الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن رواحة:
وأمّا سيدنا عبد الله بن رواحة: فهو أبو محمّد الأنصاري الحارثي شهد العقبة، وكان ليلتئذ نقيب بني الحارث من الخزرج، فهو أحد النقباء الاثني عشر، المجموعين في قول الناظم في «عمود النسب» :
وهم من الأوس أسيد فاعلمه
…
رفاعة وسعد بن خيثمه
وتسع خزرج بنو بدور
…
زرارة رواحة معرور
وابن عبادة وسعد بن الربيع
…
ورافع بن مالك الشهم الرفيع
عبد الإله نجل عمرو بن حرام
…
ومنذر ونجل صامت الهمام
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا الفتح؛ فقد علم أنّه توفي قبله.
وهو خال النعمان بن بشير؛ لأنّ أم النعمان عمرة بنت رواحة.
وكان أحد شعراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الذين ينافحون عنه وعن الإسلام المجموعين في قول الحافظ السيوطي:
وشعراء المصطفى ذوو الشان
…
ابن رواحة وكعب حسّان
وهم متفاوتون: كان حسّان رضي الله عنه يطعن في أنساب المشركين، وكان كعب بن مالك يذكّرهم بوقع السيوف، وعبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا ينفع، فكان شعر صاحب الترجمة يومئذ أهون على كفار قريش، وكان قول كعب وحسّان أشدّ القول عليهم، فلمّا أسلموا وفقهوا.. كان أشد القول عليهم وأنكاه فيهم قول ابن رواحة.
قال الزّبير بن العوام رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أجرأ ولا أسرع شعرا من ابن رواحة.
وعن أبي الدرداء قال: أعوذ بالله أن يأتي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة كان إذا لقيني.. يقول: يا عويمر؛ اجلس فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء الله، ثمّ يقول:
يا عويمر هذا الإيمان. اهـ
وهو الذي شجّع المسلمين في مؤتة على لقاء الكفار، بل شجع نفسه كما سبق.
وفي «الصحيحين» عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إنّ أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة.
قال ابن سعد: (كان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة) .
قال الحافظ: (وفي فوائد أبي طاهر الذّهليّ، من طريق ابن أبي ذئب عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله ابن رواحة؛ إنّه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة» ) اهـ
وكان إذا لقي أحدا.. قال له: اجلس بنا نؤمن ساعة.
وأخرج البيهقي بسند صحيح: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فدخل عبد الله بن رواحة، فسمعه يقول:
«اجلسوا» فجلس مكانه خارجا من المسجد، فلمّا فرغ..
قال له: «زادك الله حرصا على طواعية الله، وطواعية رسوله» وكفى بهذه منقبة لابن رواحة، ممّا يدل في وضوح على خضوعه لأوامره وإشاراته صلى الله عليه وسلم؛ ابتغاء مرضاته، فهو لمن سواه القدوة والغاية المثلى.
قال الحافظ: (وفي «الزهد» لابن المبارك بسند صحيح عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة، فسألها عن صنيعه، فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته.. صلّى ركعتين، وإذا دخل بيته.. صلّى ركعتين، لا يدع ذلك، وكان عبد الله أول خارج إلى الغزو، وآخر قافل) .
وقال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كان زيد بن أرقم يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، فخرج معه إلى سريّة مؤتة، فسمعه في الليل يقول:
إذا أدنيتني وحملت رحلي
…
مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ
…
ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المؤمنون وخلّفوني
…
بأرض الشام مشهود الثّواء
فبكى زيد بن أرقم، فخفقه «1» بالدّرة، فقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل) فذكر القصة في صفة قتله في غزوة مؤتة
…
بعد أن قتل جعفر، وقبله زيد بن حارثة.
وقال ابن سعد: (أنبأنا يزيد بن هارون، أنبأنا حماد عن هشام، عن أبيه: لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أنّي منهم، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية) .
