الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثاني
أن يكون الربح لكل منهما جزءًا شائعا
كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب جهالة فيه فإنه يفسد الشركة
(1)
.
قال ابن تيمية: مبنى المشاركات على العدل، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلًا
(2)
.
[م-1368] تكلمنا في المبحث السابق عن اشتراط أن يكون الربح معلومًا، ولا يكفي ذلك بل يشترط أيضًا مع العلم به أن يكون جزءًا شائعًا، فالعلم بالربح شرط، وكونه شائعًا شرط آخر، فلا بد أن يكون المشروط لكل من المضارب ورب المال جزءًا شائعًا، نصفًا، أو ثلثًا، أو ربعًا.
ولا أعلم خلافًا في اعتبار هذا الشرط بين الفقهاء المتقدمين
(3)
.
قال الزيلعي: «لا تصح المضاربة إلا إذا كان الربح بينهما مشاعًا»
(4)
.
لأن الربح لا يمكن معرفته بالقدر؛ لأنه غير محتم الوجود، فإذا جهلت الأجزاء فسدت المضاربة كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلومًا به.
ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، وربما توانى في طلب الربح إذا حصل عليها لعدم فائدته فيه.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 288)، موسوعة القواعد والضوابط الفقهية للندوي (2/ 303).
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 508).
(3)
المبسوط (22/ 22)، بدائع الصنائع (6/ 85 - 86)، العناية شرح الهداية (8/ 448)، التاج والإكليل (5/ 358)، شرح ميارة (2/ 131)، الذخيرة (6/ 38)، المغني (5/ 23).
(4)
تبيين الحقائق (5/ 54).
وقد ظهر في هذا العصر من يقول: إن ذلك ليس بشرط، وأنه يجوز أن يكون الربح مقدارًا معلومًا مضمونًا، وكان الحامل على ذلك محاولة إباحة بعض المعاملات المعاصرة كأخذ الفوائد على الودائع الاستثمارية في البنوك الربوية، أو إباحة عوائد السندات الربوية وتخريج كل ذلك على المضاربة الفقهية، وقد اعتمدوا في إباحة ذلك على ثلاثة أمور.
الأمر الأول:
أن اشتراط أن يكون نصيب العامل مشاعًا كالنصف، أو الثلث، ليس عليه دليل من النصوص الشرعية، حيث لم يرد بشأن المضاربة نص من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية، وكل ما ورد بشأنها، إنما هو أقوال نقلت عن بعض الصحابة تدل بمجموعها على أن التعامل بالقراض كان معروفًا عند العرب حتى جاء الإسلام، وإذا كان الأمر كذلك، كانت هذه الشروط الاجتهادية، تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، وإذا كان الفقهاء قد اشترطوا أن يكون الربح مشاعًا كالنصف والثلث من أجل ألا يحرم أحد الطرفين من الربح في حال تحدد الجزء الذي يأخذه أحدهما، فإن هذه المشروعات (يعني أخذ الفوائد على الودائع الاستثمارية أو على السندات) مبنية على قواعد اقتصادية مضمونة النتائج، وما يأخذه صاحب المال من الربح بنسبة معينة من رأس المال قدر ضئيل بالنسبة لمجموع الربح الذي تدره المشروعات التي استثمرت فيها هذه الأموال، فكلا الطرفين استفاد، وانتفى الاستغلال والحرمان
(1)
.
وإذا كانت علة المنع من تحديد مقدار الربح، من أجل ألا يؤدي ذلك إلى حرمان الشريك من الربح في حال لم يزد الربح على ذلك القدر، لم يكن هذا
(1)
انظر معاملات البنوك وأحكامها الشرعية - لمحمد سيد طنطاوي (ص: 180 - 181)، المصارف والأعمال المصرفية لغريب الجمال (ص: 142)، المنفعة والقرض العمراني (ص: 518).
الشرط لازمًا؛ لأن الفقهاء قد جوزوا صورًا من التعاقد يكون ما يأتي من العامل من ربح ليس محلًا للمشاركة؛ «لأنه إذا جاز في رأي بعض الأئمة، أن يعطي المال لآخر يعمل به، على أن يكون الربح جميعه لرب المال، ولا شيء للعامل كما في المواضعة، وإذا جاز أيضًا أن يجعل الربح جميعه للعامل، دون أن يكون ضامنًا لرأس المال، ولا شيء منه لرب المال، وإذا جاز أن يكون الربح لأجنبي عن العقد، فأولى بالجواز: ما إذا جعل من الربح مبلغًا معينا لرب المال، والباقي منه للعامل إن وجد ربح، وإلا فلا شيء للعامل، ويكون العامل متبرعًا؛ لأن هذا ليس أسوأ حالًا، ولا وضعًا من اشتراط كل الربح لرب المال، أو لأجنبي، وذلك ما قام الاتفاق عليه، وما قصداه العاقدان من العقد»
(1)
.
الأمر الثاني:
أن تحديد الربح مقدمًا فيه منفعة للطرفين: فصاحب المال يعرف حقه معرفة خالية من الجهالة، وفيه منفعة للعامل لحمله على الجد والاجتهاد في عمله، حتى يحقق ما يزيد على النسبة المقررة لصاحب المال، والتحديد قد تم برضى الطرفين.
