الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الأولى في مشروعية الجهاد
قال الحافظ شمس الدين، محمّد بن يوسف الشامي، في «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» : لمّا أذن الله تعالى في الهجرة لرسوله صلى الله عليه وسلم، واستقرّ بالمدينة، وأيّده الله تعالى بنصره، وبعباده المؤمنين، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله، وكتيبة الإسلام: الأوس، والخزرج، وبذلوا أنفسهم دونه، وقدّموا محبته على محبة الآباء والأبناء، وكان أولى بهم من أنفسهم.. عادتهم العرب، واليهود، ورمتهم عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة، وصاحوا بهم من كل جانب.. حتى كان المسلمون لا يبيتون إلّا في السلاح، ولا يصبحون إلّا فيه، فقالوا: ترى نعيش حتى نبيت مطمئنّين لا نخاف إلا الله عز وجل؟ فأنزل الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
وعندما اشتدّ الأذى بهم.. أمر الله تبارك وتعالى بالصبر والعفو والصفح، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ حتى إذا قويت الشوكة للمسلمين.. أذن الله لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
ثمّ فرض الله عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم، دون من لم يقاتلهم، قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
ثمّ فرض عليهم قتال المشركين كافة؛ حتى يكون الدين كلّه لله، قال عز وجل: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وقال تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
فكان محرّما، ثمّ صار مأذونا فيه، ثمّ مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثمّ مأمورا به لجميع المشركين، إمّا فرض عين، أو فرض كفاية.
ثمّ كان الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام:
قسم صالحهم، ووادعهم على ألّا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه عدوّه، وهم- على كفرهم- آمنون على دمائهم، وأموالهم، وهم طوائف اليهود الثلاثة: بنو قريظة،
وبنو النضير، وبنو قينقاع.
وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة، وهم قريش.
وقسم تاركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.
ثمّ من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن كخزاعة، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوّه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.
فعامل صلى الله عليه وسلم كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة:
بني قينقاع، وبني النّضير، وبني قريظة، فنقض الجميع العهد، فكان من عاقبة أمرهم الوخيمة ما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه.
وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقوم لأهل العقد والصلح بعهدهم، وأن يوفّي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة.. نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم.. حتّى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض العهد.
ولما نزلت (سورة براءة) .. نزلت ببيان هذه الأقسام كلها، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب.. حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في دين الإسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسّنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم.
وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم، وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدتهم.
وقسما لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، نعم؛ لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجّلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت..
قاتلهم، وهي المذكورة في قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهي الحرم المذكورة في قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فالحرم هنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الأول.
وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم، ولم يسيّر المشركين هذه الأربعة، فإنّ هذا لا يمكن؛ لأنّها غير متوالية، وإنّما أجّلهم أربعة أشهر، ثمّ أمر بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقاتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له- أو له عهد مطلق- أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته.
واعلم: أنّ الله عز وجل شرع لنبيّه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة جهاد أعدائه في الوقت الأليق به؛ لأنّهم لمّا كانوا بمكة.. كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر الله المسلمين وهم قليل- بقتال الباقين.. لشق عليهم، فلمّا بغى المشركون، وأخرجوه عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم، وهمّوا بقتله، واستقرّ عليه الصلاة والسلام بالمدينة، واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلا يلجؤون إليه.. شرع الله جهاد أعدائه، فبعث عليه الصلاة والسلام البعوث والسرايا، وغزا وقاتل هو وأصحابه..
حتّى دخل الناس في دين الله أفواجا، فلله الحمد والمنّة.