الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فارتاع فانسلّ إذن عمّ النّبي
…
فالتقيا فجا به عن كثب
فزع أبي سفيان من جيش المسلمين:
وقد كان أبو سفيان يرتقب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوه مع قومه (فارتاع) أي: أصاب أبا سفيان الروع والخوف.
قال الشهاب: (ولم يبلغ قريشا مسيره، وهم مغتمّون خائفون من غزوه، فبعثوا أبا سفيان، فقالوا: إن لقيت محمّدا.. فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء- وقد أسلموا كلّهم رضي الله عنهم حتى أتوا مرّ الظهران، فلمّا رأوا العسكر.. أفزعهم) .
قصة إسلام أبي سفيان وما كان من العباس معه:
وفي «صحيح الإمام البخاري» : فإذا هم بنيران كأنّها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ والله لكأنّها نيران عرفة، فقال له بديل: نيران بني عمرو (أي: خزاعة) فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم، فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان؛ أي: انقاد إذ ذاك، وخضع لرسول الله عليه الصلاة والسلام (فانسلّ) بتشديد اللام؛ أي: فخرج (إذن) أي: حين رأى تلك النيران، وذلك الجيش العرموم العباس (عمّ النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذته الرقّة والشفقة لأهل مكة، حتى جاء الأراك لعلّه يجد بعض الحطّابة، أو ذا الحاجة، يخبر أهل مكة بمكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، قال العباس: فو الله؛ إنّي لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: مالك فداك أبي وأمّي، قال: قلت: والله: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فقال:
واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمّي؟ قال:
قلت: والله لئن ظفر بك.. ليضربنّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمنه لك، فركب خلفي ورجع صاحباه، وهذا هو المشار إليه بقول الناظم:
(فالتقيا) أي: العباس وأبو سفيان (فجا) بالقصر: لغة في (جاء) بالمد؛ أي: فجاء العباس (به) أي: بأبي سفيان وقد أردفه على عجز الدابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن كثب) بفتح الكاف والمثلثة؛ أي: عن قرب، وكان كلّما مرّ به العباس على نار من نيران المسلمين.. قالوا: من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته.
قال العباس: حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال:
من هذا؟ وقام إليّ، فلمّا رأى أبا سفيان على عجز الدابة..
قال: أبو سفيان عدوّ الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثمّ خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال:
يا رسول الله؛ هذا أبو سفيان، فدعني فلأضرب عنقه، قال:
قلت: يا رسول الله؛ إنّي قد أجرته، ثمّ جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلمّا أكثر عمر في شأنه.. قلت:
مهلا يا عمر، فو الله؛ لو كان من رجال بني عديّ بن كعب..
ما قلت مثل هذا، قال: مهلا يا عباس، فو الله؛ لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلّا أنّي قد عرفت أنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت.. فأتني به» فذهبت به، فلمّا أصبح.. غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال:«ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟» قال:
بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك! لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد، قال:
«ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك! أمّا والله هذه؛ فإنّ في النفس حتى الآن منها شيئا، فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحقّ، فأسلم.
قال العباس: قلت يا رسول الله؛ إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا «1» ، قال:«نعم، من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه.. فهو آمن، ومن دخل المسجد.. فهو آمن» .
ثمّ أمر العبّاس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الجبل، عند خطم الجبل؛ حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرّت القبائل على راياتها، كلّما مرّت قبيلة.. قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، قال: ما لي ولسليم، ثمّ تمر به القبيلة فيقول: يا عباس؛ من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة.. إلّا سألني عنها، فإذا أخبرته بهم.. قال: ما لي ولبني فلان، حتى مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد،
(1) قصد العباس بذلك تثبيت إسلام أبي سفيان؛ لئّلا يدخل عليه شيطان، بأنّه كان متبوعا فأصبح تابعا، ليس له من الأمر شيء، ولذا قال العباس: إنّه رجل يحب الفخر. اهـ
وإنّما قيل لها: الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، قال:
سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة!
وفي «صحيح البخاريّ» : أنّ كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب «1» - أي: عددا- وأكثرها إجلالا، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع الزّبير، فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل؛ لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، قال:
قلت: يا أبا سفيان، إنّها النبوة، قال: فنعم إذن، قال:
قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش؛ هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، فقامت إليه زوجه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت «2» الدّسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم! لا تغرنّكم هذه من أنفسكم؛ فإنّه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، قالوا: قاتلك الله،
(1) قال الحافظ اليعمري في «العيون» : (كذا وقع عند جميع الرواة- يعني بلفظ «أقل» - ورواه الحميدي في «كتابه» : «هي أجل الكتائب» وهو الأظهر) .
(2)
الحميت: الزق، أو وعاء السمن، والأحمس الذي لا خير فيه عنده. اهـ من «روض النهاة» .
وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه داره.. فهو آمن، ومن دخل المسجد.. فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
وذكر الطبريّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجّه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة، وقال:
من دخل دار حكيم.. فهو آمن، وهي بأسفل مكة، ومن دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، وهي بأعلى مكة، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة.
قال ابن إسحاق: (فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا انتهى إلى ذي طوى.. وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنّ رسول الله ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل) اهـ والعثنون:
اللحية.
وقال في «روض النّهاة» : (إنّ أبا سفيان قال لمّا احتمله العباس إلى قبته، فأصبح عنده، رأى الناس قد ثاروا إلى ظهورهم «1» .. فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل؛ ما للناس؟
أمروا فيّ بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة، فأمره العباس فتوضّأ، ثمّ انطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا دخل به عليه الصلاة والسلام في الصّلاة وكبّر،
(1) أي: إلى دوابهم؛ لأنّها كالظهر لهم. اهـ