الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنِّي لَأَرجُو أَن أَكُونَ أَخشَاكُم لِلَّهِ وَأَعلَمَكُم بِمَا أَتَّقِي.
رواه أحمد (6/ 67 و 156)، ومسلم (1110)، وأبو داود (2389).
* * *
(9) باب كفارة من أفطر متعمدا في رمضان
[979]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (وَمَا أَهلَكَكَ) قَالَ: وَقَعتُ عَلَى امرَأَتِي فِي
ــ
فذلك الحكم متروك عند جمهور العلماء بظاهر القرآن، وبصحيح الأحاديث. والخلاف فيه من قبيل الخلاف الشاذ المتقدم.
(9)
ومن باب: كفارة من أفطر متعمدًا في رمضان
(قول المجامع في رمضان: هلكت! احترقت! )؛ استدل به الجمهور على أنه كان متعمدًا، وقصروا الكفارة على المتعمد دون الناسي، وهو مشهور قول مالك وأصحابه. وذهب أحمد، وبعض أهل الظاهر، وعبد الملك، وابن حبيب: إلى إيجابها على الناسي. وروي ذلك عن عطاء ومالك متمسكين بترك استفسار النبي صلى الله عليه وسلم السائل، وإطلاق الفتيا مع هذا الاحتمال. وهذا كما قاله الشافعي في الأصول: ترك الاستفصال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال. وهذا ضعيف؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه ترك استفصاله لأنه قد تبين حاله، وهو: أنه كان عامدًا، كما يدل عليه ظاهر قوله:(هلكت! واحترقت).
رَمَضَانَ قَالَ: (هَل تَجِدُ مَا تُعتِقُ رَقَبَةً؟ ) قَالَ: لَا قَالَ: هَل تَستَطِيعُ أَن تَصُومَ شَهرَينِ مُتَتَابِعَينِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَل تَجِدُ مَا تُطعِمُ سِتِّينَ مِسكِينًا؟ قَالَ: لَا
ــ
وقوله: (هل تجد ما تعتق رقبة)، رقبة: نصب على البدل من (ما) الموصولة (1)، وهي مفعولة بتجد. وإطلاق الرقبة يقتضي جواز الكافرة، وهو مذهب أبي حنيفة، وجواز المعيبة، وهو مذهب داود، والجمهور على خلافهما؛ فإنهم شرطوا في إجزاء الرقبة بالإيمان، بدليل تقييدها به في كفارة القتل، وهي مسألة حمل المطلق على المقيد، المعروفة في الأصول، وبدليل: أن مقصود الشرع الأول بالعتق تخليص الرِّقاب من الرق؛ ليتفرغوا إلى عبادة الله، ولنصر المسلمين. وهذا المعنى مفقود في حق الكافر، وقد دلَّ على صحة هذا المعنى قوله في حديث السوداء:(أعتقها فإنها مؤمنة)(2).
وأما العيب: فنقص في المعنى وفي القيمة، فلا يجوز له؛ لأنه في معنى عتق الجزء كالثلث، والربع. وهو ممنوع بالاتفاق.
وقوله: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ ) تستطيع: تقوى وتقدر. والتتابع: التوالي. وهو حجة للجمهور في اشتراط التتابع في الكفارة على ابن أبي ليلى؛ إذ لم يشترطه.
وقوله: (فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا)؛ حجة للجمهور في اشتراط عدد الستين على الحسن؛ إذ قال: يطعم أربعين. وعلى أبي حنيفة؛ إذ يقول بجواز إعطاء طعام ستين مسكينًا لمسكين واحد. وهو أصله في هذا الباب.
(1) في (ع): الموصوفة.
(2)
رواه أحمد (5/ 448)، ومسلم (537)، والنسائي (3/ 14) من حديث معاوية بن الحكم السُّلَمي.
قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمرٌ، فَقَال: تَصَدَّق بِهَذَا قَالَ: على أَفقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَينَ لَابَتَيهَا أَهلُ بَيتٍ أَحوَجُ إِلَيهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
ــ
وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (اجلس)؛ انتظار منه لوجه يتخلص به مما حصل فيه، أو ليوحى إليه في ذلك.
