الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العَسَلَ، وَاللَّبَنَ، وَأَنتُم تَسقُونَ النَّبِيذَ؟ أَمِن حَاجَةٍ بِكُم، أَم مِن بُخلٍ؟ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الحَمدُ لِلَّهِ! مَا بِنَا مِن حَاجَةٍ، وَلَا بُخلٍ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَخَلفَهُ أُسَامَةُ، فَاستَسقَى، فَأَتَينَاهُ بِإِنَاءٍ مِن نَبِيذٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى فَضلَهُ أُسَامَةَ، وَقَالَ: أَحسَنتُم، وَأَجمَلتُم كَذَا فَاصنَعُوا. وَلَا نُرِيدُ تَغيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد (1/ 369)، ومسلم (1316)، وأبو داود (2021).
* * *
(43) باب التصدق بلحوم الهدايا وجلودها وأجلتها والاشتراك فيها
[1170]
عَن عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَن أَقُومَ عَلَى بُدنِهِ، وَأَن أَتَصَدَّقَ بِلَحومِهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا،
ــ
وقوله: (كذا فاصنعوا)؛ إشارة إلى السِّقاية بالنبيذ. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التيسير عليهم، وتقليل الكلف، فإن الانتباذ يسير، قليل المؤنة؛ لكثرة التمر عندهم، وليس كذلك العسل، فإن في إحضاره كلفة، وفي ثمنه كثرة. والله تعالى أعلم.
(43)
ومن باب: التصدق بلحوم الهدايا وجلودها وأجلَّتها
البُدن: جمع بدنة، وهي العظيمة الجسم. ومنه: بَدُن الرجل، بدانةً؛ أي: كثر لحمه. وقد تقدَّم ذلك.
وَأَلَّا أُعطِيَ الجَزَّارَ مِنهَا قَالَ: نَحنُ نُعطِيهِ مِن عِندِنَا. . . وَفِي رِوَايَةٍ: في المساكين.
رواه أحمد (1/ 132)، والبخاري (1716)، ومسلم (1317)، وأبو داود (1769)، وابن ماجه (3099).
ــ
وأمره صلى الله عليه وسلم بالتصدق بلحوم البدن، وجلودها، وأجلتها؛ دليل: على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع؛ لأنه عطفها على اللحم وحكم لها بحكمه. وقد اتفق على أن لحمها لا يُباع، فكذلك الجلود والجلال. وكان ابن عمر يكسو جلالها الكعبة، فلما كسيت الكعبة تصدق بها، أخذًا منه بهذا الحديث. وممن صار إلى منع بيع جلودها عطاء، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق؛ وقالوا: يتصدق وينتفع بها. وروي عن ابن عمر؛ أنه قال: لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه. وروي هذا عن أحمد، وإسحاق. وكان أبو ثور يرخص في بيعه. وقال النخعي، والحكم: لا بأس أن يشتري به المنخل وشبهه.
وقوله: (ولا أعطي الجازر منها)؛ يدل على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها؛ لأن الجزار إذا عمل عمله استحق الأجرة على عمله، فإن دفع له شيء منها كان ذلك عوضًا على فعله، وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها، وهي الجزر. والجمهور: على أنه لا يعطى الجازر منها شيئًا، تمسُّكًا بالحديث. وكان الحسن البصري، وعبد الله بن عمير لا يريان بأسًا أن يعطى الجزار الجلد.
وقوله: (نحن نعطيه من عندنا)؛ مبالغة في سد الذريعة، وتحقيق للجهة التي تجب عليها أجرة الجازر؛ لأنه لما كان الهدي منفعته له تعينت أجرة التي تتم به تلك المنفعة عليه.
وفيه أبواب من الإجارة، وحكمها (1).
(1) في (ج) و (هـ) وأحكامها.
