الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجرحت فيه وشلّت يدها
…
وللتّبرّك الورى تقصدها
في حفرة وقع خير مرسل
…
فناشه طلحة والصّهر علي
جرحا أجوف له غور، وكان معها يقاتل ابناها، عبد الله وحبيب ابنا زيد بن عاصم، قال عليه الصلاة والسلام لابنها عبد الله:«بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك- يعني غزية بن عمرو زوج أمه- خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان رحمكم الله أهل بيت» .
قالت أم عمارة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، قال:
«اللهمّ؛ اجعلهم رفقائي في الجنة» . قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا أو جرحت.
(وجرحت فيه) أي: في دفاعها ذلك المحمود اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف (وشلّت) أي:
يبست (يدها) وعاشت بعد ذلك دهرا يقصدها الناس تبرّكا، كما قال (وللتبرّك الورى تقصدها) من مسافة بعيدة، فتمسح يدها الشّلاء على العليل، وتدعو له، فيشفيه الله تعالى.
ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد:
(في حفرة) من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون (وقع خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (فناشه) أي: تناوله (طلحة) بن عبيد الله التيميّ السابق (والصّهر علي) بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأخذ
إذ عتبة هشّ رباعيته
…
وشقّ من شقوته شفته
عليّ بيده، واحتضنه طلحة حتى استوى قائما.
(إذ عتبة) أي: وقع صلى الله عليه وسلم في حفرة حين عتبة بن أبي وقاص (هشّ) أي: ضرب فكسر (رباعيته) بفتح الراء وتخفيف الياء، السن التي بين الثنيّة والناب؛ لأنّه رماه بأربعة أحجار، فكسر حجر منها رباعيته اليمنى السفلى، كما في رواية ابن هشام.
قال في «شرح المواهب» : (والمراد: أنّها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقع من أصلها، قاله في «الفتح» ) .
(وشق) عتبة (من شقوته) مثلث الشين؛ أي: من شقائه (شفته) صلى الله عليه وسلم السفلى.
روى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: ما حرصت على قتل رجل قطّ حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسوله» .
واعلم: أنّه ليس في شيء من الآثار ما يدل على إسلامه، بل فيها ما يصرح بموته على الكفر، قاله في «شرح المواهب» .
قال السهيلي في «الروض» : (لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحلم إلّا وهو أبخر، أي منتن الفم، أو أهتم، أي
وشجّه ابن قمئة وابن شهاب
…
صلّى عليه الله ما سحّ سحاب
مكسور الثنايا من أصلها، يعرف ذلك في عقبه) اهـ
قلت: وهذا من شؤم الآباء على الأبناء، نسأل الله السلامة والعافية بمنّه وكرمه.
(وشجه) عليه الصلاة والسلام عبد الله (بن قمئة) ويقال: ابن قميئة، في وجنته، فدخلت فيها حلقتان من المغفر، وقال حين ذاك: خذها وأنا ابن قمئة، فقال صلى الله عليه وسلم:«أقمأك الله» أي: أذلّك وصغّرك «1» .
(و) عبد الله (ابن شهاب) الزّهريّ، وقد أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وهو جدّ الإمام محمّد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزّهري، شيخ الإمام مالك، قيل له:
أكان جدك عبد الله شهد بدرا؟ فقال: نعم، ولكن في الجانب الآخر، وأخو عبد الله هذا عبد الله الأكبر من مهاجرة الحبشة، ومات بمكة قبل الهجرة رضي الله عنه.
قال في «الهمزية» معربا أنّ هذه الشجة زادته حسنا وجمالا على حسنه وجماله:
مظهر شجّة الجبين على البر
…
ء كما أظهر الهلال البراء
(1) قد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم فيه؛ فإنّه بعد الوقعة خرج إلى غنمه، فوافاها على أعلى الجبل، فأخذ يعترضها، فشدّ عليه كبشها، فنطحه نطحة أردته من شاهق الجبل، فتقطع.
