الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لولا نبيّ الرّحمة الموفّق
…
للرّشد في آرائه لمزّقوا
حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في إمضاء هذه الشروط:
هذه شروط الصلح الذي وقع الاتفاق عليه بين الفريقين ذكره ابن إسحاق في «سيرته» وفيه من الفوائد الظاهرة، والثمرات الباهرة، التي عادت على المسلمين، وظهرت للنبي، وخفيت على غيره.. ما سيتلى عليك قريبا إن شاء الله تعالى:
منها: حفظ المستضعفين في مكة من المسلمين، وحقن دمائهم؛ لاختلاطهم بالكفار كما أشار إلى هذا الناظم بقوله:
(لولا نبيّ الرحمة) صلى الله عليه وسلم (الموفّق) من ربه عز وجل (للرّشد) والإقامة على طريق الاستقامة والهدى (في آرائه) السديدة، التي لا يحوم الخطأ حولها؛ من قبوله عليه الصلاة والسلام الصلح من قريش (لمزقوا) أي: لمزقهم المسلمون، ومزقوا من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين المحبوسين بها، قال الله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
يذكر الله تعالى: أنّه لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين الكافرين غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك معرّة ومكروه.. لما كفّ أيديكم عنهم، لكن كفّها ليدخل بذلك الكفّ المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة من يشاء.
أسلم بعد عوده بالعظما
…
أكثر ممّن كان قبل أسلما
ومن فوائده أيضا: إسلام كثير من كفار قريش باختلاطهم بالمسلمين، ومجيئهم إلى المدينة معقل الإيمان والإسلام، وحسن سيرته، وأعلام نبوته الباهرة، إلى غير ذلك، ممّا جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا، فصلّى الله على هذا الرسول العظيم الذي منحه الربّ الكريم من الرحمة ما جعله ينظر إلى وجوه المصالح والحكم لأمته، وجزاه الله خير ما جازى نبيا عن أمّته.
وعلم المؤمنون بعد ذلك أن صدّهم عن البيت ورجوعهم كان في الظاهر هضما، وفي الباطن عزّا لهم وقوة، فأذلّ الله المشركين من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وإلى هذه الفائدة أشار الناظم رحمه الله بقوله:
(أسلم) وانقاد لأمره ودينه صلى الله عليه وسلم (بعد عوده) أي: بعد رجوعه «1» من الحديبية واجتماعه
(1) فالعود: الرجوع، ومنه: العود أحمد، ومنه: العود محمود؛ أي: الابتداء بالمعروف والإعادة إليه أكسب للحمد، قاله أعرابي اسمه خراش، خطب بنت عم له اسمها الرباب، فرده أبوها، فأضرب عنها زمانا، ثمّ أقبل حتى انتهى إلى حلتهم- أي: منزلهم- متغنيا بأبيات منها:
ألا ليت شعري يا رباب متى أرى
…
لنا منك نجحا أو شفاء فأشتفي
فسمعت ما قال وحفظته، وبعثت إليه: أن قد عرفت حاجتك، فاغد خاطبا، ثم قالت لأمها: هل أنكح إلّا من أهوى، وألتحف إلّا من أرضى؟ قالت نعم. قالت: فأنكحيني خراشا، فقالت على قلة ماله؟! قالت: إذا جمع المال السيء الفعال.. فقبحا للمال، فأصبح فسلّم عليهم، وقال: العود أحمد، والمرأة ترشد، والورد يحمد. فأرسلها مثلا.
وفسّروا بذلك الفتح المبين
…
وفيه إبقاء على المستضعفين
(ب) أصحابه الأبطال (العظما) بالمدينة المنوّرة، وفاعل (أسلم) قوله:(أكثر ممّن كان قبل) أي: قبل الصلح (أسلما) بألف الإطلاق.
وممّن أسلم في هذه الهدنة: عمرو بن العاصي، وخالد بن الوليد، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، وطلحة بن عثمان، وغيرهم من قريش، وبه فسّر قوله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ.
(وفسّروا بذلك) أي: بإسلام الكثير في الهدنة (الفتح المبين) المشار إليه بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً في الصحيح عن البراء بن عازب: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرّضوان) .
قال الشهاب القسطلّانيّ في «المواهب» : (روى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح إلى الشعبي، في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: صلح الحديبية) .
وممّن فسّر الفتح هنا بالحديبية: ابن عباس، وأنس، والبراء بن عازب، قال ابن عبّاس وأنس والبراء:(الفتح هنا: فتح الحديبية، ووقوع الصلح) .
قال الحافظ: (فإنّ الفتح في اللغة: فتح المغلق، والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه:
صدّ المسلمين عن البيت، فكانت الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين، والباطنة عزّا لهم؛ فإنّ الناس للأمن الذي وقع
وبعثوا جمل عمرو بن هشام
…
هديا وإنكاء إلى البيت الحرام
فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلّا خفية، فظهر من كان يخفي إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة) .
وقال ابن إسحاق: (وقال الزّهري: ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتال حيث التقى الناس، فلمّا كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة.. فلم يكلّم أحد يعقل في الإسلام شيئا إلّا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) .
والدليل على قول الزّهري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة في قول جابر بن عبد الله، ثمّ خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
ومن فوائد هذا الصلح: ما أشار له بقوله:
(وفيه) أي: العود من غير قتال (إبقاء) للحياة (على) المؤمنين (المستضعفين) بمكة، قال ابن عباس رضي الله عنه:(أنا وأمّي من المستضعفين) .
(وبعثوا) أي: المسلمون (جمل) أبي جهل (عمرو بن هشام) واسمه: العصيفير، برته من فضة، وهي بضم الباء