وقوله: (فأتي النبي صلى الله عليه وسلم (1) بعرَق فيه تمر)؛ العرَق، بفتح الراء لا غير، وسُمِّي بذلك لأنه جمع عرقة، وهي الظفيرة من الخوص، وهو الزِّنبيل، بكسر الزاي على رواية الطبري، وبفتح الزاي لغيره، وهما صحيحان. وسُمِّي بذلك لأنه يحمل فيه الزبل، ذكره ابن دريد. وهذا العرق تقديره عندهم: خمسة عشر صاعًا، وهو مفسر في الحديث، وقد تقدَّم: أن الصاع أربعة أمداد. فيكون مبلغ أمداد العرق ستين مدًّا، ولهذا قال الجمهور: إن مقدار ما يدفع لكل مسكين من الستين مُدّ.
وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة، والثوري؛ إذ قالا: لا يجزئ أقل من نصف صاع لكل مسكين.
وقوله: (تصدَّق بهذا)؛ يلزم منه أن يكون قد ملكه إياه؛ ليتصدق به عن كفارته، ويكون هذا كقول القائل: أعتقت عبدي عن فلان، فإنه يتضمن سبقية الملك عند قوم. وأباه أصحابنا، مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق عنه، وأن الكفارة تسقط بذلك.
وقوله: (على أفقر منا؟ ) هو محذوف همزة الاستفهام. تقديره: أَعَلَى أفقر منا؟ والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أنتصدق به على أحدٍ أفقر منا؟ وقد جاء في طريق أخرى: بحذف على، والرواية فيه حينئذ بالنصب على إضمار الفعل: أتجد أفقر منا؟ وقد يجوز رفعه على خبر مبتدأ؛ أي: أأحدٌ أفقر منا؟ واللابتان: حرتا المدينة، وقد تقدم.
وضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجب من حاله، وسرعة
(1) ما بين حاصرتين من التلخيص.
حَتَّى بَدَت أَنيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذهَب فَأَطعِمهُ أَهلَكَ.
رواه أحمد (2/ 281)، والبخاري (2600)، ومسلم (1111)(81)، وأبو داود (2891).
ــ
قسمه، وإغيائه في ذلك.
والأنياب: جمع ناب، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا، وهي: أربعة.
وقوله: (اذهب فأطعمه أهلك)؛ تخيل قوم من هذا الكلام سقوط الكفارة عن هذا الرجل. فقالوا: هو خاص به. وليس فيه ما يدل على ذلك. بل نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين له ما يترتب على جنايته من الكفارة لزم الحكم، وتقرر في الذمِّة، ثم لما تبين من حال هذا: أنه عاجز عن الكفارة سقط عنه القيام بما لا يقدر عليه في تلك الحال، وبقي الحكم في الذمة على ما رتبه أولاً، فبقيت الكفارة عليه إلى أن يستطيع شيئًا من خصالها. وهذا مذهب الجمهور، وأئمة الفتوى. وقد ذهب الأوزاعي، وأحمد: إلى أن حكم من لم يجد الكفارة من سائر الناس سقوطها عنه. ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لقضاء ذلك اليوم، ولذلك قال بسقوط القضاء عنه طائفة من أهل العلم. وأنه ليس عليه إلا الكفارة.
والجمهور على لزوم القضاء مع الكفارة؛ إذ الصوم المطلوب منه لم يفعله، فهو باقٍ عليه، كالصلوات وغيرها إذا لم تُفعَل بشروطها.
ويتم النظر في هذا الحديث برسم مسائل اختلف فيها:
الأولى: إن هذه الكفارة هل هي على الجاني وحده؟ وهذا كما هو مذهب الجمهور. أو عنه وعن موطوءته؟ كما صار إليه الشافعي وأهل الظاهر. وليس في الحديث ما يدل على ذلك، لكن الحديث إنما تعرض للرَّجل، وسكت عن المرأة، فيؤخذ حكمها من دليل آخر. ولعله إنما سكت عنها؛ لأنها كانت غير صائمة؛ لأنها طهرت من حيضتها في أضعاف اليوم، أو كتابية.