وقال ابن سعد: (حدّثنا عبيد الله بن موسى، حدّثنا عمر بن أبي زائدة عن مدرك بن عمارة، قال: قال عبد الله بن رواحة: مررت في مسجد الرسول ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده أناس من الصحابة في ناحية منه، فلمّا رأوني.. قالوا: يا عبد الله بن رواحة؛ فجئت، فقال:
(1) من باب: نصر وضرب، والخفق: هو الضرب بالدرة- بكسر الدال المشددة- كما يؤخذ من «القاموس» (مادة درر) .
«اجلس ههنا» فجلست بين يديه، فقال:«كيف تقول الشعر؟» قلت: أنظر في ذلك، ثمّ أقول، قال:«فعليك بالمشركين» ولم أكن هيّأت شيئا، فنظرت، ثمّ أنشدته:
إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه
…
والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبيّ ومن يحرم شفاعته
…
يوم الحساب لقد أزرى به القدر
فثبّت الله ما أتاك من حسن
…
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
قال: فأقبل بوجهه مبتسما، وقال:«وإياك فثبّتك الله» قال هشام بن عروة: فثبته الله عز وجل أحسن الثبات، فقتل شهيدا، وفتحت له الجنة فدخلها.
قال المرزباني في «معجم الشعراء» : (كان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان يناقض قيس بن الخطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:
لو لم تكن فيه آيات مبينة
…
كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة، وذلك أنّه مشى ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته فلامته، فجحدها وكانت قد رأت جماعه لها- فقالت له: إن كنت صادقا..
فاقرأ القرآن؛ فالجنب لا يقرأ القرآن، فقال:
شهدت بأنّ وعد الله حقّ
…
وأنّ النار مثوى الكافرينا
وأنّ العرش فوق الماء حقّ
…
وفوق العرش ربّ العالمينا
وتحمله ملائكة غلاظ
…
ملائكة الإله مسوّمينا
فقالت امرأته: صدق الله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه) .
قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (ورويناها من وجوه صحاح)
وذكر أصل هذه القصة أيضا الإمام أبو زكريا النّوويّ في «شرح المهذّب» احتجاجا على حرمة القراءة على الجنب، على ضعف في إسنادها وانقطاع.
وذكرها خاتمة المحققين بمصر القاهرة: العلامة الأمير، وزاد في آخرها: (فأتى ابن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثه، فضحك ولم يعيّره، وقال: أخرج ذلك ابن عساكر عن عبد العزيز بن أخي الماجشون بلاغا عن ابن رواحة.
قال: وأخرج أيضا عن عكرمة مولى ابن عباس: أنّ عبد الله بن رواحة كان مضطجعا إلى جنب امرأته، فخرج إلى
الحجرة، فواقع جارية له، فاستيقظت المرأة ولم تره، فخرجت فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت فأخذت الشّفرة، وجاءت، فقال: مهيم؛ مهيم، فقالت مهيم؟ أما إنّي لو وجدتك حيث كنت.. لوجأتك بها، قال: وأين كنت؟
قالت: على بطن الجارية، قال: ما كنت، قالت: بلى، قال: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، قالت اقرأه، فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه
…
كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا
…
به موقنات أنّ ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
…
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
فقالت: أما إذ قرأت القرآن.. فإنّي أتهم ظنّي وأصدقك، قال ابن رواحة: فغدوت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك حتى بدت نواجذه، حتى ردّ يده على فيه، وقال:«إنّ خياركم خيركم لنسائه، لقد وجدتها ذات فقه في الدين» ) .
وهذا الحديث مشهور بين علماء الحديث، وقوله:
(مهيم) كلمة استفهام؛ أي: ما حالك وشأنك؟ أو ما وراءك؟ أو أحدث لك شيء؟
فإن قلت: كيف يصح لابن رواحة أن يقرأ الأبيات جوابا لقول امرأته: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن؟ وكيف يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؟
قلت: أجاب العلّامة الأمير في رسالة له صغيرة الحجم، جمة العلم، جعلها ردا على من يقول بكفر اللاحن في القرآن:
بأنّ ابن رواحة رضي الله عنه لم يقل: هذا قرآن، وإنّما عدل إلى شيء آخر غير ما أمرت به زوجته، وليس امتثال أمرها واجبا عليه، ولا توهّمها هي في نفسها أنّ هذا قرآن بملحق به إثما، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم قال:«هذا لعمري من معاريض الكلام» يعني والله أعلم-: أنّه مال إلى عرض وجانب آخر، غير ما يريده المخاطب، والله أعلم بحقيقة الحال.