وازدرد الدّمّ أبو الخدريّ
…
وانتزع الحلقة في النّبيّ
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب
…
لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزّهر لاح من سجف
…
الأكمام والعود شقّ عنه اللّحاء
وقال سيدنا حسان رضي الله عنه، في وصف جبينه الشريف وأحسن:
متى يبد في الداجي البهيم جبينه
…
يلح مثل مصباح الدّجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد
…
نظاما لحقّ أو نكالا لملحد
(صلّى عليه الله) وسلّم (ما سحّ) صبّ (سحاب) بالمطر، واتصلت عيون بنظر، والمقصود: الدعاء المستمر.
(وازدرد) أي: ابتلع (الدم) من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: دم جراحاته مالك بن سنان رضي الله عنه، وهو (أبو) أبي سعيد (الخدريّ) وحين امتصه قال عليه الصلاة والسلام:«من مسّ دمي دمه لم تصبه النار» .
وفيه من الفقه أنّ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف غيره من الدماء في التحريم، وأنّ دمه طاهر، حيث لم يغسل منه فمه، ولم يأمره بذلك.
أبو عبيدة فكان أثر ما
…
بساقط الثّنيّتين أعلما
بملء درقة من المهراس
…
جاء ليشرب شفيع النّاس
(وانتزع الحلقة) من المغفر (في) جرح (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم الذي جرحه ابن قمئة، وهما حلقتان، وفاعل انتزع هو قوله:(أبو عبيدة) عامر بن الجراح انتزع إحداهما، فسقطت ثنيته، ثمّ انتزع الأخرى، فسقطت ثنيته الأخرى (فكان) أبو عبيدة (أثرما) بفتح الهمزة وهو ساقط الثنيتين أو إحداهما، والرّباعيات، وهو هنا ساقط الثنيتين، فلذلك قال:(بساقط الثنيتين) والباء سببية.
وقوله: (أعلما) خبر بعد خبر لكان.
والأعلم كأحمر: الرجل المشقوق الشفة العليا، ومؤنثه علماء، ويقابله الأفلح، وهو: مشقوق الشفة السفلى، قال العلّامة الزمخشري في أبيات:
ومذ أفلح الجهّال أيقنت أنّني
…
أنا الميم والأيام أفلح أعلم
(بملء درقة) بالتحريك وقد تسكن الراء كما هنا:
الجحفة «1» (من المهراس) بيان لقوله: (بملء) المتعلق بقوله: (جاء) والمهراس، بكسر الميم: صخرة منقورة تمسك الماء فيتوضّأ منه، شبه بالمهراس الذي هو الهاون، قال السّهيليّ: (وهم المبرّد، فجعل المهراس اسما علما
(1) هي الترس.
حيدرة فعافه ورحضا
…
عن وجهه الدّمّ ففاز بالرّضا
للمهراس الذي بأحد خاصة، وإنّما هو اسم لكل حجر نقر، فأمسك الماء) .
يعني: أنّه لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشّعب.. جاء بالماء الذي ملأ به الدرقة (ليشرب شفيع الناس) صلى الله عليه وسلم منه (حيدرة) لقب لسيدنا علي رضي الله عنه، وهو فاعل لجاء، فلمّا جاء به.. وجد له ريحا (فعافه) أي: كرهه ولم يشرب منه (ورحضا) بالحاء المهملة المفتوحة: أي غسل (عن وجهه) الشريف (الدم) وصبّ على رأسه (ففاز) سيدنا علي رضي الله عنه (بالرضا) من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال في «شرح المواهب» : (وهذا وقع قبل انصراف الكفار من عليّ وحده، ثمّ لمّا انصرفوا- كما في رواية الطبراني- أتت السيدة فاطمة رضي الله عنها فجعلت تغسل، وعلي يسكب، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه نبيه» رواه البخاريّ) .
