الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضاقت الأرض بهم لرعبهم
…
وجهلوا كيف النّكاية بهم
واستنبؤوا أبا لبابة الخبر
…
فرقّ للعهد الّذي بهم غبر
الفرصة (في) القتال يوم (السبت إذ يأمنهم) بفتح الميم، من الأمن، وهو: الاطمئنان وسكون القلب، وفاعل (يأمن) قوله:(جيش العرمرم) أي: يسكن إليهم في يوم السبت الجيش الكثير من المسلمين، ويعتقدون أنّه لا يحدث فيه شيء؛ لما علموا من تعظيمنا له (ولا يأبنهم) يتهمهم بالخروج في السبت، وهو بتقديم الباء المفتوحة على النون.
وذكر هذه الأبيات في هذا الوضع هو الموافق لما ذكره ابن إسحاق، وفي بعض النسخ تقديم قوله: (أو يفتكوا
…
)
البيت، على قوله: (أو يحصدوا
…
) البيت.
(و) لما خيّرهم كعب بين الخلال الثلاث، ولم يأخذوا بواحدة منها.. (ضاقت الأرض بهم لرعبهم) وفزعهم، وقد أيقنوا بالهلاك (وجهلوا كيف النكاية) من المسلمين (بهم) أي: ببني قريظة،
والنكاية- بكسر النون-: ما يفعل بالعدوّ من قتل وجرح ونحوهما.
طلبهم أبا لبابة وقصته معهم، وتوبته رضي الله عنه:
(واستنبؤوا أبا لبابة) مبشر بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف من الأوس «1» رضي الله عنه، وتقدمت
(1) وقيل: اسمه رفاعه، وقيل: بشير.
أن جأرت في وجهه الصّبيان
…
واستعطفت رحمته النّسوان
ففتنوه وانتحى عن بلد
…
عصى به وشاط نحو المسجد
فقام فيه برهة مرتبطا
…
معذّبا لنفسه مورّطا
ترجمته (الخبر) وكانت قريظة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم، فلمّا رأوه.. قام إليه الرجال، وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه (فرقّ) لهم ورحمهم (للعهد الذي بهم غبر) أي: مضى، وكانوا حلفاء الأوس.
(أن جأرت) صاحت (في وجهه الصبيان) بكسر الصاد، وتضم (واستعطفت رحمته) طلبت العطف منه والرحمة (النّسوان) ولما سألوه وقالوا: يا أبا لبابة؛ أترى أن ننزل على حكم محمّد»
؟ قال: نعم- وأشار بيده إلى حلقه: أنّه الذّبح- قال أبو لبابة: فو الله؛ ما زالت قدماي من مكانهما..
حتى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(ففتنوه) أي: فبسبب ما ذكر أوقعوا أبا لبابة في الفتنة، فندم واسترجع (وانتحى) أي: ذهب إلى ناحية بعيدة (عن بلد عصى به) ربه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وشاط) جرى (نحو المسجد) النبويّ.
(فقام فيه برهة) زمنا طويلا (مرتبطا)«2» إلى عمود من
(1) أي: كما قال صلى الله عليه وسلم لشاس بن قيس الذي بعثوه إليه بأن ينزلوا على ما نزل بنو النضير، فأبى صلى الله عليه وسلم إلّا أن ينزلوا على حكمه.
(2)
وقيل: إن ارتباطه هذا كان بسبب تخلفه عن غزوة تبوك. راجع «العيون» وكتب التفسير في (سورة التوبة) .
عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت، أو يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وأعاهد الله ألّا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
وكان ارتباطه ست ليال على ما قاله ابن هشام، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع (معذّبا لنفسه مورّطا) أي: موقعا لها في الورطة والهلكة.
وقال ابن عبد البر: (روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله ابن أبي بكر: أنّ أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه وكاد يذهب بصره، فكانت ابنته تحلّه إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجته، فإذا فرغ.. أعادته) .
قلت: ولا مانع أن تأتيه امرأته مرة فتحله مدة ست ليال، وابنته مرة أخرى كذلك في باقي البضعة عشرة ليلة.
قال ابن هشام: (وأنزل الله في أبي لبابة- فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال: «أمّا إنّه لو جاءني.. لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل ما فعل.. فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» .
فتاب من هفوته الله عليه
…
وحلّه خير الأنام بيديه
قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم، في حرّ شديد عدّة ليال، لا آكل فيهنّ شيئا ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا؛ أو يتوب الله عليّ.
(فتاب من هفوته) أي: زلته (الله) عز وجل (عليه) أي:
على أبي لبابة، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو في بيت أم سلمة قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السّحر وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله؛ ممّ تضحك! أضحك الله سنّك، قال:«تيب على أبي لبابة» قلت: أفلا أبشّره يا رسول الله؟ قال:
«بلى، إن شئت» فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة؛ أبشر، فقد تاب الله عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله؛ حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلمّا مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح.. أطلقه كما قال:(وحلّه خير الأنام بيديه) .
قال الزّرقاني عن السّهيلي: (فإن قيل: إنّ الآية ليست نصّا في توبة الله عليه أكثر من قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ؟
فالجواب: أن «عسى» منه سبحانه واجبة، وخبر صدق.