قال سيدنا حسّان- رضي الله عنه يبكي جعفرا وصاحبيه:
تأوّبني ليل بيثرب أعسر
…
وهمّ إذا ما نوّم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيّجت ثمّ عبرة
…
سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلاء وفقدان الحبيب بليّة
…
وكم من كريم يبتلى ثمّ يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
…
شعوب وقد خلّفت فيمن يؤخّر
فلا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا
…
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا
…
جميعا وأسباب المنيّة تخطر
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم
…
إلى الموت ميمون النّقيبة أزهر
أغرّ كلون البدر من آل هاشم
…
أبيّ إذا سيم الظّلامة مجسر
فطاعن حتى مات غير موسّد
…
بمعترك فيه القنا يتكسّر
فصار مع المستشهدين ثوابه
…
جنان وملتفّ الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمّد
…
وفاء وأمرا حازما حين يأمر
فما زال في الإسلام في آل هاشم
…
دعائم عزّ لا ترام ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حوله
…
رضام إلى طود يروق ويقهر
بهم تكشف الّلأواء في كل مأزق
…
عماس إذا ما ضاق بالقوم مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه
…
عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهّر
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه
…
عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
وحمزة والعباس منهم ومنهم
…
عقيل وماء العود من حيث يعصر
قلت: ومناقب هؤلاء الأمراء الأفذاذ- رضوان الله عليهم- مشهورة، وهي فوق ما ذكرنا.
ولنختم الكلام على ترجمتهم بحديث فيه فضيلة عظيمة لهم، ذكره الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير عن الإمام الحافظ أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرّازي نضّر الله وجهه، في كتابه «دلائل النبوة» وهو كتاب جليل.
قال: (حدّثنا صفوان بن صالح الدمشقيّ، حدّثنا الوليد، حدّثنا ابن جابر.
وحدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدّثنا الوليد وعمرو، - يعني ابن عبد الواحد- قالا: حدّثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائريّ يقول: أخبرني أبو أمامة الباهلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم، إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه، فقالا: إنّا سنسهله لك، قال: فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل.. إذا أنّا بأصوات شديدة، فقلت: ما هؤلاء الأصوات؟ فقالا: عواء أهل النّار.
ثمّ انطلقا بي، فإذا بقوم معلّقين بعراقيبهم مشققة، تسيل أشداقهم دما، فقلت: ما هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلّة صومهم. فقال: خابت اليهود والنصارى، قال سليم: سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من رأيه؟!
ثمّ انطلقا بي، فإذا قوم أشدّ شيء انتفاخا، وأنتن شيء ريحا، كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قالا:
هؤلاء قتلى الكفار، ثمّ انطلقا بي فإذا بقوم أشدّ انتفاخا وأنتن شيء ريحا، كأنّ ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟
قالا: هؤلاء الزّانون والزواني.
ثمّ انطلقا بي فإذا بنساء ينهشن ثديّهنّ الحيات، فقلت:
ما بال هؤلاء؟ قالا: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهنّ ألبانهن «1» .
ثم انطلقا بي، فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين، قلت:
من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء ذراريّ المؤمنين، ثم أشرفا بي شرفا، فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، ثمّ أشرفا بي شرفا آخر، فإذا أنا بنفر
(1) فليعتبر نساء هذا العصر اللاتي يمنعن أطفالهنّ ألبان ثديهنّ، ويعمدن إلى القوارير المصطنعة لذلك، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم. اللهمّ؛ اهد عبادك للخير.