قال في «روض النّهاة» : (إنّ عليّا وفاطمة رضي الله عنهما كانا يغسلان الدم، ويزداد سيلانا، فعمدت السيدة فاطمة رضي الله عنها إلى حصير فأحرقته، ووضعته في الجرح، فرقأ الدم، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سيفه، وقال: «اغسلي يا بنيّة هذا، فقد والله صدقني
اليوم «1» » ثمّ ناولها عليّ سيفه، وقال: وهذا فاغسليه، فقد صدقني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسنه معك عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، والحارث بن الصّمة، وسهيل بن حنيف» وقال رضي الله عنه:
أفاطم هاء السّيف غير ذميم
…
فلست برعديد ولا بلئيم
وهبّت يومئذ ريح سمعوا فيها قائلا يقول:
لا سيف إلّا ذو الفقا
…
ر ولا فتى إلّا عليّ
ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني النجار، ثمّ من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فلمّا نعوا إليها..
قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أمّ فلان، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته.. قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل؛ أي: حقيرة.
قلت: ومن هذا تعرف مقدار ما يحمل الأصحاب الكرام من محبة صادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا فرق بين
(1) هذا يدل على أنّه صلى الله عليه وسلم ضرب بسيفه في هذه الغزوة حتى أصابه الدم.
صغير وكبير، ورجل وامرأة.
وإليك حادثة أخرى من هذا الطراز تزداد بها حبا، ويقينا، وإيمانا وعقيدة في شأن هؤلاء السادة الأبطال العظام الذين يفخر بهم الإسلام.
يقول العلّامة المقريزي في «الإمتاع» : (خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج إلى أحد وهو يقول: اللهمّ؛ لا تردّني إلى أهلي، فقتل شهيدا، واستشهد ابنه خلاد وعبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي، فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام زوجة عمرو بن الجموح على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت عائشة في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ.
فقالت لها: عندك الخبر، فما وراءك، أمّا رسول الله..
فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، قالت عائشة: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابن خلاد وزوجي عمرو بن الجموح، قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل- تزجر بعيرها- فبرك. فقالت عائشة: لما عليه، قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، وزجرته فقام، فوجّهته راجعة إلى أحد، فأسرع.
فرجعت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك،
فقال: «إنّ الجمل مأمور، هل قال عمرو شيئا؟» قالت: إنّ عمرا لما وجه إلى أحد.. قال: اللهمّ؛ لا تردّني إلى أهلي خزيان، وارزقني الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله.. لأبرّه، منهم: عمرو بن الجموح، يا هند؛ ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة، ينظرون أين يدفن» ، ثمّ مكث عليه الصلاة والسلام حتى قبرهم، ثمّ قال:«يا هند؛ قد ترافقوا في الجنة عمرو بن الجموح وابنك خلاد وأخوك عبد الله» قالت:
يا رسول الله؛ ادع الله أن يجعلني معهم) اهـ
وهذه الحوادث مشهورة في كتب السير الصحيحة، وفيها برهان واضح على كمال إيمان هؤلاء الأصحاب الكرام، ومنهم تلك المرأة التي أصيبت بزوجها عميد أسرتها، وابنها فلذة كبدها، وأخيها في يوم واحد، مبتهجة قائلة: كل مصيبة دونك يا رسول الله جلل.
نعم؛ صدقت، وصدقوا؛ لأنّهم أخبروا بأمر واقعي تكنه صدورهم وتعرب عنه ألسنتهم، وهذا العمل الخالد المبرور منهم قلّ من جل، ممّا يعبر عن محبتهم الصادقة وإيمانهم الكامل، وحسبهم شرفا ثناء الله عليهم في الكتاب القديم قبل بروزهم إلى هذا الوجود، فجدير بنا أن نتّخذ لهم من سويداء قلوبنا محلا نجعلهم فيه، ونتّخذ لنا من أمثال هذه الحوادث