الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشهاب في «المواهب» : (قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضي الله عنه وكلامه شكّا في الدين، حاشاه! بل طلبا لكشف ما خفي عليه من المصلحة، وحرصا على إذلال الكفار وظهور الإسلام، كما عرف من خلقه وقوته في نصر الدين وإذلال المبطلين، وأمّا جواب أبي بكر بمثل جواب النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته في كل ذلك على غيره) .
وقال الزرقاني: (ألا ترى أنّه صرّح في الحديث: أنّ المسلمين استنكروا الصلح المذكور، وكانوا على رأي عمر، فلم يوافقهم أبو بكر، بل كان قلبه على قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم سواء؟) اهـ
أمر أبي بصير الثقفي:
وممّن خرج مسلما من قريش في هذا العهد إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أبو بصير- بالتكبير- واسمه: عتبة بن أسيد الثقفي، فأرسلوا في طلبه رجلين:
خنيس بن جابر من بني عامر، ومولى يقال له: كوثر، فقالوا: العهد الذي جعلته لنا، فدفعه إلى الرجلين. زاد ابن إسحاق: (فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: «اصبر واحتسب؛ فإنّ الله جاعل لك فرجا ومخرجا»
زاد أبو المليح- كما في «شرح المواهب» -: (فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل، ومعك السيف) اهـ
فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله؛ إنّي لأرى سيفك هذا جيدا، فاستلّه الآخر، فقال: أجل والله؛ إنّه لجيد، لقد جربت، ثمّ جربت، وفي رواية: لأضربنّ به في الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه أبو بصير حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال صلى الله عليه وسلم:
«لقد رأى هذا ذعرا» فلمّا انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قال: قتل والله صاحبكم صاحبي، وإنّي لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله؛ قد أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم، ثمّ أنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«ويل أمه مسعر حرب» وهي رواية الصحيح، وفي رواية ابن إسحاق:«محشّ حرب «1» لو كان معه رجال» .
ثمّ خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير:«ويل أمّه مسعر حرب، لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمع
(1) موقد حرب ومسعرها.
وهم عليهم بعد ردّهم وبال
…
إذ أخذوا الطّرق على صهب السّبال
إليه منهم قريب من سبعين رجلا، وكانوا قد ضيّقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلّا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة.
وإلى ما جرى في هذه القصة أشار الناظم بقوله:
(وهم) أي: المستضعفون من المسلمين، وضمير الجمع يعود على (من) في قوله:«ومنه ردّ من أتاه مسلما» ؛ نظرا للمعنى. (عليهم) أي: على كفار قريش، الذين أغلظوا في الصلح بذلك الشرط القاسي.
وقوله: (بعد ردّهم) أي: رد المستضعفين من المدينة، حال؛ لأنّه نعت لنكرة تقدم عليها وهي قوله:(وبال) الواقع خبرا للمبتدأ؛ أي: هم وبال، أي: سبب للوبال والشدة، والفشل بعد ردهم؛ لأنّهم قطعوا مادّتهم وميرتهم من طريق الشام كما قال الناظم:(إذ أخذوا الطرق على صهب السّبال) هو شعر يخالط بياضه حمرة، والسبال: طرف ما على الشارب من الشعر، والمراد هنا الأعداء؛ أي: أخذ المستضعفون الطريق على أعدائهم كفار مكة.
قال في «تاج العروس» للسيد مرتضى: (ومن المجاز:
الأعداء صهب السبال، وسود الأكباد وإن لم يكونوا كذلك، قال:
وانتدبوا لقوله في النّدب
…
سيّدهم هذا محشّ حرب
جاؤوا يجرّون الحديد جرّا
…
صهب السبال يبتغون شرّا
وإنّما يريدون: أنّ عداوتهم لنا كعداوة الروم، والروم صهب السبال والشعر، وإلّا.. فهم عرب، وألوانهم:
الأدمة، والسمرة، والسواد، وقال ابن قيس الرّقيات:
فظلال السّيوف شيّبن رأسي
…
واعتناقي في القوم صهب السّبال
ويقال: أصله للروم؛ لأنّ الصهوبة فيهم، وهم أعداء لنا، كذا في «لسان العرب» ونقله الجوهريّ عن عبد الملك بن قريب الأصمعيّ) .
(وانتدبوا) أي: انتدب المستضعفون من المسلمين؛ أي: أجابوا وسارعوا (لقوله) عليه الصلاة والسلام (في النّدب) الظريف النجيب «1» (سيّدهم) بالجر: بدل من الندب، والمراد به أبو بصير، كما تقدم (هذا محشّ) بكسر الميم (حرب) أي: موقدها، لو كان معه رجال، فهذا القول منه عليه الصلاة والسلام في أبي بصير، هو الذي حملهم على انضمامهم إليه بذلك الموضع، على طريق تجارتهم بالشام،
(1) قال في «القاموس وشرحه» : (ندبه إلى الأمر كنصر: دعاه وحثّه، والندب: أن يندب قوما إلى حرب أو أمر أو معونة؛ أي: يدعوهم إليه، فينتدبون له؛ أي: يجيبون ويسارعون، وقال أيضا: الندب: الرجل الخفيف في الحاجة، والسريع الظريف العجيب» ) مادة (ندب) .
واستعطفوا خير الورى بالرّحم
…
في صرفهم إليه عن أرضهم
لا يظفرون بأحد من كفار قريش إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بالرّحم أن يؤويهم إليه بالمدينة، ففعل صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله:
(واستعطفوا خير الورى) صلى الله عليه وسلم؛ أي:
طلب كفار قريش منه العطف (بالرّحم في صرفهم إليه) بالمدينة المنوّرة (عن أرضهم) أي: أرض قريش التي يمرون عليها في تجارتهم إلى الشام.
قال السّهيليّ: (أمّا لحوق أبي بصير بسيف البحر- بكسر السين؛ أي: ساحله، وتقدم تعيين المكان، وهو العيص- ففي رواية معمر عن الزّهري: أنّه كان يصلّي بأصحابه هنالك، حتى لحق بهم أبو جندل بن سهيل، فقدموه؛ لأنّه قرشيّ، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاث مئة، وكان أبو بصير كثيرا ما يقول هناك:
الحمد لله العليّ الأكبر
…
من ينصر الله فسوف ينصر
فلمّا جاءهم الفرج من الله تعالى، وكلمت قريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤويهم إليه لما ضيقوا عليهم.. ورد كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب، فجعل يقرؤه ويسرّ به، حتى قبض والكتاب على صدره، فبني عليه هناك مسجد، يرحمه الله) .