الأمر الثالث:
أن عدم التحديد في زماننا هذا الذي خربت فيه الذمم، قد يؤدي إلى ضياع نصيب رب المال؛ لأن العامل يستطيع أن يأكل ماله، وهو لا يدري
(2)
.
(1)
حكم شهادات الاستثمار - د. علي الخفيف بحث مقدم للمؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية (ص: 23).
(2)
انظر معاملات البنوك وأحكامها الشرعية - محمد سيد طنطاوي (ص: 131).
ويجاب عن هذا القول:
أما الجواب عن الفرق بين الودائع الاستثمارية في البنوك التقليدية وبين المضاربة فقد أوضحت ذلك في المجلد الثالث عشر مما يغني عن إعادته هنا.
وأما الجواب عن قولهم: بأن اشتراط أن يكون الربح معلومًا بالنسبة، وأن ذلك كان اجتهادًا من كلام الفقهاء لا دليل عليه، فيقال:
قد دلت السنة الصحيحة، والإجماع، والمعقول على اعتبار هذا الشرط.
(ح-902) أما السنة، فقد روى البخاري من حديث رافع بن خديج قال:
كنا أكثر أهل المدينة حقلًا، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(1)
.
وفي رواية لمسلم: «إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأقبال الجداول
(2)
، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به»
(3)
.
وجه الاستدلال:
إذا كان اشتراط ثمرة جزء معين من الأرض في عقد المزارعة منهيًا عنه؛ لأنه قد يؤدي إلى قطع الربح، وهو المعنى الذي ورد من أجله النهي، لقوله (فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك) فهل يقال: الظلم والجور ممنوع في شركة
(1)
البخاري (2332)، واللفظ له، ورواه مسلم (1547).
(2)
الماذيانات: الأنهار الكبار، وأقبال الجداول: الأنهار الصغار، انظر إحكام الأحكام (3/ 218).
(3)
مسلم (1547).
المزارعة، ومباح في شركة المضاربة، أو يجب أن يقال: بتحريم ذلك في المساقاة والمضاربة وسائر شركات العقود كما ورد تحريم ذلك في المزارعة حيث لا فرق
(1)
.
(2)
.
(3)
.
وأما من الإجماع، فقد قال ابن المنذر:«وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة»
(4)
.
قال ابن عبد البر: «لا أعلم خلافًا، أنه إذا اشترط العامل، أو رب المال على
(1)
انظر حكم الربا في الشريعة الإسلامية - الشيخ عبد الرحمن تاج (ص: 25).
(2)
مجموع الفتاوى (29/ 101)، وانظر القواعد النورانية (ص: 167).
(3)
مجموع الفتاوى (20/ 508).
(4)
الإجماع (ص: 124).
صاحبه شيئًا يختص به من الربح معلومًا دينارًا، أو درهما، أو نحو ذلك، ثم يكون الباقي في الربح بينهما نصفين، أو على ثلث، أو ربع، فإن ذلك لا يجوز
…
»
(1)
.
وأما من المعقول:
فإن في اشتراط دراهم معلومة، يحتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، ويحتمل ألا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءًا، وقد يربح كثيرًا فيستضر من شرط له نصيب معلوم، ولهذا قال الليث بن سعد:«إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أمر، لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز» قال ابن القيم تعليقًا: فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس
(2)
.
وأما قولهم: إن في تحديد الربح منفعة للعامل ولرب المال.
يقال جوابا على ذلك: إن الربا لا يخلو من منافع، ولكن إثم الربا وضرره أكبر من نفعه، وليس كل شيء يكون فيه نفع يكون مباحًا، حتى يغلب نفعه على ضرره.
وأما قولهم: يجوز تحديد الربح مقدمًا، قياسًا على جواز الإيضاع، حيث يكون الربح كله لرب المال، أو قياسًا على جواز اشتراطه لأجنبي.
فهذا من الخطأ، وبيان ذلك من وجوه:
أ - أن هذا قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار.
ب - لو صح ذلك لجاز أن يقال: في عقد القرض: إذا جاز أن يتبرع بربح جميع المال لغيره، جاز أن يتبرع بقدر محدد منه للمقرض، وهذا لا يقول به أحد.
(1)
الاستذكار (21/ 143)، وانظر المدونة (5/ 89)، الموطأ (2/ 690).
(2)
إعلام الموقعين (2/ 6).
ج - اشتراط الربح لأجنبي مختلف فيه، والجمهور على منعه، فلا يجوز الاعتراض بأمر مختلف فيه على أمر مجمع عليه.
د - لا يصح أن تقاس عقود المعاوضات على عقود التبرعات، وذلك أن عقود التبرعات يتسامح فيها ما لا يتسامح في عقود المعاوضات، حثًا للناس على التبرع، وترغيبًا لهم في ذلك، ألا ترى أن صورة القرض هي تمامًا صورة بيع النقد بالنقد نسيئة، لكن أبيح الأول؛ لأنه تبرع، ومنع الثاني؛ لأنه معاوضة، والغرر الكثير مؤثر في عقود المعاوضات بالاتفاق، أما في عقود التبرعات فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه غير مؤثر
(1)
.
* * *
(1)
انظر الخدمات الاستثمارية في المصارف (1/ 322).