الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهلكت لنخسه وألقت
…
ذا بطنها والبرح منه لاقت
أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما
…
وأنصارنا بالمكّتين قليل
وأسلمنا أهل المدينة والهدى
…
إلى أهل مصر، والذليل ذليل
قصة هبّار بن الأسود رضي الله عنه:
وممّن أهدر دمه، ثمّ لاذ بالنبي المعظّم وفاز: هبّار بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشيّ الأسديّ، وهو المراد بقوله:(وناخس) بالجر، عطف على (ابن أبي سرح) أي: طاعن (البكر) بفتح الباء: هو الفتيّ من الإبل أي: طاعن الجمل (ببنت المصطفى) صلى الله عليه وسلم وهي زينب؛ فإنّه عرض لها حين هاجرت، وردها زوجها أبو العاصي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم على العهد الذي عهد إليه، فنخس بها الجمل حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها، وأهراقت الدماء، ولم تزل مريضة حتى ماتت سنة ثمان، كما قال:
(وهلكت لنخسه وألقت) بكسر تاء التّأنيث؛ للرويّ (ذا بطنها) أي: جنينها (والبرح منه) بالنصب معمول لقوله:
(لاقت) أي: ولاقت زينب من هبّار وأفعاله القبيحة البرح والشدة، والشر ممّا لا يليق بشرفها؛ فلذا أهدر عليه الصلاة والسلام دمه، وأمر بقتله، بعد أن أمر بحرقه، ثمّ رجع إلى قتله فقط، لكن تداركته العناية الرّبّانية، فأسلم وحسن إسلامه، وفي هذا يقول الناظم:
بحرقه أمر ثمّ رجعا
…
لقتله والنّار عنه دفعا
وبعد ما أشفى على الإحراق
…
تداركته رحمة الخلّاق
(بحرقه) يتعلّق بقوله: (أمر) أي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرق هبّار، فقال: «إن وجدتم هبارا..
فأحرقوه بالنار» ثم قال: «اقتلوه؛ فإنّه لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النار» .
(ثمّ رجعا) بألف الإطلاق، والضمير للنّبيّ صلى الله عليه وسلم (لقتله) أي: عن قتل هبار؛ أي رجع عن حرقه إلى قتله- ولو عبر بعن.. لكان أولى (والنار) بالنصب معمول ل (دفع)(عنه) يتعلق بقوله: (دفعا) أي: دفع عنه التعذيب لما ذكر.
(وبعد ما) هي مصدرية داخلة على الفعل الذي هو:
(أشفى) أي: أشرف (على الإحراق تداركته) أي: هبّارا (رحمة الخلّاق) فحبّب إليه الإسلام، فأسلم بعد الفتح، وحسن إسلامه، وصحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال في «شرح المواهب» : (أخرج الواقديّ عن جبير بن مطعم قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرّانة، فطلع هبّار، فقالوا:
يا رسول الله؛ هبّار بن الأسود، قال:«قد رأيته» فأراد رجل القيام إليه، فأشار إليه: أن اجلس، فوقف هبّار، فقال:
السلام عليك يا نبيّ الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله، وقد هربت منك في البلاد، وأردت
فحقن الله بالاسلام دمه
…
سبحانه من راحم ما أرحمه
اللّحاق بالأعاجم، ثمّ ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنّا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة، فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عني؛ فإنّي مقرّ بسوء فعلي، معترف بذنبي فقال صلى الله عليه وسلم:«قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله» ) .
(ف) من أجل ذلك (حقن) أي: منع (الله) تعالى رسوله (بالاسلام دمه) أن يسفك (سبحانه) تنزّه الله عن كل ما لا يليق به (من راحم ما أرحمه) !
قلت: ويشير بهذا إلى الحديث الصحيح، الذي رواه البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» واللفظ لمسلم، بسنده إلى عمر بن الخطاب، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السّبي تبتغي، إذ وجدت صبيا في السّبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال صلى الله عليه وسلم:«لله أرحم بعباده من هذه بولدها» .
وروى مسلم بسنده إلى سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء
أحنى وأرأف من الأمّ بنا
…
وهكذا رسوله كان لنا
والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة.. أكملها بهذه الرحمة» .
نسأل الله تعالى أن يشملنا برحمته الواسعة- فإنّا فقراء- منّا وفضلا، إنّ لله رحمة، وأحق الناس بالرحمة الضعفاء.
وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على سعة رحمة الله تعالى، وإذا كانت رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار، التي منها الإسلام والقرآن والصّلاة والرّحمة في قلبه، وغير ذلك ممّا أنعم الله به.. فكيف الظن بمئة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء؟!
(أحنى) من الحنوّ؛ أي: أعطف (وأرأف) من الرأفة، وهي أشد الرحمة، فعطفها من عطف الخاص على العام؛ أي: أكثر رحمة (من الأمّ) المشفقة (بنا وهكذا) أي: مثل هذا (رسوله) صلى الله عليه وسلم (كان لنا) قال الله تعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
ومن طالع أحواله وسيره ومعاملته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه والوافدين إليه من جهلة الأعراب والبوادي يقضي العجب من شفقة نبيّ الرحمة ورأفته، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وفرّحنا به في عرصات القيامة ويوم الجزاء بمنّه وكرمه، آمين.