[1171]
وَعَن جَابِرَ قَالَ: اشتَرَكنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَجِّ، وَالعُمرَةِ كُلُّ سَبعَةٍ فِي بَدَنَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيُشتَرَكُ فِي البَدَنَةِ بمَا يُشتَرَكُ فِي الجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِن البُدنِ، وَحَضَرَ جَابِرٌ الحُدَيبِيَةَ قَالَ: نَحَرنَا يَومَئِذٍ سَبعِينَ بَدَنَةً، اشتَرَكنَا كُلُّ سَبعَةٍ فِي بَدَنَةٍ.
رواه أحمد (3/ 304)، ومسلم (1318)(353)، وأبو داود (2807 و 2808)، والنسائي (7/ 222).
ــ
وفيه دليل على تجليل البدن. وهو ما مضى عليه عمل السلف، ورآه أئمة العلماء: مالك، والشافعي، وغيرهما. وذلك بعد إشعار الهدي؛ لئلا تتلطَّخ الجلال. وهي على قدر سعة المهدي؛ لأنها تطوع غير لازم، ولا محدود. قال ابن حبيب: منهم من كان يُجلِّل الوشي، ومنهم من يُجلَّل الحبر (1)، والقباطي، والملاحف، والأُزُر. وتجليلها: ترفيه لها، وصيانة، وتعظيم لحرمات الله، ومباهاة على الأعداء من المخالفين، والمنافقين. قال مالك: وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط، وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب؛ لأنه كان (2) يُجلِّل الجلال المرتفعة من الأنماط، والبرود، والحِبَر. قال مالك: أما الحلل فتنزع لئلا يخرقها الشوك. قال: وأحب إلي إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقُّها، ولا يجللها حتى تغدو من عرفات. ولو كانت بالثمن اليسير فتشق من حيث يُحرم. وهذا في الإبل، والبقر دون الغنم.
وقول جابر: (اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة): مع: هذه متعلقة بمحذوف، تقديره: كائنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يكون متعلقًا به اشتركنا؛ لأنه كان يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا من سبعةٍ
(1) في (هـ): الخز.
(2)
زيادة من (هـ) و (ج).
[1172]
وعن أبي الزُّبَيرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَن حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَمَرَنَا إِذَا أَحلَلنَا أَن نُهدِيَ، وَيَجتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا فِي الهَدِيَّةِ وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُم أَن يَحِلُّوا مِن حَجِّهِم.
رواه مسلم (1319)(354).
ــ
يشتركون في بَدَنَة، وأنهم شاركوه في هديه. والنقل الصحيح بخلاف ذلك؛ كما تقدم في حديث جابر وغيره، وإنما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتمع السبعة في الهدية من بدنهم. وأحاديث جابر مُصرحة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك في الحديبية، وفي حجة الوداع. وبهذه الأحاديث تمسَّك الجمهور من السلف وغيرهم على جواز في الهدي. وممن قال بهذا ابن عمر، وأنس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وطاوس، وسالم، وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. قال: وقد روينا عن ابن عباس: أنه قال: البدنة عن سبعة، وإن تمتعوا. وبه قال عطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والثوري، والشافعي. قال: وقد روينا عن سعيد بن المسيب: أنه قال: تجزئ الجزور عن عشرة. وبه قال إسحاق.
قلتُ: وظاهر ما حكاه ابن المنذر: أنهم اشتركوا في الثمن، وأنهم سوّوا في ذلك بين الهدي الواجب والتطوّع، من غير تقييد، ولا تفصيل. قد فصل غيره الخلاف فقال: إن الشافعي يجيزه في الواجب، وإن كان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم يريد الفدية. وأبو حنيفة يجيزه إذا أراد جميعهم الفدية؛ حكاه الإمام أبو عبد الله، وقال: عندنا في التطوع قولان. قال ابن المنذر، وقال مالك: لا يشترك في شيء من الهدي، ولا من البدن، ولا النسك في الفدية، ولا في شيء مما ذكرناه.
قلت: وكأن هذا الذي صار إليه مالك مستنده قول الله تعالى: {فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ} وأقل ما يطلق عليه اسم الهدي شاة، ولم يقل فيه أحدٌ هو جزءٌ مُسمَّى من اللحم. وقوله تعالى:{فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ}
[1173]
وعَن جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالعُمرَةِ، وَنَذبَحُ البَقَرَةَ عَن سَبعَةٍ، نَشتَرِكُ فِيهَا.