وعلى الجملة: فحالها مجهول، ولا سبيل إلى التحكم بأنها كانت مكرهة، أو مختارة أو غير ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومشهور مذهب مالك في المكرهة: أن مكرهها يكفر عنها؛ لأنه هتكَ صومين بالنسبة إليها وإليه. فكأنه هتك يومين. قال سحنون: لا شيء عليه لها ولا عليها. وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، ولم يختلف المذهب في أن عليها القضاء.
المسألة الثانية: إن قوله: (هل تجد؟ ) وبعده: (فهل تستطيع؟ ) وبعده: (فهل تجد ما تطعم؟ ) ظاهر هذا: الترتيب في هذه الخصال. بدليل عطف الجمل بالفاء المرتبة المعقبة. وإليه ذهب الشافعي، والكوفيون، وابن حبيب من أصحابنا. وذهب مالك وأصحابه: إلى التخيير في ذلك، إلا أنه استحب الإطعام لشدَّة الحاجة إليه، وخصوصًا بالحجاز. واستدل أصحابنا لمذهبهم بحديث أبي هريرة الآتي بعد هذا، وهو: أنه قال: أفطر رجل في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا. فخيره بـ (أو) التي هي موضوعة للتخيير.
المسألة الثالثة: هذه الكفارة، هل هي خاصة بمن أفطر بالجماع؟ وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وجماعة من السَّلف، أو هل يلحق بذلك كل هاتك لصوم نهار رمضان بأي وجه كان من أكل، أو شرب، أو غيره؟ وهو مذهب مالك وجماعة. واستدل أصحابنا بحديث أبي هريرة الآتي، وبالنظر إلى المعنى. وتحقيقه في الفروع، وبسط ذلك في الفقه.
المسألة الرابعة: ذهب جمهورهم: إلى أن الكفارة ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث. وذهب الحسن وعطاء: إلى أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة. قال عطاء: أو بقرة. وتمسَّكوا بما رواه مالك في الموطأ من مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ )(1) قال: لا. قال: (فهل تستطيع أن تهدي بدنة؟ ) قال: لا (2). والصحيح: المسند من الأحاديث، وليس
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه مالك في الموطأ (1/ 297).
[980]
وعنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلاً أَفطَرَ فِي رَمَضَانَ أَن يُعتِقَ رَقَبَةً، أَو يَصُومَ شَهرَينِ، أَو يُطعِمَ سِتِّينَ مِسكِينًا.
رواه البخاري (6164)، ومسلم (1111)(84).
[981]
وعن عَائِشَةَ قالت: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسجِدِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! احتَرَقتُ احتَرَقتُ. فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأنُهُ؟ فَقَالَ: أَصَبتُ أَهلِي. قَالَ: تَصَدَّق. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا لِي شَيءٌ، وَمَا أَقدِرُ عَلَيهِ قَالَ: اجلِس فَجَلَسَ فَبَينَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ أَقبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا عَلَيهِ طَعَامٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَينَ المُحتَرِقُ آنِفًا؟ فَقَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ــ
فيه شيء من ذلك.
وقوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا)؛ هذا هو متمسك أصحابنا: على أن الكفارة معلقة على كل فطر قُصد به هتك الصيام، على ما تقدَّم.
ووجه استدلالهم: أنه علق الكفارة على من أفطر مجردًا عن القيود، فيلزم مطلقًا، وهذا على قول الشافعي في مسألة ترك الاستفصال. فإن قيل: فهذا الحديث هو الحديث الأول، والقضية واحدة فترد إليها، قلنا: لا نسلم. بل هما قضيتان مختلفتان؛ لأن مساقهما مختلف. وهذا هو الظاهر، والله تعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: (تصدق)، ولم يذكر غيره؛ دليل لمالك على اختياره الطعام. بل وظاهر هذا الحديث: الاقتصار عليه. وهو أيضًا ظاهر قول مالك في المدونة، فإنه قال: قلت: وكيف الكفارة في قول مالك؟ قال: الطعام، لا يعرف غير الطعام، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام.