكم السابق وهو الأفضلية؛ بل نقَلهم إِلى حُكم جديد وهو الوجوب؛ فإِنّه أمَر من كان لم يَسُق الهدي منهم أن يفسخ الحج إِلى عمرة ويتحلل، فقالت عائشة رضي الله عنها:
"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إِلا أنّه الحج، فلما قدمنا مكة تطوَّفنا بالبيت، فأَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي، فأحللن (1)." الحديث، متفق عليه. وعن ابن عباس نحوه بلفظ:
(1) في رواية عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمين فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي؛ فليُقم على إِحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل. قالت: ولم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدى، فلم يَحِلَّ، فلبست ثيابي وجئت إِلى الزبير فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟! أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2416).
"فأَمَرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أيّ الحلّ؟ قال: الحلّ كلّه"؛ متفق عليه. وفي حديث جابر نحوه وأوضح منه؛ كما يأتي فقرة (33 - 45)(1).
قلت [أي: شيخنا]: فمن تأملّ في هذه الأحاديث الصحيحة؛ تبيّن له - بياناً لا يشوبه ريب- أن التخيير الوارد فيها إِنما كان منه صلى الله عليه وسلم لإِعداد النفوس وتهيئتها؛ لتقبُّل حُكمٍ جديدٍ، قد يصعب ولو على البعض تقبّله بسهولة لأول وَهْلَةٍ، ألا وهو الأمر بفسخ الحج إِلى العمرة، لا سيّما وقد كانوا في الجاهلية كما هو ثابت في "الصحيحين" - يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج، وهذا الرأي -وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطله باعتماره صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة-؛ فهذا وحده وإن كان كافياً في إِبطال تلك البدعة الجاهلية؛ فإِنه لا يكفي -والله أعلم- لإِعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد، فلذلك مهّد له صلى الله عليه وسلم بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم، ثمّ أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج والعمرة.
فإِذا عرفنا ذلك؛ فهذا الأمر للوجوب قطعاً، ويدل على ذلك الأمور الآتية:
الأول: أن الأصل فيه الوجوب إِلا لقرينة، ولا قرينة هنا، بل والقرينة هنا تؤكده، وهي الأمر التالي وهو:
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم تعاظم ذلك عندهم، كما تقدّم آنفاً، ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قد أمرهم من قَبْلُ ثلاث مرات أَمْرَ تخيير، ومع ذلك لم يتعاظموه، فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب، وهو
(1) انظر (ص 60) منه بعنوان "الأمر بفسخ الحجّ إِلى العمرة".
المقصود.
الثالث: أن في رواية في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " .. فدخل عليّ وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار! قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر؛ فإِذا هم يترددون؟! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثمّ أحل كما حلوا". رواه مسلم والبيهقي وأحمد (6/ 175).
ففي غضبه صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن أمره كان للوجوب، لا سيّما وأن غضبه صلى الله عليه وسلم إِنما كان لترددهم، لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر، وحاشاهم من ذلك، ولذلك حلوا جميعاً؛ إِلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة (44)(1).
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به: ألعامنا هذا أم لأبد الأبد؟ فشبَّك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في أخرى وقال: "دخَلَت العمرة في الحجّ إِلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد".
فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءاً من الحج لا يتجزأ، وأن هذا الحكم ليس خاصّاً بالصحابة كما يظنّ البعض، بل هو مستمر إِلى الأبد.
[الخامس]: أن الأمر لو لم يكن للوجوب؛ لكفى أن ينفذه بعض الصحابة، فكيف وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بأمر الناس بالفسخ أمراً عامّاً، فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة رضي الله عنه كما يأتي (فقرة 48)(2)، وتارة
(1) انظر (ص 65) منه بعنوان "خطبته صلى الله عليه وسلم بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له".
(2)
انظر (ص 67) منه.
يأمر به أزواجه، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: "إِني لبَّدت رأسي
…
" الحديث. ولما جاءه أبو موسى من اليمن حاجّاً، قال له صلى الله عليه وسلم: "بم أهللت؟ ". قال: أهللت بإِهلال النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: هل سقت من هدي؟ قال: لا، قال: "فطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، ثمّ حِلّ
…
" الحديث.
فهل هذا الحرص الشديد من النّبيّ صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمره بالفسخ إِلى كل مكلف لا يدل على الوجوب؟ اللهم إِن الوجوب ليثبت بأدنى من هذا! انتهى.
وجاء (ص 19) منه: "وخلاصة القول: أن على كل من أراد الحج أن يلبي عند إِحرامه بالعمرة، ثمّ يتحلل منها بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة؛ بقص شعره، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة يحرم بالحج، فمن كان لبَّى بالقران أو الحج المفرد؛ فعليه أن يفسخ ذلك بالعمرة؛ إِطاعةً لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ والله عز وجل يقول:{من يُطع الرسول فقد أطاع الله} (1)، وعلى المتمتع بعد ذلك أن يقدم هدياً يوم النحر، أو في أيام التشريق، وهو من تمام النسك، وهو دم شُكْران وليس دم جُبْران، وهو -كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- بمنزلة الأضحية للمقيم، وهو من تمام عبادة هذا اليوم، فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية، وهو من أفضل الأعمال، فقد جاء من طرق أن النّبيّ سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: العجُّ (2) والثجّ (3)؛ وصححه
(1) النساء: 80.
(2)
رفْع الصوت بالتلبية.
(3)
الثجّ: سيلان دم الهدي والأضاحي. "النهاية".