رواه مسلم (1318)(355)، وأبو داود (2807)، والترمذي (904)، والنسائي (7/ 222).
ــ
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم النسك بشاة في حديث كعب بن عجرة (1)، فكان ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم، فكأن هو المتعيِّن، ولأنهم قد اتفقوا: على أنه لا يجوز في الهدايا المريض البيِّن المرض، ولا المعيب بنقص عضو. وإذا كان كذلك مع صدق الاسم عليه فأحرى وأولى ألا يجوز جزءٌ من اللحم. واعتذر عن حديث جابر: بأن ذلك كان في التطوع. وهو مستند أحد القولين المتقدمين، وليس بالمشهور عن مالك. وبأن تلك الأحاديث ليس فيها تصريح بالاشتراك في الثمن، فلعلَّه قصد التشريك في الثواب، أو التشريك في قسمة الجزور، حتى تقسم البدنة أو الجزور سبع قسم بين سبعة نَفَر. والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا جابر فقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، فإنه مشعر بأن التشريك إنما وقع بعد انفراد المهدي بالهدي، فتأمله.
وهذا الخلاف إنما هو في الإبل والبقر. وأما الغنم: فلا يجوز الاشتراك فيها اتفاقًا. وقد قدمنا أن اسم البدنة مأخوذ من البدانة. وهي عِظَم الجسم. وأن الجزور من الجزر، وهو: القطع. وأن الجزور من الإبل، والجزرة من الغنم. وقد فرق في حديث جابر بين البدن والجزور؛ لأنه أراد بالبدنة ما ابتدئ هديه عند الإحرام. وبالجزور ما اشتري بعد ذلك للنحر. فكأنه ظهر للسائل: أن شأن هذه، أخف في أمر الاشتراك مما أهدي من البدن. فأجابه بما معناه: أن الجزور لما اشتريت للنسك صار حكمها حكم البدن.
قلت: وقد سمعت من بعض مشايخنا: أن البدنة في هذا الحديث من الإبل.
(1) رواه أبو داود (1860).
[1174]
وعنه، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن عَائِشَةَ بَقَرَةً يَومَ النَّحرِ.
وفي رواية: نَحَرَ عَن نِسَائِهِ بَقرَةً فِي حِجَتِهِ.
رواه مسلم (1319)(356 و 357).
[1175]
وعَن زِيَادِ بنِ جُبَيرٍ، أَنَّ ابنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَنحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً، فَقَالَ: ابعَثهَا قِائمة مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ نَبِيِّكُم.
رواه البخاري (1713)، ومسلم (1320)، وأبو داود (1768).
* * *
ــ
والجزور فيه من البقر. وكأن السائل سأله عن البقرة؛ هل يشترك فيها سبعة؛ كما يشترك في البدنة؟ فقال: هي منها في الحكم المسؤول عنه. وكأن هذا السائل لم يسمع في هذا ذكر البقر، فسأل عنها، والله أعلم.
وقوله: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة)؛ هذا لأنها أردفت، كما قدَّمنا، والله تعالى أعلم. ويحتمل أن يكون تطوّع بها عنها.
وقوله في الرواية الأخرى: (نحر عن أزواجه بقرة)؛ أي: بقرة، بقرة عن كل واحدة؛ بدليل الرواية المتقدمة عن عائشة.
وقوله في الروايتين: (نحر وذبح)؛ دليل على جواز كل واحد منهما في البقر، وسيأتي.
وقوله: (ابعثها قائمة مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم)؛ أخذ به كافة العلماء، في استحباب ذلك. وبه فُسِّر قوله تعالى:{فَاذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيهَا صَوَافَّ} إلا أبا حنيفة، والثوري؛ فإنهما أجازا أن ينحرهما باركة وقيامًا. وشذ عطاء، فخالف، واستحب نحرها باركة معقولة. والحديث حجة عليهم.